المقال عن صحيفة ” العرب “
04 شتنبر 2015 * العدد: 10028
لا أحد يتمنى أن يرى أي إنسان وراء القضبان، لمجرد اعتناقه فكرة سياسية أو تبنيه لتصورات فكرية أو أيديولوجية. هذا صحيح، من حيث المبدأ، وهو يسري على كل المجتمعات الديمقراطية، كما ينبغي أن يسود في مجتمعات تتلمس طريقها بجدية إلى الديمقراطية السياسية وما يرتبط بها من حريات فردية وجماعية في إطار دولة الدستور والحق والقانون.
غير أنّ ما هو صحيح، من حيث المبدأ، لا يتوافق عادة مع شروط الممارسة الفعلية للمجتمعات والدول، بمختلف أجهزتها ومكوناتها؛ فالمبادئ، عند هذا المستوى الملموس، تخضع في ممارستها الفعلية لعدد من الإكراهات الموضوعية والذاتية التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار لأنّها تحدد في نهاية المطاف طبيعة تفعيل ما هو مبدئي وبلورته على أرض الواقع، في سياق تاريخي ليس من الممكن تجاوزه في أبعاده الأساسية، وإن أمكن التأثير فيه بفعل تدخل الإرادة السياسية لمختلف قوى المشهد السياسي، إيجابا أو سلبا، انطلاقا من تقييمها الخاص لمعطيات ذلك الواقع، واتجاهاته الأساسية، لجهة رجحان كفة الاستقرار أو لجهة تململ ما يمكن أن يكون سببا في خلخلة الأوضاع الأمنية والسياسية لمجمل الفاعلين. وهو أمر يفرض على القوى الأساسية، وغالبا ما تكون الدولة بأجهزتها الشرعية المختلفة، التدخل بما هو ضروري من الجدية والقوة في إطار القانون لوضع حد للاختلالات وإعادة الاعتبار لتوازنات اجتماعية وسياسية وغيرها، تمنع تدهور الأوضاع وتقي المجتمع من تبعات هذا التدهور على مختلف مستويات حياته ضمن المجتمع وفي كنف الدولة.
انطلاقا من هذا المبدأ العام يمكن مقاربة سياسة المغرب الأمنية والجنائية تجاه تيار السلفية الجهادية، خاصة في ظل التهديدات الإرهابية الجدية لأمن البلاد واستقرارها، وفي سياق مقاربته التي يعتمدها في محاربة الإرهاب والتعاطي الصارم معه قضائيا وأمنيا وفكريا وروحيا.
وقد أثير الحديث، مرة أخرى، حول كيفية التعامل مع معتقلي هذا التيار في المغرب، وعلت أصوات تنادي بإطلاق سراح المسجونين انطلاقا من كونهم أصحاب أفكار ولم يتورطوا في أي أعمال إرهابية أو ما يعاقب عليه القانون المغربي.
وفي الواقع، فإنّ السلفية الجهادية وغيرها من التنظيمات التي تقوم على مرجعية خاصة يراد تعميمها وتقديمها كما لو أنها تعبّر عن جوهر الإسلام، ليست بهذه البساطة، وإنما هي قضية على درجة كبيرة من التعقيد، لأسباب متعددة أهمها:
أولا، كون أنّ هذه التنظيمات تنطلق، في جوهرها، من قناعة أيديولوجية راسخة لديها مفادها أنّ المجتمع والدولة يمارسان سلطتهما خارج الشرعية الدينية، كما تفهمها وتحاول فرضها بكل الوسائل الممكنة بما فيها تلك التي تتنافى مع ضرورات العيش المشترك، وهي تصنف المجتمع عادة إلى مهتدين وضالين، وما يترتب على ذلك من تصورات وممارسات سلبية على واقع المجتمع ومستقبه.
ثانيا، تداخل مختلف تنظيمات هذا التيار وارتباط بعضها بتيارات إرهابية خارج الوطن، الأمر الذي يفرض التعامل الحذر مع معتنقي أفكارها المتطرفة، إذ ليس هناك أي جدار يمكن أن يفصل بين التطرف الفكري الديني والممارسات المقوضة للأمن والاستقرار، كما بينت ذلك مختلف التجارب القديمة والحديثة، عندنا وعند غيرنا على حد سواء.
ثالثا، دروس التجارب الملموسة في التعامل مع معتقلي هذا التيار بعد إطلاق سراحهم في سياق الضغوط التي مارسها عدد من منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية في وقت سابق، أو بموجب عفو ملكي، وهي دروس ثابتة بالدم وليس بأي ممارسات أخرى، ولو كان ذلك في بؤر التوتر والقتال في الخارج وخاصة سوريا والعراق. ذلك أنّ عددا من المعتقلين المفرج عنهم انتقلوا إلى القتال في صفوف التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وتحملوا مسؤوليات في مختلف مستوياتها القيادية ولقي بعضهم حتفه في ساحات القتال هناك.
رابعا، عدم قيام هذا التيار بأي مراجعة نقدية جدية لأسس تفكيره الأيديولوجي وطبيعة ممارساته ومواقفه، تجاه قوى المجتمع السائدة، وأخذ ثوابت الوطن على محمل الجد. وهذا في حد ذاته عامل أساسي من عوامل تحديد النظرة إلى هذه التيارات، ولو أنه لا يكفي لإدانة هذا أو ذاك أو حرمانه من حريته ما لم ينخرط في ممارسات دعائية أو عملية يجرمها القانون.
وانطلاقا مما سبق، يبدو أنّ معضلة بعض المنظمات الحقوقية تجاه ظاهرة الإرهاب ومحاربته تكمن في الفصل شبه التام بين الإرهابي ونتائج ممارساته في حق غيره والأضرار البليغة التي تلحقها به تلك الممارسات، للتركيز على ما تعتبره حقوقه باعتباره إنسانا تسري عليه، وينبغي أن يتمتع، بالحقوق المعترف بها للإنسان بما هو إنسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو موقعه الاجتماعي وغيره.
غير أن الخلل، في هذه المقاربة، يتجلى في إغماط الضحية حقها بذريعة التمسك بحق الجاني على المستوى الإنساني مع العلم أنه ينبغي وضع مفاضلة واضحة وعلى غير مستوى من المستويات بين من وقع عليه الاعتداء، وعلى مستوى حقوقه كافة بما في ذلك حقه في الحياة، وبين من مارس هذا الاعتداء عن عمد وسابق إصرار. وهذا ما يضطلع القانون بالقيام به لأنه يحدد قواعد للسلوك جوازا ومنعا وتجريما، بشكل مسبق، حيث ينبغي أن تسري على الجميع دون استثناء وفق مدى التزامهم أو عدم التزامهم بما تقتضيه تلك المنظومة القانونية.
وهذا يدفع إلى القول بأنّ هنالك مقاربتين خاطئتين؛ واحدة تنظر إلى الإرهاب بشكل مطلق حيث يتم استبعاد كل عامل آخر عن معادلة محاربته ولو كانت حقوقية وإنسانية.
وهنالك، في المقابل، مقاربة أخرى تتعامل مع فلسفة حقوق الإنسان بشكل مجرد، بمعزل عن معطيات الواقع وضرورات أساسية يرتبط بعضها بأمن المواطنين في ممتلكاتهم وأنفسهم ذاتها.
ويبدو أنّ الملاءمة بين هاتين المقاربتين وتحقيق التوازن بينهما هما ما ينبغي اعتمادهما في التعاطي مع قضايا التطرف والإرهاب انطلاقا من تحديد محور الممارسة.
وإذا كان محور الممارسة يكمن في محاربة الإرهاب بمختلف الطّرق بما في ذلك ما هو استباقي منها، فإنّ محاكمة هذه المقاربة، من حيث بعدها الأساسي، تتمحور حول مدى فاعليتها وتمكينها من حماية أمن المواطن في شخصه وممتلكاته وحماية مؤسسات الدولة والمجتمع من تحديات الإرهاب. والقانون وحده هو الكفيل بتحقيق ما هو مطلوب في مجال الحفاظ على الحقوق الأساسية للإنسان بمن فيهم من هم متهمون بقضايا الإرهاب، ممارسة أو تخطيطا وتحريضا.
وإذا كان محور التعاطي مع مختلف شرائح المجتمع هو الحرص على استفادتها من حقوقها كافة في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والحقوقية خاصة في زمن السلم الاجتماعي والتطور العادي للمجتمع والدولة المسؤولة عن تدبير الشأن العام، فإن استحضار كل المنظومات الحقوقية في مختلف المجالات وجعل مدى التطابق الحاصل بين الممارسة وبين ما هو أساسي، وربما ما يدخل في تفاصيل تلك المنظومات الحقوقية معيارا للحكم على مدى احترامها أو الاعتداء عليها، هو المطروح.
وبطبيعة الحال، فإنّ سلطة التقدير في التمييز بين هذين المستويين تعود إلى الدولة ومؤسساتها الدستورية والقضائية المختصة ولا ينبغي لأي جهة غيرها التنطع للقيام بهذه المهمة لأن ذلك يفتح أبواب الفوضى والفتنة على مصراعيها على المجتمع والدولة معا.