الفتوى الصادرة عن المجلس العلمي الاعلى،أخيرا حول جواز قتل المرتد،لابد وان تطرح نقاشا يتعلق بجوهر الوظيفة الإفتائية، وحدودها وتقاطعاتها مع الوظائف الحديثة لدولة المؤسسات ودولة القانون.
لقد نص دستور2011،على ان هذا المجلس هو الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتاوي التي تعتمد رسميا ،و ان الملك،امير المؤمنين ،هو من يراسه.
لذلك فاشكالية هذه الفتوى ،تتعلق اساسا بمخاطر الإساءة لمؤسسة امارة المؤمنين،خاصة اننا لانعرف لحد الان سياق إحالة هذا الموضوع على المجلس العلمي الاعلى،وهذا مايبدو ان خطبة الجمعة بمسجد “احد”باسفي(19ابريل2013)،بحضور امير المؤمنين،قد تكفلت بتوجيه رسالة واضحة بشانه ،عندما تطرقت الى” الحريات الفردية والجماعية التي قررها الاسلام كحرية التدين والاعتقاد وحرية الرأي والتعبير”.
الوجه الاخر للإشكالية ،يتعلق بالتنصيص الدستوري على ان” لايجوز إلقاء القبض على اي شخص او اعتقاله او متابعته او إدانته ،الا في الحالات و طبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون”،و هو المبدا الذي يعد قاعدة أساسية للقانون الجنائي المغربي،حيث” لا جريمة ولا عقوبة الا بنص”،و اذا كان القانون المغربي لا يرتب اي جزاء للمرتد،فان بلادنا صادقت بلا تحفظ على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية،و هو ما يجعلها منخرطة في مرجعية حقوقية تلتزم بحرية المعتقد،و هذا ما سبق القضاء المغربي ان اكده منذ ثمانيننات القرن الماضي،حتى قبل ان يجعل الدستور المغربي من الاتفاقيات الدولية،تسمو على التشريعات الوطنية.
لنتفق على أنه ثمة طلب على “الفتاوي”. وأنه ثمة سوق”حرة” تقدم عرضا مغريا، سهلا، متناقضا، مختلف المرجعيات المذهبية والفقهية، عبر قنوات وفضائيات “إسلامية” أو عبر مواقع بالأنترنيت تقدم الفتوى المطلوبة بضربة زر فوق لوحة مفاتيح جهاز الكومبيوتر.
لكن لنتفق كذلك، على أن المطلوب من السلطة الدينية الرسمية، ليس المزايدة المجانية على صناع “الفتاوي تحت الطلب”، و لا الدخول في منافسة مع أي كان من مستسهلي إصدار الفتاوي في أي موضوع ونازلة.
نعم. ثمة حاجة إلى الإفتاء في ما قد يتعلق بالعلاقة الفردية والشخصية، للإنسان مع خالقه، داخل الشروط الخاصة للعلاقة الإيمانية. لكن كيف نقبل بأن نفتح الباب بلا تقييد امام مجال الفتاوي ، التي تحلل و تحرم ما تشاء، دون أن نفكر في الحدود التي قد تقف عليها سلطة “المفتي” ؟!
لماذا نقبل فتوى تكيف انطلاقا من “المرجعية الإسلامية” عملا لا تجرمه القوانين الوضعية،و تعتبر صاحبه يستحق الموت؟،دون أن نقبل فتوى تحلل أو تحرم كل النظام القانوني او الدستوري، ودون أن نقبل بفتوى تحلل أو تحرم البورصة أو الطرق السيارة أو النظام التمثيلي أو حقوق الإنسان أو ركوب السيارة أو عمل المرأة أو طريقة عمل البرلمان أو صيغة تشكيل الحكومة …
إن سؤال موقع الدين في الحياة الاجتماعية، لم يعد سؤالا مطروحا، لكن السؤال الضروري هو الحدود التي يجب أن تعطى للدين داخل المجتمع، ولهذا السؤال ليس أكثر من جوابين ممكنين بالمعنى التاريخي، الجواب الأول هو الذي تقدمه الدولة التيوقراطية، دولة اللاتسامح والحكم باسم الحق الإلهي، والجواب الثاني ليس سوى الدولة المدنية التي لا تلغي الدين ولكنه تجعله ممارسة فردية وعلاقة خاصة بين الفرد وخالقه، وما دون ذلك هو من اختصاص المجموعة البشرية والاجتهاد الإنساني الوضعي داخل الوطن حيث الإنتماء لا علاقة له بالعقيدة بل بالمواطنة، وبالقانون.
التجربة المغربية لأسباب عديدة ليس هذا مجال شرحها، لا تنهض على خلفية فصل الدين عن الدولة، بل تتأسس على معادلة فصل الدين عن السياسة داخل نفس الدولة المحتفظة بمشروعيتها الدينية إلى جانب مشروعيتها المدنية.
اختيار مثل هذا، يبقى الاختيار الأصعب من الناحية التدبيرية، لذلك فثمة ضمانة وحيدة لنجاحه في التصدي من جهة لخطر التطرف الأصولي ولحماية المشروع التحديثي والديمقراطي من جهة أخرى، وهي أن ندفع بخيار إعادة هيكلة الحقل الديني إلى مداه الأقصى… ألا وهو ورش الإصلاح الديني. فهل نستطيع ؟؟ ذلك هو السؤال.
-2-
خلال الاسبوع الذي مضى ،تعرض الاستاذ احمد عصيد ،لحملة مغرضة ،وصلت الى حد وصفه بانه عدو للإسلام!.من جهته تعرض الصحافي علي انوزلا،لحملة مماثلة،وصلت الى حد “صناعة”إشاعة مخدومة حول موته انتحارا!
الاستاذ احمد عصيد ،الباحث و الشاعر و الفاعل في حقل الثقافة الأمازيغية،يكاد يكون المثقف المغربي التقدمي ،الاكثر حضورا في الجبهة الأمامية للصراع الفكري مع التوجهات المحافظة ،و في بعض الحالات مع الأطروحات الدينية الاكثر تطرفا.يساجل و يناظر ،و يكتب مقال الراي والدراسات الرصينة،يحضر بقوة في الفضاء العمومي،مدافعا عن الحرية و الحداثة و العقلانية و الديمقراطيةو الدولة المدنية،مناهضا لاستغلال الاسلام في حسابات السياسة .يجوب كل مدن البلاد و قراها ليعرض افكاره و ليحاور الشباب و الفاعلين الجمعويين.و بذلك يقدم نمودجا للمثقف الملتزم و المنخرط في قضايا بلاده و أسئلة عصره،مسلحا بقلمه وبحسه النقدي الحاد.
شخصيا اختلف مع الاستاذ عصيد ،في كثير من تحاليله خاصة المتعلقة بالمسالة الأمازيغية،غير انني في المقابل لا املك الا ان أحييه على جرأته و شجاعته في نقد خطابات التطرف الديني.
الصحافي علي انوزلا،يجر وراءه تجربة إعلامية غنية و متعددة المحطات،و هو اليوم يقود مغامرة جديدة ،تريد ان تجعل من الصحافة الالكترونية فضاء للأخبار السريعة و الطازجة ،و لكن كذلك للراي و التحليل و الموقف،لذلك يعبر دوما عن آراءه في الحياة السياسية و في القضية الوطنية،بنبرة قوية ،مختلفة،و غير معتادة في مواضيع ظلت الصحافة المغربية تصفها بالحساسة،وعندما يفعل ذلك فهو لا يدعونا الى الاتفاق الحتمي معه في كل ما يعبر عنه.
ما طرحه الاستاذ عصيد ،في ندوة افتتاح الجمعية المغربية لحقوق الانسان، المنظمة حول القيم داخل الدستور المغربي،من ملاحظات حول الكتاب المدرسي ،هو مجرد راي ،لا يحتمل كل هذا الكم من الشتائم و السب ،ولانه راي فكري فهو قابل للنقاش و المحاججة و النقد،بعيدا عن خطابات التكفير و الحقد و الكراهية، بعيدا عن منطق محاكم التفتيش.
ان موضوع القيم داخل الكتاب المدرسي،ليس موضوعا طارئا ،لقد خيضت فيه مناقشات عميقة،و كتب فيه باحثون أعمالا جادة ،بل سبق للمنظمة المغربية لحقوق الانسان ان انجزت حوله ،في بداية العقد الماضي تقريرا وافيا،كان موضوع تفاعل من طرف أطر وزارة التربية الوطنية آنذاك.
وما يعبر عنه الصحافي علي انوزلا ،بغض النظر عن موقفنا منه،يدخل في خانة حرية الراي و التعبير ،و هي حرية ليس من شانها المساس بالموقع الذي تحتله القضية الوطنية لدى غالبية المغاربة،ثم ان الايمان بالوحدة الوطنية و الترابية ،لا يعني بالضرورة ،جعل تدبير هذه القضية ،خارج مجال النقد و الحوار و النقاش العمومي،كما ان الاقتناع بالقضية الوطنية،لا يعني بالضرورة حالة من التنميط البليد لكل الأصوات و الآراء ،و لا يعني السكوت عن اخطاء تدبير الملف ،ولا الصمت عن إثارة المسؤوليات،و لا التضحية باحترام الدستور و الديمقراطية و حقوق الانسان،و لا تعويض مطلب اشراك الاحزاب بجلسات للأخبار البعدي.
لقد تابعنا ،الى وقت قريب، كيف اعتبر المطالبون بالحكم الذاتي،قبل التبني الرسمي لهذه الأطروحة ،تقريبا بمثابة اعداء للقضية الوطنية!،و تابعنا ونتابع كيف تتحول خطابات التكفير و الكراهية،الى اوامر بالقتل و تحريض على العنف.
ان التخوين والتكفير،دليلان على ضعف الحجة،وهما مؤشران على ضيق في الافق ،وعدم قدرة بينة،على قبول الاختلاف و النقد .ثم ان لا احد يملك الحق ليوزع باسم الدين او باسم الوطن ،صكوك الايمان ،او أوسمة الوطنية.
قد لا نحب باسم الأيديولوجيا “احمدا”،كما اننا قد لا نحب باسم السياسة “عليا”،غير ان اننا باسم الديمقراطية ،مطالبين بالدفاع عن حقهما في الراي و التعبير،بعيدا عن اي وصاية أخلاقية او دينية او سياسية،و بعيدا عن كل اشكال الاستبداد الفكري،القديمة منها و الجديدة،بعيدا عن كل تخوين او تكفير.