الدكتور زهير الخويلدي
“لقد علمنا غرامشي، لأسباب هي في نفس الوقت فردية وتاريخية، أن الفيلسوف من النمط الديمقراطي لا يتصور شخصيته خارج المهمات التي توفرها له حركة التاريخ...”1
ينبع اهتمامنا بأنطونيو غرامشي، المفكر الايطالي اللامع وشهيد الفكر الملتزم، بعد مرور أكثر من سبعين عام من وفاته ( 1891-1937 )، من عدة دوافع ذاتية ويعود تركيزنا على فكرة الفيلسوف الديمقراطي من النقد الى البراكسيس عند مؤلف “دفاتر السجن” الى بعض الضرورات الموضوعية، أولا بالنسبة للدوافع الذاتية تختزل في ما يلي:
يمثل غرامشي بالنسبة الى أي فرد يهتم بقضايا مجتمعه وثقافته الأنا النموذجي المستبطن في اللاوعي والذي يتدخل في توجهاته وأفكاره، فكلنا استبطنا أيام الشباب قراراته النظرية الحاسمة حول المثقف العضوي والمجتمع المدني والكتلة التاريخية، والبعض منا يريد أن يكون مثقف عضوي يعيش في مجتمع مدني له الأولوية على المجتمع السياسي وجميعنا يتمنى تشكل كتلة تاريخية تمثل أرضية التقاء اتجاهات متعددة وتجسد مقولة التنوع في الوحدة.
- *الصورة المضيئة التي جسدها غرامشي عن العلاقة الأصيلة بين الفلسفة والثقافة اذ يمكن أن نعتبره نموذجا ينبغي أن يحتذى به أرسى ما سماه هو نفسه الفيلسوف الديمقراطي2 خاصة عندما رفض وجود فلسفة مطلقة واحدة واعتبر جميع الناس فلاسفة بمعنى معين وسعي الى إصلاح فلسفة الحسّ المشترك ودافع بشكل مستميت عن الإنسان مهما كانت هويته وأينما كان موطنه.
أما الدواعي الموضوعية فهي كثيرة ويمكن أن نتوقف عند البعض من محطاتها:
- * الاعتراض على اختزال فكر غرامشي في البعد السوسيولوجي من طرف البعض وإهمال البعد الفلسفي السياسي والاكتفاء بالحديث عن المثقف العضوي وإسقاط المصطلح الإجرائي اللامع حول الفيلسوف الديمقراطي/ démocratique Philosophe démocrate.
- *قراءته العقلانية للظاهرة الدينية وتوظيفه اللامع لكلام ماركس عن “صلابة المعتقدات الشعبية” وقوتها باعتبارها عقائد عضوية ضرورية تاريخيا وصحيحة نفسيا لأنها ّتتدخل في تنظيم الكتل البشرية وتشكل الأرض التي يتحرك عليها البشر ويعون مواقفهم ويناضلون”3، ولكون هذه المعتقدات من العناصر التي تتكون منها الثقافة الوطنية ويمكن توظيفها ثوريا من أجل بناء المشروع المجتمعي المستقبلي وتمييزها عن العقائد التحكمية التي تؤدي وظيفة رجعية وتخدم الطبقة المهيمنة وتقتصر مهمتها على اتاحة الفرصة لبروز حركات فردية ومجادلات عقيمة.
- *الانتباه الى إسقاط المترجم العربي ميخائيل إبراهيم مخول الذي نشر الكتاب ضمن سلسلة “أصول الفكر الاشتراكي” منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973 لبعض نصوص غرامشي حول علاقة الدين بالسياسة والثقافة وخاصة فصل الدلالة اليوطوبية للدين4 وفصل أخر حول “الحس السليم والأديان”5 وهواسقاط ربما يكون مبرمجا خدمة لأغراض ايديولوجية خاطئة.
- *إيمان غرامشي بقدرة المنتجين الأحرار من فلاسفة وفنانين وسياسيين على الفعل في الواقع والتغيير في التاريخ اذا ما قاموا بالوثبة الجدلية بين النظر والعمل واذا ما ربطتهم علاقات عضوية بمجتمعاتهم وأخلصوا لدورهم الطليعي في حياتهم النضالية. ان أهم الإشكاليات التي تناولها غرامشي من أجل توضيح موقفه النظري من قضايا عصره والتي دفع حياته ثمنها مبكرا نتيجة الإصرار الشمولي والترصد الفاشي هي التالية :
ماهي الروابط العضوية التي ينبغي أن تقوم بين الفيلسوف الديمقراطي والقضايا الجوهرية لمجتمعه؟ هل الفيلسوف الديمقراطي هو المثقف العضوي؟ فيما يتمثل النشاط النقدي للفيلسوف؟ كيف يعانق هذا النشاط درجة الخلق والإبداع؟ ما علاقة النظر بالعمل؟ هل النظر هو الذي يحد طبيعة البراكسيس أم أن ضرورة البراكسيس هي التي تحدد مضمون النظرية؟ كيف تتحقق الوثبة الجدلية؟ مما تتكون الكتلة التاريخية؟ ما هو الدور الذي تلعبه الثقافة الوطنية في ذلك؟ أي منزلة يحتلها الدين في هذه الثقافة؟ أليس من الضروري أن يناضل الفيلسوف الديمقراطي من أجل الإنسان في المطلق وأن ينتصر إلى حقوق الفرد ضد كل انسلاب داخل النزاعات الكليانية الجمعانية؟
ما نراهن عليه عندما نعالج هذه الإشكاليات هو الإقرار بأن الهوية اذا كانت مفروضة علينا في كل لحظة من تاريخنا الشخصي فان هذا التاريخ نحن الذي نصنعه وبالتالي نحن الذين نصنع الهوية التي تعبر عن إنسانيتنا شرط أن نتفهم طبيعة الكتلة التاريخية التي ننتمي إليها حتى تساعدنا على انماء شخصيتنا الإنسانية.
الفيلسوف الديمقراطي هو المثقف العضوي:
” لا نستطيع أن نتصور انسانا لا يكون فيلسوفا ولا يفكر لأن التفكير هو بالضبط خاصة الانسان من حيث هو انسان”6
ان طرافة هذا الطرح الذي أنوي صياغته عند الاقرار بوجود علاقة قرابة بين الفيلسوف الديمقراطي والمثقف العضوي لا تقتضي الاهتمام بالمثقف العضوي لأن ذلك دخل ضمن الأشياء المتداولة عند ساسة ومتفلسفة هذا الزمان بل يستوجب توضيح للمنزلة التي يتبوؤها مفهوم الفيلسوف الديمقراطي ضمن فلسفة غرامشي والغنم الذي يحصل لنا عندما نسدد النظر الى هذه الفلسفة من شرفة هذا المفهوم.
ان الذي يدعونا الى الاستغراب ليس الجمع بين الفلسفة والديمقراطية فذلك أمر بديهي طالما أن التفلسف فعل تواصلي ديمقراطي بين ذوات عاقلة ومستقلة وطالما أن الديمقراطية هي باراديغم ما انفك الفلسفة السياسية في كل عصر تبشر به باعتباره الوصفة السحرية التي يمكن أن تعالج البعض من الاعتلال الذي قد يطرأ على الفضاء العمومي. ان موطن الغرابة هو الحديث عن فيلسوف ديمقراطي يؤمن بحريات فردية خارج اطار الحزب والطبقة والنقابة في سياق يعتبر الديمقراطية السياسية هي نوع من لبرلة غير مبررة للمجتمع تخدم الطبقة المهيمنة وتخفف من حدة الصراع بين المضطهدين والمضطهدين وتسمح بديمقراطية مباشرة من نوع آخر هي ديمقراطية اجتماعية تؤمن بوحدة العقيدة الايديولوجية ولا تترك موطنا للتعدد والتنوع .
علاوة على ذلك يوجد نوع من الدور المنطقي أو حلقة مفرغة في العلاقة بين الثقافة والسياسة في فكر غرامشي تجعله قريبا من الضرورة وبعيدا عن الحرية تتمثل في ما يلي: من ناحية أولى ان الانسانية لا تطرح على نفسها مشاكل الا حيث تتوافر لها الشروط المادية اللازمة لحلها وفي المقابل ان التشكل الاجتماعي لا يزول قبل أن تبلغ القوى المنتجة التي ينطوي عليها غايتها من النمو وقبل أن تحل محلها علاقات انتاج جديدة أرقى منها، وقد يفهم من هذين القضيتين أن علاقة الفرد بالحتمية التاريخية هي علاقة انتظارية استسلامية تغيب عنها روح المبادرة والجرأة طالما أن الصيرورة المادية للتاريخ هي التي ستغير العلاقات بين البشر. فكيف يرد غرامشي على هذه الاعتراضات والمحاذير؟
غرامشي يحل هذا الاشكال عبر مجموعة من القرارات النظرية الحاسمة والتي يمكن أن نذكر منها ما يلي:
- *شخصية الفيلسوف الديمقراطي هي نتاج تاريخي لعلاقته الفاعلة مع المحيط الثقافي والاجتماعي الذي يعيش فيه، بعبارة أخرى يجب أن تكون هناك علاقة عضوية بين الفيلسوف ومجتمعه اذ لا نستطيع ان نتصور فيلسوف من النمط الديمقراطي يعيش في برج عاجي وينظر من فوق الى المجتمع بل يجب ان يلتحم بالناس ويكون ناطق رسمي باسمهم وضميرهم الانساني الحي وعقلهم اليقط فيشعر بما يشعرون ويحس بما يحسون.
- *لكن من جهة ثانية لا تقتصر مهمة الفيلسوف الديمقراطي على التأويل الجذري للواقع بل تتعدى ذلك نحو نقده نقدا مستمرا والعمل على تغييره ولن يتحقق له ذلك الا بتوفر حرية الفكر والتعبير التي تتوقف بدورها على وجود حريات سياسية.
- *الفيلسوف الحقيقي هو السياسي أي الشخص المنتج الحر الذي يبذل الجهد من أجل تبديل العلاقات المحيطة به وأيضا السياسي الحقيقي هو الذي يتعالى من جهة الحق عن منطق السيطرة والمنفعة ويلازم قيم الديمقراطية والمبادىء الكونية من جهة الواقع. ” حيث لا توجد هذه الحرية السياسية يتكون بصورة تاريخية نمط جديد من الفلاسفة يجوز أن يطلق عليهم اسم النمط الديمقراطي وهو الفيلسوف الذي يعتقد أن شخصيّته لا تقتصر على شخصه المادي بل تتضمن أيضا علاقة اجتماعية فاعلة تغير المحيط الثّقافي”7. نستخلص اذن أن ربط غرامشي بين الفيلسوف الديمقراطي والمثقف العضوي هو ربط منطقي ووجيه طالما أن الفلسفة في جوهرها هي روح الثقافة وطالما أن خلق ثقافة جديدة يستوجب الوقوف عند منعرج سياسي ديمقراطي، لكن ما المقصود بالمثقف العضوي؟ وبماذا يتميز المثقف التقليدي؟
يحدد غرامشي أنماط المثقفين من خلال ثلاثية أساسية هي المعرفة Le savoir والفهم le comprendre والإحساس le sentirويرى أن الإنسان الشعبي populaire يحس ولكنه لا يفهم أو لا يعرف دائما وأبدا أما الإنسان المثقف فهو يعرف ولكنه أو لا يحس دائما وأبدا. اذ يقول حول هذا الأمر: ” خطأ المثقف يتمثل في اعتقاده أنه يمكن أن يعرف دون أن يفهم وبالتحديد دون أن يحس ودون أن يكون متأثرا”8.
ان سبب تحول المثقف إلى مجرد متحذلق ومدعي معرفة وعارض لبضاعة pédant هو اختزاله لعلاقته بمجتمعه ودولته إلى مجرد علاقات بيروقراطية وصورية فارغة من كل فهم وإحساس. على هذا النحو تقتضي ايجاد روابط عضوية بين المثقف ومجتمعه توفير الإحساس والفهم إلى جانب المعرفة. وكمثال على ذلك يشير غرامشي إلى دوسفسكي الذي كان له إحساسا وطنيا عارما بقضايا شعبه وليس فقط من يعرف ويفهم وطنه.
من هذا المنطلق ينبغي أن يعبر المثقف عما يحس به الشّعب تعبيرا صادقا ،ولذلك يميز غرامشي بين المثقف التقليدي والمثقف العضوي وبين الفيلسوف الأخصائي والفيلسوف
الديمقراطي. فلماذا يعني هذا التفريق؟ وعلى أي أساس؟
يعتبر غرامشي تكون نمط المثقف التقليدي مشكلا تاريخيا لأنه يمثل حجرة عثرة أمام كل ثورة أو تغيير اجتماعي. لذلك يميز بين المثقف التقليدي المنحدر من أصول برجوازية صغيرة ريفية وبين المنحدر من أصول برجوازية صغيرة حضرية وينتهي إلى توسيع هذا المفهوم ليشمل كل المثقفين المرتبطين عضويا بطبقات منحلة أو في طور الانحلال والتي نمط لها إنتاج مختلف. عندئذ ” يسمى المثقف التقليدي دائما بالمقارنة مع الطبقة الرجعية”.9
هذا يعني أن ما يسمى الآن مثقف تقليدي كان في ما مضى مثقف عضوي بالنسبة للطبقة الاجتماعية المتفككة وهو الآن يلعب دورا محافظا ورجعيا في الصراع الاجتماعي الدائر بين الطبقات وتجعله يؤمن بالتواصل التاريخي والانسجام والتضامن.، فعندما “يوجه المثقفون التقليديون الدولة فان الميل نحو تنمية الدولة يتقوى بشكل معتبر”.10
رغم أن الثقافة تدرج ضمن البنية الفوقية إلا أنه يؤكد على ضرورة أن يلعب المثقفون دورا في بناء الكتلة التاريخية وفي تكوين اللحمة العضوية بينها ويرى أنهم يمثلون كتلة ثقافية تعمل على إيجاد صلة عضوية بين البنية التحتية والبنية الفوقية. انه لا توجد طبقة مستقلة من المثقفين بل كل مجموعة اجتماعية تمتلك النخبة المثقفة الخاصة بها. في هذا المستوى “يعرف المثقف من خلال المكانة والوظيفة التي يحتلها في مجمل العلاقات الاجتماعية”.11
من البين اذن أن المثقف ليس عضوا في طبقة بل هو المعبر عن هذه الطبقة لذلك ينبغي أن يحسن التعبير عن مشاغل وتحديات وآفاق طبقته ، وهو المخول أكثر من غيره بشرح وتبليغ الرسالة الفكرية البديلة للمجتمع المدني ضد تسلط الطبقة المهيمنة أو ضد الرسالة الفكرية (الإيديولوجية) للمجتمع السياسي.
يرى غرامشي أن “الماركسية أصبحت لحظة من لحظات الثقافة الحديثة” وهي على الرجة العظيمة التي أحدثتها ليست تصورا مكتملا للعالم ولكنها لا تزال محتاجة إلى إعادة الإنشاء، فماركس عنده ليس فيلسوفا فحسب بل هو أيضا رجل ثوري يستعيض عن التأمل المجرد بالبراكسيس” بما معناها أنه:” لم يبقى من المادية القديمة سوى الواقعيّة الفلسفيّة”.
على هذا النحو يتمتع المثقف باستقلالية ذاتية ناتجة عن انخراطه في تجربة فكرية – ثقافية من أجل الوعي بالذات Auto conscience وممارسته للنقد الذاتي بشكل مستمر Autocritique ،فالمثقف “يكون مستقلا بالمقارنة مع الطبقة الأساسية بما أنه لا يساهم بنفس القدر في تطوير الكتلة التاريخية بالمقارنة مع غيره، إذ تكون وظيفته القيام بالتوجيه الإيديولوجي لنظام اجتماعي ومجانسة الطبقة التي يمثلها”.12
من البين أن العلاقة بين المثقفين والبيئة الثقافية ليست علاقة مباشرة كما أن القيام بعملية قلب للكتلة التاريخية تقتضي انتصار الكتلة الثقافية الناشئة على الكتلة الثقافية المحافظة التي تخدم النظام التسلطي القديم. غير أن الحديث عن استقلالية المثقفين هو علامة ضعف بالنسبة للمثقفين العضويين لأنه من الضروري أن يكونوا مندمجين وتربطهم صلة عضوية مع مجتمعهم. “فالمثقفون الريفيون هم في معظمهم تقليديون …بيد أن المثقفين التقليديين يكونون أيضا شرائح اجتماعية متجانسة ومنظمة في طبقات تعمل على توجيه المجتمع المدني للكتلة التاريخية القديمة”.13
إن الصراع يدور بين المثقفين التقليديين الذين يدافعون عن نظام الهيمنة السائد hégémonie والمثقفين العضويين الذين يعبرون عن رغبة الكتلة التاريخية الجديد في البروز والتشكل. ان المثقفين يمكن أن يصنفوا على أساس كيفي وخاصة الذين يعبرون عن الطبقة المهيمنة وعن الطبقة الناشئة وليس على أساس التمييز التقليدي بين العمل العضلي والعمل الذهني. في هذا السياق يقول: “في الواقع ليس المثقف الريفي اذن المثقف العضوي للقوة الريفية بل بالأحرى هو مثقف الطبقة المهيمنة…”14. من أجل ذلك يميز غرامشي بين المبدع créateur والمنسق orgnisateur والمربي éducateur ويرى أن المثقف العضوي هو القادر على إيداع تصورات جديدة عن العالم في العلم والفلسفة والفن والقانون. “ان هذا التمييز بين المبدع والمنسق ليس تمييزا تحليليا محضا بل هو غني بالنتائج الإستراتيجية”.15
يرى غرامشي أن المثقفين يمكن أن يتحولوا الى فئة منسقة للقهر الذي تفرضه الطبقة المهيمنة على الطبقات الأخرى، ويرى أيضا أن الطبقة العاملة يمكن أن تفرز مثقفين عضويين تتمثل مهمتهم في الحد من هذه الهيمنة (تسلط /سيطرة/ هيمنة hégémonie ) وذلك بالبحث عن طرق ديمقراطية لمراقبة ومحاسبة أجهزة الدولة. عندئذ إذا أعتبر المثقفون الجدد أنفسهم من سلالة الأنتيلجنسيا السابقة فإنهم لن يضيفوا شيئا لكونهم غير مرتبطين بالمجموعة الاجتماعية التي تعبر عن الوضعية التاريخية الجديدة. “ان المثقفين هم أيضا القائمون بوظيفة التسلط التي تمارسها الطبقة المهيمنة في المجتمع المدني وهم الذين يشتغلون في مختلف التنظيمات الثقافية …”16
يماهي غرامشي بين شخصية المثقف العضوي ونمط الفيلسوف الديمقراطي ويرفض القول بالحتميّة التاريخية والنزعة الدّغمائية في التقسيم بين المثاليين والواقعيين في الفلسفة ويبحث عن سؤال الوجود في الماركسية لينحت مفهوم التاريخية ويرى أن هذه الفلسفة تظل في حاجة إلى بلورة وإصلاح ومراجعة ويطرح الإشكال حول وظيفة هذه الفلسفة التاريخية كما يلي:
هل تعمل النخبة الفلسفية على تنمية ثقافة متخصصة متوجهة الى شريحة ضيّقة من أهل الفكر أم أنها تنطلق من الحس المشترك لتعد لفكر أرفع يعبر عن مشاكل الجمهور؟
من الواضح أن الفلسفة الحيّة لم تكن في يوم من الأيام الميتافيزيقا أو النظريات الفكرية المغلقة بل هي التاريخ الذي يعبر عن نفسه تعبيرا ثوريا ،وهي أيضا النظريات التي تحمل طابع التاريخ وتتضمن عناصر عقلية ذات طابع فردي.
نستخلص من هذا النص أن الحرية السياسية هي شرط إمكان حاسم لظهور الفيلسوف الديمقراطي وأن هذا الفيلسوف مطالب بالدفاع على هذا الشرط ان توفر وخوض معركة الحريات في مجتمعه من أجل استنباته وتشييده وذلك بتجاوز النزعة الأنانية والمصلحة الشخصية وتكريس حيّاته من أجل الشأن العام وتتجاوز حالة الانفعال والسلبية في علاقة بالمجموعة. إن الفيلسوف الديمقراطي هو مجرد تلميذ يتدرب والمحيط الثقافي الذي يعيش فيه هو المعلم الذي يلهمه المادة التي ينبغي عليه إعادة تشكيلها أي مجال العمل الذي يستخرج منه هذا الفيلسوف المسائل والعمل على معالجتها ومحاولة حلها.
في الواقع هناك علاقة تواشج بين الفلسفة والديمقراطية تتمثل في كون الديمقراطية هي الأرضية التي يترعرع فيها التفكير الفلسفي وينمو وهي القيمة الكونية الكبرى التي يناضل جميع الفلاسفة من أجل زرع نبتتها في واقعهم الحضاري. لا يزعم الفيلسوف أنه يمتلك الحقيقة لأنها هي نفسها ليست تأملا موجودا بشكل مسبق بل إبداع إنساني يعول فيه على قيمة العقل البشري من خلال علاقة جدلية بواقعه المادي. ويختلف شخصيتنا عن الفيلسوف المحترف الاختصاصي الذي يعتني بالمعرفة كعامل فني أو مهندس في دنيا العمل . في نهاية المطاف انه لا يدعي التمتع بالتفكير الذاتي الحر بصورة مجرّدة ولا يرى نفسه متميزا عن الشعب بالمعرفة ومنقطعا عن الطبقة بالدرجة بل هو لا يكون مفكرا حقيقيا إلا إذا أقام روابط عضوية بينه وبين بيئته الثقافيّة والاجتماعيّة،انه باختصار مثقف رسالي تغييري. فماهو الدور الذي ينبغي أن يلعبه هذا الفيلسوف الديمقراطي في لحظته التاريخية؟
نشاط الفيلسوف النّقدي والإبداعي:
” إن الشخصية التاريخية لفيلسوف فردي ناتجة أيضا عن علاقته الفاعلة بالمحيط الثّقافي الذي يريد أن يغيره ولكن هذا المحيط يغير بدوره في الفيلسوف ومادام يرغمه على نقد ذاته نقدا مستمرا فهو يلعب بالقياس إليه دور المعلم…”17
هل نقد غرامشي بالفعل بشكل مبكر النص الماركسي والتجربة السياسية الاشتراكية؟ وبأي معنى نفهم تحدثه عن المادية المبتذلة وعن الماركسية بوصفها صورة كاريكاتورية ودغمائية واعتراضه على الجدلية الميكانيكية؟ والى أي مدى يمكن أن نعتبره قد أعاد التفكير في أدوار كل من لينين وستالين في الفكر اليساري مبكرا وفتح الباب لميلاد مدارس نقدية في الثقافة الغربية على غرار مدرسة فرانكفورت وغيرها؟
غرامشي فيلسوف ناقد حدد خطته بلزومية الانتقال من نقد الفلسفة العفوية التي تتكون من اللغة والفطرة السليمة والديانة الشعبية بغية تأسيس فلسفية نقدية تسمح للانسان بأن يعرف نفسه على نحو تاريخي، والنقد عنده خطة متكاملة تخرج من نسق المعرفة لتشمل قيم الوجود وتقتحم الميدان الاجتماعي برمته، صحيح أنها تبدأ بالذات أولا ولكنها ما تلبث أن تتوجه نحو الآخر ثانيا، فهو قد نقد النص الماركسي ودعا إلى تجديده ومراجعته وإصلاحه حتى يواكب الأطر التي يعبر عنها ويعكس الواقع الخصوصي الذي يريد أن ينطبق عليه وخاصة الواقع الاجتماعي الايطالي الذي يضم مؤسسة الفاتيكان الدينية ويشهد تفاوت في التنمية بين جنوب فقير وشمال غني. في هذا الاطار يقول:” لا أحد يستطيع أن يكون فيلسوفا أي صاحب تصور للعالم متماسك بصورة نقدية، الا اذا وعى تاريخيته ووعى مرحلة التطور التي يمثلها هذا الواقع التاريخي، هذا الى جانب وعيه للتناقض بين هذا التصور والتصورات الأخرى أو بينه وبين بعض عناصرها”.18
كما لا ينبغي أن ننسى أن غرامشي نقد الحضارة الغربية وكشف عن هيمنة hégémonie الثقافة الامبريالية على بقية الثقافات والشعوب العالميّة في إطار خطة استغلالية استعمارية تقوم على فكرة التوسع والسيطرة على المجال الحيوي في إطار تقسيم عالمي للعمل غير عادل وبهدف الوصول الى الموارد الأولية واحتكار الأسواق وجلب اليد العاملة الرخيصة.
يقول حول عمل المثقف العضوي النقدي الاجتماعي:”ان المثقف العضوي للطبقة العاملة لا يمكن أن يرضى أن يكون على نفس خط المثقف القديم بل ينبغي أن ينفيه ويمثل بالنسبة اليه نقطة قطيعة”19.
عندئذ نستنتج أن النقد عنده انصب حول نقد التبعية ونقد التمركز على الذات ونقد ادعاء التفوق وتوجه نحو المناداة بالعدالة والمساواة والحرية لكل البشر على أسس واحدة ومتماهية إذ يقول في هذا السياق:” حتى وان أقررنا أن الثقافات الأخرى لها قيمة ودلالة في مسار التوحيد التفاضلي للحضارة العالمية فإنها تمتلك قيمة كونية من حيث أصبحت عناصر تكوينية للثقافة الأوربية وهي الثقافة الوحيدة الكونية تاريخيا وعينيا ومن حيث أنها أدت الى تطور الفكر الأوربي ووقع استيعابها من طرفه.”20
من جهة ثانية يطبق غرامشي تقنية التفكير Technique de la pensée كتجربة نقدية للفكر الوضعي ويعرف هذه التقنية بأنها رصد حركة الفكر أو دفع الفكر نحو الحركة ويحذر من خطأ تصور عمل الفكر مثل تصور اشتغال الآلة لأن صورة الآلة ينتج عنه التعامل مع الفكر كوسيلة لإنتاج المعرفة بينما الفكر هو أرقى من ذلك بكثير لأنه يعبر عن ميزة الانسان ولأنه يرمز الى مملكة الغايات والكرامة الانسانية. اذ يقول هنا:” ينبغي أن نلاحظ بالفعل أهمية تقنية الفكر في بلورة برامج تعليمية بحيث لا يجوز المقارنة بالنسبة للمرء بين تقنية الفكر والجدليات القديمة.فهذه الأخيرة لا تخلق معايير من أجل الحكم على الجمال بل تصلح فقط لخلق امتثالية ثقافية conformisme culturelle “.21
ان تقنية الفكر لا تخلق بكل تأكيد فلسفات كبرى ولكنها تعطي للمرء المعايير التي يحتاجها للحكم على الأشياء ولتقويم سلوك الأشخاص تقويما موضوعيا بعيد عن التحيز والذاتيات الفارغة كما أنها تصلح الأخطاء التي يقع فيها الفكر نتيجة تأثره بالحس المشترك”. إن النقد عند غرامشي هو catharsis أي تطهر من الامتثالية الثقافية وتهذب من داء التطابق والهوية الفارغة وتنظيف purgation وpurification من الأناوحدية والمركزية الذاتية. وكل كتب غرامشي ورسائله هي مناجم تنقيب وورشات عمل نقدية لأن ” دفاتر السجن هي من هذه الناحيّة ميدان عمل فلسفي ضخم قام فيه غرامشي بعمل جذري هادما كل ما وجب هدمه بمناظرات جادة وهادئة مستخرجا أو بانيا أساسات الصرح الجديد…ان هذا النهج الجذري في النقد الذي تولدت منه منهجيّة عضوية لنهج يثير الإعجاب”.22
إن النقد بما هو Catharsis يعبر عنه غرامشي على النحو التالي:” يمكن أن نستعمل حد كاتارسيس للإشارة الى مجرد المرور من لحظة اقتصادية ( أو أنانية انفعالية) الى لحظة اتيقية سياسية، بمعنى البلورة العليا للبنية التحتية في البنية الفوقية لوعي الناس. وهذا يعني المرور من الموضوعي الى الذاتي ومن الضرورة الى الحرية. والبنية التحتية للقوة الخارجية التي تحطم الانسان تتحول الى وسيلة للحرية والى آلة من أجل خلق شكل اتيقي سياسي جديد وتكوينية لمحاولات جديدة…”23
تظهر الفاعلية النقدية في رفض غرامشي للغة اسبيرانتو والأكليشيهات إذ يقول في هذا السيّاق: ” بالأحرى لا ينبغي أن نعتقد أن صورة الفكر المضاد للاسبيرانتو قد تعني الريبية أو اللاأدرية أو الانتقائية بل انه من اليقيني أن كل صورة للفكر ينبغي أن تعتبر كصورة مضبوطة وصادقة وتواجه كل الصور الأخرى ولكن بطريقة نقدية. ان المسألة هي اذن مسألة جرعة من النقدية والتاريخية متضمنة في كل صورة للفكر “.24
ينقد غرامشي الفلسفة الوضعية والمقاربة السيكولوجية السوسيولوجية التي تحكم أخلاقيا ونفسيّا على حدث تاريخي معين وعلى صورة الفكر بينما هي في الواقع صورة نقدية تاريخية تخضع للصيرورة متخلية عن كل وهم تأملي ومرتبطة بالممارسة لأن فلسفة البراكسيس هي القادرة على التسلح بالمنهجية التاريخية التي تسمح أكثر من غيرها بالالتحام والانخراط في الواقع والحقيقة.
ان النقد على المستوى الثقافي عند غرامشي ينصف الخصم الفكري ويحاول أن يفهمه قبل أن يحكم عليه وينفتح أيضا على الغيرية ويلتقي بالآخر وهذه الفعالية نراها حاضرة كمصطلح في المجال الفني والعلمي والأدبي فقد بحث هذا المفكر طويلا عن ايجاد خصائص واضحة للنقد الأدبي الموّجهة ضد الروايات الشّعبية والبوليسية والعلمية – الجغرافية من أجل إبداع تصور لحضارة جديدة غير امبريالية. يقول في هذا السياق حول وعي الفيلسوف الناقد بالتاريخيته التي تخصه:” لا يمكن أن نفصل بين فلسفة تاريخ الفلسفة والثقافة. لأنه بالمعنى الأكثر مباشرة والأكثر محايثة للواقع لا يمكن للمرء أن يصبح فيلسوفا أي يمتلك تصورا نقديا متساوقا للعالم دون أن يمتلك وعيا بتاريخيته وبمرحلة التطور التي تمثلها هذه التاريخية.”25
إن صورة الفيلسوف عند غرامشي هي الديمقراطي الناقد والمبدع لأن الفلسفة عنده هي نقد وإبداع أو لنقل نقد إبداعي و إبداع نقدي. وملكة النقد عنده موجهة ضد التصور الدغمائي للماركسية والماركسية المبتذلة التي تشجع على نوع من التعصب والنصية التي لا تختلف كثيرا عن النصية الماضوية وهي أيضا مسددة ضد الميكانيكية الطبيعية والحتميّة التاريخية من خلال الاعتراف بالإرادة الذكيّة والجدليّة التاريخية ومن خلال الإقرار بأن التوقع ليس حركة معرفة بل ضرب من الميتافيزيقا لأنه يوجد فرق بين عالم الطبيعة وعالم التاريخ ولأن الفلسفة النقدية تكتفي باستشراف مجموعة من الأفاق العقلانيّة.” ان نقطة الانطلاق البلورة النقدية هو الوعي بما نكون عليه في الواقع بمعنى اعرف نفسك بنفسك من جهة كونك نتاج مسار تاريخي والذي هو الى حد الآن بصدد الحدوث. وهذا المسار قد ترك فيك عدد لامتناهي من الآثار…”26 من البين اذن أن غرامشي يمارس نوع من النقد المنهجي ضد الحس المشترك ليس من أجل تصفيته وتحطيمه بل من أجل الارتقاء به نحو مستوى المعرفة الموضوعيّة لأنه يعتبره الإطار الأنسب للالتزام السياسي الذي ينبغي أن ينخرط فيه الفيلسوف الناقد.
اللافت للنظر أن النقد عند غرامشي يبلغ أوجه عندما يقر أن الماركسية وقعت في مجموعة من الأخطاء أهمها النظرة الاقتصادية Economiste مع الأممية الثانية أي رد كل العوامل والأحداث والتغيرات إلى البعد الاقتصادي وكذلك مع النظرة الإيديولوجية التي تؤمن بحتمية الثورة كقانون تاريخي لا يختلف في جوهره عن القانون الطبيعي الذي يحكم حركة الأشياء.
يضيف غرامشي ليتجاوز هذه النظرة الضيقة خاصية الإبداع الى خاصية النقد في المجال الفلسفي وبالتالي يعتبر الفلسفة فعالية نقدية إبداعية بامتياز إذ يقول حول هذا الموضوع:”ما الفلسفة؟ هل أنها مجرد نشاط قبولي أو في جملتها تنظيمي أم أنها نشاط إبداعي بشكل مطلق؟”.27
يرفض غرامشي أن تكون الفلسفة مجرد نشاط امتثالي قبولي réceptive أو ترتيبي لأن ذلك يتضمن اليقين بعالم أزلي لا يتبدل مطلقا له وجود عام موضوعي ويرتبط بنشاط فكري محدود وضيّق. وينقد كل فكر يقع في الأناوحدية solipsisme والمثالية والتصورات الميكانيكية لأن هذه التصورات تحول الفكر الى مجرد نشاط قبولي ترتيبي. لكن اذا كانت الفلسفة الكلاسيكية الألمانية أخذت الإبداعية بمعنى مثالي تأملي فان غرامشي يفهم لفظ إبداعي بالمعنى النسبي أي أن الفكر عنده يضطلع بمهمة تغيير كيفية الإحساس عند العدد الأكبر من الناس ويهتم بوجودهم العيني ليعكس وضعيتهم المادية.
ان الفلسفة تكون إبداعية عندما تعلم الناس أنه لا توجد حقيقة واقعية قائمة لذاتها وفي ذاتها وإنما توجد حقيقة واقعيّة على صلة تاريخية بهم يرتكزون عليها في مشروعهم التغييري. ويظهر النقد والإبداعية الفلسفية عند غرامشي لما يميز بين اللحظة السياسية واللحظة العسكرية واللحظة الثقافية،إذ يرى أن اللحظة السياسية هي المرور من البنية التحتية إلى البنية الفوقية عبر تحول الدولة إلى جهاز هيمنة hégémonie يخدم مصالح الطبقة المسيطرة. أما اللحظة العسكرية وهي تجل لعلاقات القوى على المسرح التاريخي. في حين أن اللحظة الثقافيّة هي الصراع بين المثقفين التقليدين والمثقفين العضويين غالبا ما تنتهي بتكون كتلة ثقافيّة تعبر عن تطلعات الطبقة الناشئة.
الابداع في نقد غرامشي “للدين” :
هل تتمثل مهمة الفيلسوف الديمقراطي في مقاومة النزعة الإيمانيّة (الاعتقاد) والضياع الديني (الإلحاد) في الآن نفسه؟ ماذا يقصد غرامشي بكلمة الروح عندما قال:”لا يمكن الكلام على الروح في مجتمع منقسم الى فئات دون استنتاج ضروري”؟ وهو يرى أن المقصود بذلك هنا هو روح الكتل الاجتماعية “أما بعد تحقيق وحدة المجتمع فيمكن الكلام على الروح ( في اطمئنان)”28.
هذا الكلام هام ويـثير العديد من النقاط خاصة حول قضية المادة بماهي مبدأ فلسفة غرامشي فها نحن نراه هنا يصل الى مبدا آخر هو الروح في ظل محتمع لاطبقي.فالى أي مدى يستقيم هذا الكلام؟
يطرح غرامشي سؤال مهم آخر هو: هل يجب على انسان الشعب أن يبدل معتقداته اذا كان لا يعرف كيف يدافع عن موقفه في النقاش؟ والجواب عنده هو أن تعمل فلسفته على رفع المستوى الفكري للجمهور واصلاح فلسفة الطبقات الشعبية وتكوين حس سليم يتصف بالقدرة على الاقناع والتأثير.
لذلك هو يحاول هنا أن يصلح الكاثولوكية وخاصة اصلاح تصورها للانسان الذي تضع في فرديته سبب الشر.فكيف تمكن من نظرة الى الدين نظرة ايجابية في ظل اخضاعه الى النقد ومناداته بعلمنته وفي ظل دعوته الى توظيفه اجتماعيا طالما أنه يمتلك قيمة سياسية وليس قيمة فلسفية؟
ان النص الذي سأقوم باستنطاقه والذي لم يترجم الى العربية الى حد علمي هو الذي ذكره جان تاكسيه في صفحة 108من كتابه والمعنون ب”الحس المشترك والأديان” والذي ذكر فيه غرامشي أن العناصر الأساسية التي يتكون منها الحس المشترك هي الأديان أكثر من النسق الفلسفي للمفكرين ودعا الى التمييز النقدي بينها ورأى كل دين بما في ذلك الكاثوليكية يمكن أن يتشعب الى عدد غير محدود من الأديان المتميزة والمتعارضة أحيانا، اذ هناك كاثولكية الفلاحين وكاثوليكية البرجوازية الصغيرة وعمال المدن وهناك كاثوليكية النساء وكاثوليكية المفكرين وهي خليط من اتجهات ونزعات متعددة وتفتقد الى الوحدة. غير أن أنواع الكاثوليكية التي تهيمن على الحس المشترك ليست الصور الأكثر انتشارا وبلورة بل ان الذي يلعب دور المحدد للحس المشترك هي الصور السابقة والموروثة والهرطقات والنزعات التجديدية والثورات العلمية المرتبطة بديانات الماضي. ان الذي يهيمن على الحس المشترك هي العناصر الواقعية المادية التي هي انتاج مباشر للاحساس وهو أمر لا يتعارض مع العنصر الديني بل بالعكس هي عناصر اعتقادية وخارج مجال النقد Acritique.29
لابد من رصد مجموعة من الملاحظات التي يبديها غرامشي تجاه مسألة الدين وفهم الأسباب والمغزى التي جعلته يعطي للظاهرة الدينية معنى ايجابيا:
- *أولا تشبيهه لعلاقة ماركس ولينين بعلاقة اليسوع وبولس،فاذا كان عمل ماركس قد انصب في اتجاه انتاج تصورات جديدة للعالم تغذي الثقافة في حقبة تاريخية معينة فان دور لينين تمحور حول الانتقال من الطوباوبة الى العلم ثم الى العمل بأن تحققت فلسفة ماركس كنظرية مطبقة مدعوة الى أن تكون دولة، وبالمثل اذا كان المسيح هو الواضع لتصور العالم فان القديس بولس هو المنظم والمحقق والناشر لهذا التصور.
- *لا سبيل الى حياة دون فلسفة ولكن لكي تصل الفلسفة الى كل الناس لابد ان تتحول الى فطرة سليمة وحس مشترك لان الفلسفة عند الجمهور لا يمكن ان تكون الا ايمانا ، هنا يدعو غرامشي الى ضرورة الانطلاق من الفلكلور واحترام مكونات الثقافة الوطنية وبما أن الجمهور له مجموعة من المعتقدات الصلبة فانه يجب نقدها من أجل بناء حس عام جديد يتم تأصيله في وجدان الجمهور بقوة المعتقدات التقليدية وعن طريق صلابة الأراء الدينية وقدرتها على التأثير والاقناع والتجميع.
وبالتالي لايجب أن نتعامل مع المعتقدات من وجهة نظر صحتها أو خلوها من الحقيقة الواقعية باعتبارها نوع من الميتافيزيقا بل يلزم أن ننتبه الى وظيفتها الاجتماعية ونجاعتها السياسية في الضبط والتأطير.
- * يؤكد غرامشي على أن دخول الفلسفة الجديدة في معركة مع اللوحة العقائدية القائمة يؤدي حتما الى الخسارة واضعاف لماهو جديد ويقترح احداث حركة تقدمية ذات ايقاع بطيء وممنهج داخل المعتقدات الدينية التقليدية تهدف الى التعامل مع معطيات المقدس والايمان وفق مقتضيات العلم والفلسفة. يقول غرامشي حول هذا الموضوع: ” لقد قامت قوة الديانات وخصوصا الديانة الكاثوليكية في الماضي والحاضر، على شعورها القوي بضرورة الوحدة في العقيدة عند الجمهور الديني كله وعلى نضالها في سبيل الحيلولة دون انقطاع الطبقات المتفوقة فكريا عن الطبقات الدنيا”.30
اذا كانت الثورات الثقافية الواعدة هي التي تقطع مع الاهتمامات الفكرية الضيقة للنخب وتتجه نحو الجمهور وتقيم روابط عضوية مع الناس فانه من المنطقي أن تعول على صلابة المعتقدات الشعبية وديانة الجماهير ختى تتمكن من التغلغل والانتشار. اذ صحيح أن الدين من حيث الحقيقة الابستيمولوجية هو فلسفة طفولة البشرية ولكنه من حيث مقامه الوجودي لا يتناقض بالضرورة مع وظيفة ثورية ممكنة. وصحيح أن الموقف العقلاني يقتضي القيام بعلمنة جذرية للمقذس وخلع لللأسطرة عنه ولكن ذلك لا يمنع من استخدامه من أجل تمتين اللحمة الاجتماعية والتماسك النفسي للانسان. ألم يقل ماركس في هذا الاتجاه:” موقف الدولة من الدين، الدولة الحرة خاصة، انما هو موقف الناس الذين يشكلون الدولة من الدين وحسب.” 31
يترتب عن ذلك أن نقد المجتمع والاقتصاد والثقافة لن يتحقق ويصل الى مبتغاه الا بعد القيام بنقد للدين وتحييده عن التوظيف الرجعي والرأسمالي واكتشاف أبعاده العقلانية وطاقته الثورية. فماهو دور الفلسفة في تفجير هذه الثورة الثقافية؟ وألا يتطلب الأمر وثبة جدلية من النظر الى العمل وصعود من النقد الى البراكسيس؟ أليس الإبداع الحقيقي هو الفعل المغير لوجه التاريخ ؟
فلسفة البراكسيس:
“كلما كان التصور المجدد أكثر حيوية وجذرية وأكثر مناقضة لأنماط الفكر القديمة كلما كانت الصلة بين النظر والعمل أكثر وثوقا”.32
كيف يرتبط الوعي والبراكسيس ارتباطا عضويا من أجل توليد الصيرورة التاريخية؟ وهل فلسفة البراكسيس هي التي تربط بينهما فقط؟ وماهي علاقة النظر بالعمل؟ ما المقصود بفلسفة البراكسيس؟ لماذا تعرف الماركسية على أنها فلسفة البراكسيس؟ هل منطلق الماركسية المادة أم البراكسيس؟ ,هل الماركسية فلسفة أم نقد للمجتمع؟
ان فلسفة البراكسيس هي وحدها فلسفة النقد والإبداع وهي وحدها التي خطت بالفكر الانساني خطوات إلى الأمام عندما تجنبت كل نزوع نحو الأناوحدية الضيقة وحاولت القيام بقراءة عقلانية نقدية للواقع الموضوعي ومؤرخة للفكر كما تنظر اليه في الواقع بوصفه تصور للعالم وحس مشترك لدى عدد كبير من الناس ينتشر فيهم بشكل يتحول من خلاله إلى قاعدة سلوك نشيطة يحفز هممهم ويدفعهم نحو الأمام. يؤكد غرامشي على ضرورة الانتقال الفعلي من التأميل النظري والبحث المعرفي إلى الفعل الميداني والممارسة العملية من أجل القيام بهذه الوثبة الجدلية،ويوحد بين الفلسفة وتاريخها وبين الفيلسوف والسياسة لأن مهمة الفيلسوف لا تقتصر على الانتقال المنطقي من فلسفة متخاذلة إلى فلسفة ثورية بل تتعدى ذلك نحو النزول من سماء التأمل إلى دنيا العمل ومن البناء النظري للفلسفة إلى العمل السياسي التابع لها. في هذا السياق يقول:”هكذا يصبح تحديد اللحظة التطهيرية هو نقطة الانطلاق لكل فلسفة البراكسيس”.33
إن النقطة التي تتحقق فيها الفلسفة وتحيى ليست موجودة في أدمغة الأفراد الذين يعتقدون فيها ولا في الأنساق المعرفية التي يشيدونها بل عندما تتحول هذه الفرضيات والقضايا إلى حقائق واقعية وتجارب معيشة وتنزع إلى تغيير العالم وتتحول الى دوافع محركة للمبادرات العملية في التاريخ العالمي. “ان فلسفة البراكسيس كانت لحظة من الثقافة المعاصرة…وخضعت واقعيا لمراجعة مزدوجة أي أنها كانت موضوعا لجمع فلسفي مزدوج.”34
المقصود أن التيارات التي غذت فلسفة البراكسيس ليست العلم فقط بل الاقتصاد والسياسة والتاريخ ويمكن أن نضيف إليها معا المادية التقليدية والتيار الآخر قادم من الكانطية النقدية. “المقصود بالبراكسيس…أربعة أشياء: أولها النشاط القصدي وتقديم الفاعلية على الانفعال وثانيها الاتجاه العملي وأولويته بالقياس الى النظرية والاستدلال النظري وثالثها الموضوعية والخارجية وما تتميزان به من التعين بخلاف الذاتية والباطنيةن ورابعها العمل ورصانته بخلاف اللعب وخفته والضحك ومجانيته. وهكذا تتحد فلسفة البراكسيس بفلسفة العمل وبالموضوعية والفاعلية والحس العملي”.35
ان فلسفة البراكسيس الجديدة تتحول من الثقافة الشعبية الى شكل أعلى من الثقافة لأنها ترمز الى ” تيار كل حركة إصلاح فكري وأخلاقي يجادل في معارضة الثقافة الشعبية والثقافة العليا. انه يمثل تأليفا.انه إصلاح بروتستانتي أكثر من كونه ثورة فرنسية:انه فلسفة إضافة الى كونها سياسة وسياسة إضافة الى كونها فلسفة”.36
يتحدث عن ضياع الانسان واعترابه نتيحة التقنية رغم أنه لم يطلع على “المخطوطات الاقتصادية والفلسفية” لماركس ويهتم بمصنف روزا لكسمبرج عن “أشكال التقدم والتوقف في تطور فلسفة البراكسيس” الذي ذكرت فيه أن فلسفة البراكسيس تطورت بشكل مختلف لتلبية حاجيات النشاط العلمي.
فلسفة البراكسيس تقتضي في مرحلتها الشعبية وجود كتلة من المثقفين الأحرار المنسقين، وهذا الأمر يتطلب مسارا طويلا من الأفعال والردود بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والمدافعين عن مصالح طبقاتهم المهيمنة والكادحة نحو التحرر. ان الفلسفة الميتة هي التي تكتفي بتصور ماهو كائن ومعرفة ماهو موجود، أما الفلسفة الحية فهي فلسفة جديدة تبدع ماهو غير موجود وتطابق “العالم الجديد المقبل على الولادة”. ان الفلسفة هي التاريخية المطلقة لأنها من جهة ماهي معرفة وكتابة التاريخ شيء واحد طالما أنها فلسفة الانسان والإنسان هو الذي يصنع التاريخ.
إن الانسان هو الذي يصنع تاريخه أي لا يستطيع أن يجعل غير تاريخه معقولا له فهو لا يعرف حق المعرفة سوى ما يصنعه بنفسه، إذا كان الانسان هو تاريخه الخاص فان فلسفة الانسان هي تفهم توليد الذات بالذات عبر هذا التاريخ لأنها لا تبحث عن الكل المجرد بل تتعقل الصيرورة التاريخية في نشاطات الانسان الاقتصادية الاجتماعية السياسية، الأخلاقية والجمالية والفكرية.
أن الفلسفة نظرية في التاريخ وهي نظرية في الانسان، في وجدانه وعمله، في ضياعه وتحرره، في علاقته بالطبيعة والآخرين وبذاته، في مصيره الذي يربط حريته بالضرورة. أن مصير الفلسفة مرتبط بتحولها إلى نشاط إبداعي يعلمنا كيف نحيا وفي استقلاليتها بالمقارنة مع كل سلطة وكل منع وتقييد. “يضع غرامشي التناقض نفسه داخل التاريخ وليس بين نوعين من الأخلاق – هما أخلاق الدولة وأخلاق الانسان بمفرده – فاذا كانت الدولة هي غاية المجتمع فان النوعين من الأخلاق يظلان متناقضان بشكل أبدي ولو حصل العكس فان التناقض يمكن اختزاله ولكن من وجهة نظر أخلاقية ومن طرف الارادة الأخلاقية وهذا يعني أن الامساك بالسلطة من طرف الدولة الغاية منه تحقيق مجتمع يلغي التعارض بين النوعين من الأخلاق”37
أن الفلسفة تكون في حالة الاستقلال وليست الاستقالة عندما ترتبط بالممارسة وتتعارض مع كل ماهو سائد. أن استقلالها ليس نظريا ومجرد تعالي عن الواقع بل هو التزام واتخاذ موقف، أن الفلسفة عند غرامشي هي عمل الناس الحي في التاريخ وإبداعهم نظام قيم جديد ومشروع إنساني مستقبلي يتداخل فيه السياسي بالاتيقي أي أن الفلسفة تهتم بوضع قواعد للسلوك موافقة للإمكانيات الفردية وتسمح بأنسنة الحياة الموجودة في ظروف معينة. الفلسفة الماركسية حسب غرامشي ليست موجودة في تأملات ماركس بل متضمنة في براكسيس الانسان المعاصر لأن كل علاقات النظر بالعمل تنطوي على فلسفة بأكملها، وكل القواعد التي تنظم السلوك البشري والاتجاهات الرئيسية للنشاط الانساني تتضمن تصورا للعالم. هناك اختلاط ذري عند غرامشي بين السياسي والنظري وبين الدغمائي والريبي وبين المثالي والمادي
أن فلسفته تقوم على هذا التعقد وهذا التشابك وهي فلسفة أصيلة جذرية ومستقلة مرتبة بشروط مادية وظروف تاريخية والاستحقاقات العملية.
تفهم فلسفة البراكسيس على أنها دعوة الى المقاومة وعدم الاستسلام للوهم والتبعية وهذا الدعوة هي ذات اتجاهين دعوة المضطهد الى مقاومة أشكال الاستغلال التي يتعرض لها من طرف مضطهده ودعوته ا\لمة المضطهدة لمباشرة نضال الاستقلال بقوله:” الأمة المظلومة ترد في البداية على القوة العسكرية المسيطرة بقوة سياسية عسكرية أي أنها تقابلها بنوع من العمل السياسي الذي يثير ردود فعل ذات طابع عسكري بمعنى أنها تتمكن من تفكيك الفعالية الحربية تفكيكا عميقا عند الأمة المسيطرة. وأنها ترغم القوة العسكرية المسيطرة على التخلخل والتشتت في مساحات كبيرة.”38
تفيد وحدة الفلسفة والسياسة ووحدة العمل والنظر أن الفلسفة توجد ضمنيا في عمل البشر وفي طريقة حياتهم اليومية لأنها في نهاية المطاف مجرد جواب نظري عن مسائل تلقاها الانسان في صيرورته التاريخية، أي “ان المعضلات التي يجب على الفيلسوف حلها لا تنحدر بصورة مجردة من الفكر الفلسفي السابق بل تتولد من التطور التاريخي الراهن، ليست الفلسفة إذا تامة التكوين بل توجد ضمن عمل البشر الذي بدوره بل يتراكم عبر تاريخ لا ينتهي من المحاولات. هذا يعني أن مفهوم البراكسيس عند غرامشي يعني الكلي وهو أكثر كلية من مفهوم الدولة والتاريخ والمجتمع لأنه يسمح باتحاد الذات بالآخرين وبأجزاء لتأسس الكلي الشخصي القادر عن التعبير عن مختلف أبعاد النشاط الانساني بما في ذلك المعرفة الفن والاتيقا. من هذا المنطلق:”لا يمكن أن نتصور فلسفة البراكسيس الا في شكل صراع ومواجهة مستمرة. لكن ينبغي أن نأخذ كنقطة انطلاق الحس المشترك والفلسفة العفوية لدى القوى والذي يتعلق الأمر بجعلها متجانسة إيديولوجيا”.39
عندئذ يسمح البراكسيس من تحقق الفلسفة أو مجاوزتها عبر التوحيد الجدلي بين النظر والعمل، وبين المعرفة والسياسة، البراكسيس فانه يعني ميلاد الكوجيتو التاريخي أي إنتاج الإنسان لذاته بالعمل والتحرر من أسر الضرورة والمجتمع أن تمكن الممارسة الإنسان من استبعاد كل التأويلات الدغمائية العقائدية وكل التشويهات النظرية وتصحح له جميع الآراء المحتملة وتفكك ادعاءاته بالتمركز على الذات والاغتراب في الوجود .
صفوة القول:” أن فلسفة البراكسيس تتجاوز مثنوية الفكر الديكارتي لانها تتصور الوجود على انه صيرورة أي تحقيق لوحدة الانسان والعالم ولانها تجعل الذات المفكرة او المادة او الامتداد تجريدين لهذا الواقع الاصلي…ان فلسفة البراكسيس تتخطى التشوية الجانبي للفكر النازع الى العلمية والتقنية لأنها تتفهم العمل أو وحدة الانسان والعالم من جهة ماهي حقيقة خاضعة للصيرورة. ونشير الى أن البراكسيس اذا خلت من الحقيقة والانفتاح سقطت الى مستوى التقنية وتحريك الآلات…فالبراكسيس لا تعنسي تقدم الشعور العملي على النظر ولا العمل على الانفعال بل تعني تحقيق وحدة الانسان والعالم…انها بنية الصيرورة الشاملة لعلاقة الانسان بالعالم: انما البراكسيس ابداع عالم اجتماعي انساني ينكشف فيه الواقع على حقيقته وفيه تتحقق الحقيقة بالفعل”.40 لكن وحدة الانسان والعالم لا تتحقق في الواقع الا من خلال بناء كتلة تاريخية، فماهي الشروط المادية التي يوفرها انسان البراكسيس من أجل بناء كتلة تاريخية جديدة؟ ثُم ألا نسقط مجددا في الدور المنطقي الذي نريد الخروج منه: كتلة تاريخية من أجل
البراكسيس وبراكسيس من أجل الكتلة التاريخية؟
خاتمة: نحو بناء كتلة تاريخية جديدة
فلسفة غرامشي هي فلسفة الفعل والالتزام من أجل الوصول الى مجتمع لاطبقي وأهم قيمة جاءت لتجسدها هي قيمة الانسان وذلك بأن حاولت أن توفر للانسان وسائل يسيطر بها على مصيره الخاص ويصنع حياته وفق الامكانيات الهائلة التي تتضمنها طبيعته، يقول في هذا السياق:” الانسان هو جملة العلاقات الفاعلة والواعية بينه وبين العالم والآخرين”.41 فلسفة الانسان تسعى الى بناء كتلة تاريخية جديدة بالانتقال من كتلة تاريخية قديمة تهرمت وأصبحت ترمز الى الجمود والتقليد إلى كتلة تاريخية تنشط وتتشكل وترمز الى الإبداع وتجمع بين اللغة والقومية والدين والايدولوجيا، ولكن تحقيق هذا المشروع هو حسب تأويلنا التقريبي للنصوص المقتصبة والغزيرة التي تركها غرامشي يطل رهين توفر عدة عوامل وتحولات أهمها:
- تعرض الكتلة التاريخية إلى أزمة هيكلية ومعضلة عضوية وبقاء هذه الأزمة على حالها لمدة طويلة واتساع الهوة بين البنية الفوقية والبنية التحتية في الكتلة التاريخية القديمة وانحطاط العلاقة بينهما من علاقة عضوية إلى علاقة شكلية.
- مقاومة المجتمع المدني ومحافظته على حركيته واستقلاليته وتوظيفه لجميع مكوناته ورموزه بما في ذلك الثقافة والدين واللغة والفلسفة العفوية والآداب في مواجهة المجتمع السياسي وتسلط المؤسسات الرسمية.
- قدرة المثقفين العضويين على سحب البساط من تحت أقدام المثقفين التقليدين وتمكنهم من إنتاج ثقافة جديدة تعبر عن طموحات الطبقات الناشئة وممارسة الفيلسوف الديمقراطي لوظيفة النقد والإبداع وانعقاد علاقة تشابكية بين المثقفين والمجتمع الذي ينتمون اليه.
- تلاشي الإيديولوجيات الزائفة القائمة على وهم تحالف الطبقات وانبثاق دافع حيوي جديد مرتكز على ما ينتجه المثقفين من استراتيجيات وإحلال سلطة الثقافة مكان سلطة السياسة والاعتراف بقيمة المثقف مكان تسلط الإيديولوجي لأن المثقف العضوي هو وحده القادر على الجمع بين الإحساس والمعرفة والفهم بينما المثقف المنسق المعبر عن الايديولوجيا السائدة يكتفي بالمعرفة دون إحساس أو فهم.
- الانتقال من اللحظة الاقتصادية القائمة على التنافس بين أصحاب رؤوس الأموال إلى اللحظة السياسية القائمة على الصراع بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، ثم بعد ذلك الانتقال من اللحظة العسكرية التي تعتمد على سلاح الحرب إلى اللحظة الثقافية التي تعتمد على الرأسمال الرمزي من أجل تحييد علاقات القوة التي تربط بين المتصارعين
- جوهر براكسيس ومادته هو تنظيم قوة العمل وليس النظر إلى العمال كوسائل تستخدم لا تمتلك أي حقوق فردية ثم العمل على تحويل الإيديولوجيا من حقل مليء بالألغام ومسرح من المغالطات ونسيج من الأوهام إلى نظرية علمية لتحليل الواقع وبديل استراتيجي يقدم رؤية جديدة للكون تضفي معنى أرحب للوجود.
- الأمير الحديث عند غرامشي ليس السياسي الواقعي الذي يؤمن بالحتمية التاريخية وليس الرومانسي الحالم الذي يعتقد في الثورة الدائمة بل هي الطبقة الواعية التي تقتنص الفرصة التاريخية وتؤمن بتأثير العوامل التاريخية في مجرى التاريخ. ان تحقيق هذا المشروع يتوقف حسب غرامشي على ايجاد إتيقا معاصرة بالنسبة للبشرية جمعاء تعبر عن روح الثقافة الجديدة التي يحاول الفيلسوف الديمقراطي خلقها وتقوم هذه الاتيقا على مبدأين:
- كل إنسان يجب أن يكون متصالحا مع ذاته.
- كل إنسان يجب أن يفعل وفق الثقافة التي يفرضها عليه محيطه.
إذا كانت أخلاق كانط تفترض وجود ثقافة واحدة ودين واحد وامتثال عالمي لنفس القانون فان ايتيقا غرامشي تقر بأنه لا يمكن ايجاد وضعيات متشابهة لجميع الناس يحترمون القانون فيها بنفس الكيفية بل كل فرد يفعل بالانطلاق من وضعياته الخاصة باستثمار فرديته ولا يمكن بالتالي أن نزعم أن قانون أخلاقي واحد يصلح لتوجيه أفعال الناس لأن الانسان في النهاية هو الذي يصنع وضعيات وجوده عبر فعله وقدرته على النقد والإبداع، ففيم تختلف الاتيقا الثاوية في فلسفة البراكسيس النقدية عن الأخلاق بالمعنى الماركسي التي تفرض على الناس مجموعة من الالتزامات والواجبات منعكسة من الظروف المادية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشونها؟
المراجع:
- جاك تكسيه غرامشي دراسة ومختارات ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول سلسلة أصول الفكر الاشتراكي منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي دمشق 1973
- ماركس حول المسألة اليهودية ترجمة د نائلة الصالحي منشورات الجمل كولونيا ألمانيا الطبعة الأولى2003
Gramsci dans le texte Editions Sociales paris 1975 –
Hugues Portelli, Gramsci et le bloc historique Puf paris 1977 –
J . Marc. Piotte , La pensée politique de Gramsci Ed anthropos Paris
1970 –
Jean fallot , pouvoir et morale , éditions anthropos paris 1967 –
Jacques Texier ; Gramsci et la philosophie du marxisme Ed Seghers paris 1966 –
Maria-Antoniette Macciocchi, Pour Gramsci, Ed du Seuil 1974-