تبدأ هذا الشهر “سنة ابن رشد”، احتفاء بمرور ثمانية قرون على وفاته (1198-1998). وكما سبق أن أعلنا، ستساهم المجلة في هذا الاحتفاء بنشر مادة أو أكثر عنه، في كل عدد طوال هذه السنة. في هذا الإطار يندرج هذا الحديث الذي يهدف إلى التعريف بجانب من جوانب فكره وسلوكه، وهو فقرات مقتبسة من دراسة نعدها بعنوان :”ابن رشد: فكر وسلوك”. انظر أيضا ركن “نصوص متميزة”: نص من التراث. وهو “شهادة” من مؤرخ قديم، تندرج في الإطار نفسه.
محمد عابد الجابري
…إن السؤال المعاصر الذي يطرح نفسه علينا بخصوص “ابن رشد وأسرته” هو التالي: كيف أمكن لبيت مشهور بالفقه أن ينتج فيلسوفا في وزن ابن رشد؟ وما يعطي لهذا السؤال أبعادا فكرية واجتماعية وسياسية وتاريخية عميقة هو أننا نعرف من خلال استعراضنا لتاريخ الثقافة العربية الإسلامية أن “الفقه” كان في خصام مع الفلسفة، ونعلم، أكثر من ذلك، أن العصر الذي عاش فيه ابن رشد مرحلة التعلم والشباب -أواخر العصر المرابطي- كان من أكثر العصور التي مارس فيها الفقهاء في الأندلس سلطتهم، ليس على الفكر والثقافة وحدهما، بل وعلى المجتمع والسياسة كذلك. وأيضا، نعرف أن أسرة ابن رشد كانت في شبابه وقبل ميلاده لسنوات طويلة، بل لعشرات السنين، من أبرز الأسر الأندلسية التي مارست الفتوى والزعامة الفقهية:
فأبوه، أبو القاسم أحمد بن أبي الوليد (الجد)، المولود بقرطبة سنة 487 هـ، كان فقيها له مجلس تدريس في جامع قرطبة، وله تفسير للقرآن في أسفار، وشرحً على سنن النسائي، و”برنامج” ذكر فيه شيوخه وما رواه عنهم. وقد تولى القضاء في قرطبة عام 532 هـ وابنه (فيلسوفنا) آنذاك في الثانية عشرة من عمره. ثم ترك أبو القاسم القضاء لينقطع إلى التدريس والتأليف، في الفقه والتفسير والحديث، إلى أن توفي سنة 563 هـ وابنه في أوج نشاطه الفلسفي منكبا على تلخيص كتب أرسطو وشرحها…
أما جده، أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن رشد، المولود سنة 450 هـ بقرطبة، والذي اشتهر بـ “ابن رشد الجد”، تمييزا له عن فيلسوفنا “ابن رشد الحفيد”، فيعد من أكبر فقهاء الأندلس على الإطلاق: تتلمذ عليه الفقيه الشهير القاضي عياض وغيره من كبار الفقهاء والمحدثين، وتولى منصب قاضي قضاة قرطبة -أو قاضي الجماعة فيها- لمدة أربع سنوات، طلب بعدها إعفاءه سنة 515هـ ليتفرغ لإتمام كتابه الضخم في الفقه “التحصيل والبيان”، إضافة إلى كتابه الشهير “المقدمات” في الفقه أيضا. وقد توفي عام 520 هـ، سنة ميلاد حفيده: فيلسوفنا.
ليس هذا وحسب، فابنه أحمد، أعني ابن فيلسوفنا، المكنى بأبي القاسم كأبيه، والمتوفى سنة 622 هـ، كان هو الآخر فقيها وقاضيا “في بعض جهات الأندلس”. وقد “حمدت سيرته فيه” كأسلافه. أما ابنه الثاني، أبو محمد عبد الله، فقد اشتهر في الطب أكثر من اشتهاره في الفقه، وكان طبيبا للخليفة الموحدي الناصر، ابن يعقوب المنصور. ومع أن أصحاب كتب التراجم والطبقات يذكرون أنه كان لفيلسوفنا أولاد آخرون فإن أيا منهم، سواء من ذكرته كتب التراجم أو من لم تذكره، لم يشتهر بالفلسفة كأبيهم. لقد “ورثوا” منه الفقه والطب، و “تفرق فيهم” هذان العلمان. أما الفلسفة فقد اختص بها هو لوحده: لم يرثها من أحد من آبائه، ولم يورثها لأحد من أبنائه.
لماذا اختص ابن رشد الحفيد بالفلسفة دون آبائه وأبنائه؟ وقبل ذلك وبعده: كيف أمكن أن يخرج من بيت الفقه وفي عصر الفقه فيلسوف في وزن ابن رشد؟
أما السؤال الأول فـ “ضعيف”، لأنه لا يخص ابن رشد وحده، وليس له جواب، ولا قيمة لأي جواب يدلى به في شأنه: فليس ابن رشد وحده هو الرجل الذي اختص بالفلسفة دون آبائه وأبنائه، بل جميع الفلاسفة، قديما وحديثا -عند اليونان وفي الإسلام وفي أوربا الوسيطية والحديثة والمعاصرة- كانت هذه حالهم. ليس هناك في التاريخ فيلسوف كان أبوه أو جده فيلسوفا، أو ترك أبناء (أو حفدة ) فلاسفة. وإذا وجد -وحسب علمنا لا يوجد- فهو فعلا: “النادر الذي لا حكم له”.
لنتجاوز إذن السؤال الأول، أو لندمجه في الثاني، ولنركز اهتمامنا على هذا الأخير: كيف أمكن أن يتخرج من بيت فقه فيلسوف في وزن ابن رشد؟
إنه سؤال يطرح العلاقة بين الفلسفة والفقه زمن ابن رشد، وفي إطار تجربته. ومن هنا كان ابن رشد نفسه هو -ربما- أحسن من يجيب عن هذا السؤال. فلنطرحه عليه إذن، ولنبحث فيما كتبه أو صرح به عما يساعد على استخلاص “جواب رشدي” عن هذا السؤال.
سيقول لنا ابن رشد في بداية جوابه: يجب التمييز في هذا السؤال بين ما يرجع إلى علاقة الفقه بالفلسفة، وبين ما يعود إلى “حكم الزمان”، أعني حالة الفلسفة والفقه في العصر الذي عاش فيه، وبين ما يرجع إلى “الوسط” الذي نشأ فيه.
أما فيما يخص العلاقة بين الفقه والفلسفة فهي -سيقول ابن رشد- ليست علاقة تعارض ولا تنافس ولا اصطدام. وإذا حدث ذلك فحدوثه بالعرض لا بالذات، ذلك أن الفقه والفلسفة يختلفان بالموضوع والمنهج وليس ثمة ما يجعل التعارض بينهما ضروريا، خصوصا وهما ينشدان معا الفضيلة: الفقه ينشد الفضيلة العملية، والفلسفة تنشد الفضيلة العلمية.
وقد يستطرد ابن رشد في شرح ذلك فيقول: الفقه كما يعرفه الفقهاء أنفسهم هو “العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية”. إن موضوعه إذن هو: “الأحكام الشرعية العملية”. وهذا يعني أنه لا ينظر لا في ذوات الموجودات ولا في صفاتها كما تفعل الفلسفة، وإنما ينظر فقط في أفعال المكلفين، وليس من شأنه النظر ولا الفتوى في “أحكامهم العقلية” التي هي من اختصاص المنطق والفلسفة. أما “الأدلة التفصيلية” التي يستنبط منها الفقيه الأحكام الشرعية فهي أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. والمعرفة التي يكتسبها الفقيه ويستنبطها من هذه الأدلة هي معرفة ظنية، فهو لا يستطيع أن يجزم أن ما فهمه من ألفاظ القرآن والسنة هو وحده المعنى الذي قصده الشارع. أما الإجماع والقياس فمجال الظن فيهما أوسع، نظرا لاختلاف الفقهاء والمجتهدين في حجيتهما وكيفية انعقاد الأول وممارسة الثاني. هذا بينما يستنبط الفيلسوف ما يستنبط من “أحكام عقلية” بالنظر في الموجودات واعتبارها. وإذا هو التزم الطريقة البرهانية في النظر والاعتبار، في الاستنباط والاستدلال، فأحكامه ستكون يقينية، بمعنى أن العقل يقبلها ولا يستطيع دفعها أو الشك فيها لأنها “جماع العقل والتجربة”.
وقد يضيف ابن رشد قائلا: وأنت أيها السائل تفهم ذلك كله من كتابنا “فصل المقال” الذي خصصناه لبيان حكم الشرع -أعني رأي الفقه- من “النظر في الفلسفة وعلوم المنطق”. وهنا لابد من أن أنبه إلى شئ غفلتم عنه أيها “المحدثون”. لقد كتبت قائلا: “إن كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها…” الخ (الصفحة الأولى من فصل المقال)، فاستعملت عبارة “فعل الفلسفة” وليس “علم الفلسفة”، ولا لفظ “الفلسفة” بمفرده. ذلك لأن النظر الشرعي -أعني الفقه- ينظر في “أفعال المكلفين” كما قلنا، ولا ينظر في “الأقاويل” التي ينتجها “فعل الفلسفة”، فهي آراء في ما يلحق الموجودات من تغيرات الخ… لا شأن له بها.
ليس من اختصاص الفقه النظر في الفلسفة كمعارف وأقاويل وإنما اختصاصه ينحصر فقط في “فِعْل الفلسفة”، فِعل النظر في الموجودات واعتبارها: هل هذا النظر هو واجب بالشرع أم محظور أم مباح أم مندوب إليه الخ… أما فحص نتائج هذا النظر فهو من ميدان آخر غير ميدان الفقه.
وعلى كل حال فالحكم في ذلك، أعني فيما يتوصل إليه “فعل الفلسفة” من نتائج، لا يخرج من أن تكون تلك النتائج مما سكت عنه الشرع، وفي هذه الحالة لا إشكال هناك. أما إذا كانت تلك النتائج تشتمل على ما يتعارض مع ظاهر الشرع، أعني ظاهر الكتاب والحديث، وكانت هي نفسها نتائج لبراهين صحيحة، فالأمر حينئذ يؤول إلى التأويل: تأويل ذلك الظاهر، وجوبا أو جوازا -إن كان مما يجوز فيه التأويل- أو عدم تأويله وأخذه كما هو على ظاهره إن كان مما لا يجوز فيه التأويل. وسيضيف ابن رشد قائلا: وقد أوجزنا الكلام في هذا الموضوع في كتابنا “فصل المقال” وعرضنا له بشيء من التفصيل في كتابنا الذي أتبعناه به وسميناه “الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة”، وكان بودنا تأليف كتاب نعرض فيه بالتفصيل لـ “جميع أقاويل الشريعة”، فنبين “ما ينبغي أن يؤول أو لا يؤول، وإن أُوِّلَ عند من يؤول”. وكنا ننوي أن نجعله يشمل “جميع المشكل الذي في القرآن والحديث”، كما أعلنا عن ذلك في خاتمة كتابنا: “الكشف عن مناهج الأدلة”.
لم تسمح لنا “الظروف” بذلك، فلقد كان علينا أن نُفَنِّدَ ما قاله أبو حامد الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة”، وأن نتصدى لكل مسألة مسألة من المسائل التي ذكرها فيه، لنبين فيها حكم الفلسفة، بعد أن كنا بينا في “فصل المقال” حكم الشريعة في المسائل الثلاث التي كفر فيها الفلاسفة. لقد وجدنا “أن هذا الرجل أخطأ على الشريعة كما أخطأ على الحكمة”، كما ذكرت ذلك في خاتمة “تهافت التهافت”، ونبهت عليه في كل من “فصل المقال” والكشف عن مناهج الأدلة”.
وإذا نحن لاحظنا -تعقيبا على هذا- أن الفقهاء حاربوا الفلسفة وأهلها في الأندلس والمغرب كما في المشرق، فإنه سيجيب، بشيء من الحدة التي يحركها الغضب للحق، سيجيب قائلا: إن الذين نهوا عن النظر في كتب القدماء، وفي كتب الفلسفة والمنطق خاصة، فعلوا ذلك، لا من موقعهم كفقهاء بل كمتكلمين، تماما كما فعَلَتْ فِرَق هؤلاء، بعضها مع بعض: فالذين كفروا المعتزلة أو الخوارج أو الباطنية من الأشاعرة أو الحنابلة أو غيرهم فعلوا ذلك من موقعهم كمتكلمين، أي كأصحاب مقالات، كَفِرَقٍ، سواء كانوا فقهاء أو غير فقهاء. وكذلك فعل المعتزلة وقبلهم الخوارج وغيرهم الخ… أما الفقهاء الذين فعلوا ذلك من موقعهم كفقهاء فهم أحد رجلين:
– إما فقيه سمع كلاما ينسب إلى الفلسفة وفيه مس بالدين، ومثل هذا الكلام خطأ في الفلسفة بدون شك، لأنه فضلا عن كون الفلسفة لا تسمح بالمس بالدين، فمثل هذا الكلام قد يشوش على الناس عقيدتهم ويتسبب في فوضى، ويضيف قائلا: وذلك “ما عرض لقوم من أهل زماننا، فإنا قد شهدنا منهم أقواما ظنوا أنهم تفلسفوا وأنهم قد أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه […] فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سببا لهلاك الجمهور، وهلاكهم في الدنيا والآخرة”. ويضيف ابن رشد: ولكن ذلك ليس القاعدة، بل هو من صنف النادر الذي لا حكم له: “وهذا الذي عرض لهذه الصناعة هو شيء عارض لسائر الصنائع. فكم من فقيه كان الفقه سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا! بل أكثر الفقهاء كذلك نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية. فإذن، لا يبعد أن يعرض مثل هذا في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العلمية كـما عرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العملية”. (فصل المقال).
– وإما رجل كلَّفه السلطان بإصدار فتوى ضد علوم القدماء والمشتغلين بها لسبب من الأسباب “السياسية”، فقبل هذا الفقيه الطلب راغبا أو خائفا. وإذا غيَّر السلطان رأيه لسبب آخر من تلك الأسباب، أو تغير السلطان نفسه، فقدت تلك الفتوى سلطتها ومبررها، وعاد “الفقيه”، صاحبها، إلى ما كان عليه قبل أن يطلب منه السلطان ذلك، أعني إلى سكوته.
ولا شك أن ابن رشد سيضرب على ذلك مثلا بقصة إحراق كتاب “الإحياء” لأبي حامد الغزالي. فقد أفتى بعض الفقهاء بمنعه وإحراقه، لأنهم رأوا فيه ما يهدد سلطتهم ونفوذهم. لقد هاجم الغزالي الفقهاء في هذا الكتاب وأخذ عليهم الانشغال بالدنيا والسعي للسلطة والنفوذ، واشتغالهم بالقشور، وانصرافهم عن الجانب الروحي في الدين إلى متاع الدنيا الخ… وكان ذلك ينطبق على فقهاء بني حمدين الذين كانت لهم السلطة زمن المرابطين، فتجندوا لمحاربته وأفتوا بتكفير من يقرأ “الإحياء” وحملوا السلطان على إصدار الأمر بإحراقه. وقد يشير فيلسوفنا أيضا إلى النكبة التي تعرض لها، هو نفسه، في آخر حياته، حيث نفي إلى قرية خارج قرطبة لمدة سنتين، بعد أن تولى بعض “الفقهاء” تأليب السلطان عليه -أو بعد أن كلفهم هذا الأخير بذلك- فحكم بإحراق كتبه، “دفاعا عن الدين” كما زعموا، حتى إذا تأكد السلطان من بطلان التهمة السياسية التي كانت وراء تلك النكبة “عفا” عنه وعاد به إلى مكانته كأحد كبار رجال الدولة. ثم إن السلطان نفسه أخذ في دراسة الفلسفة والاهتمام بها أكثر من ذي قبل…(راجع في موضوع نكبة ابن رشد كتابنا: المثقفون في الحضارة العربية) ·
- عن موقع فكر ونقذ