نتضمن ظاهرة التكفير الديني ثلاثة عناصر رئيسية:
1) إطلاق حكم مبرم بخروج المحكوم عليه بالكفر من “الدين الصحيح”، وبالتالي من رحمة الله، وبالتالي من رحمة “المؤمنين” المتمسكين بـ”الدين الصحيح” كما يعرّفه مطلقو حكم التكفير.
2) إعطاء المتمسكين بـ”الدين الصحيح” رخصةً لاستباحة من وقع عليه حكم التكفير، فرداً أو جماعة، والتجاوز الحر على حياته ودمه وحقوقه وعائلته وأملاكه وأماكن سكناه وعبادته.
3) انتحال صفة القاضي الأعلى، الذي يملك حق إصدار حكم التكفير، مع أو من دون صفة دينية رسمية، ومع أو من دون الاستناد لنص شرعي، بحسب الحالة.
ثمة ثلاثة أحكام ضرورية للتكفير الديني، إذن، هي:
1) الحكم على آخر بعدم الإيمان،
2) الحكم عليه بعقوبة الاستباحة الشاملة،
3) الحكم على الذات بالأهلية لإطلاق الحكمين السابقين. وقد يقع خلاف بين المدارس الفقهية المختلفة هنا حول الحالات التي يجوز فيها إطلاق حكم التكفير وطبيعة العقوبة والجهة المخولة بإطلاقه. فهل يكون مثلاً لمخالفة ثابت ديني واضح جهاراً نهاراً بالقول والعمل، أم أنه يكون لمخالفة تأويل ديني مغالٍ غير مجمع عليه؟ وهل تجيز استباحة الكافر التفنن الإبداعي في ممارسة القتل والتعذيب والانتهاك، أم أنها يجب أن تقتصر على عقوبات محددة مسبقاً؟ وهل يفترض بمن يطلِق حكم التكفير أن يكون مرجعية دينية معترفاً بها، أم أن من حق أي مؤمن بـ”الدين الصحيح” يرى في نفسه الأهلية اللازمة أن يطلق حكم التكفير بحسب قناعاته الشرعية المخلصة وأن ينفذه؟
إذن قد تضيق الحالات التي يقع فيها حكم التكفير وقد تتسع، وقد يغالي المكفِّرون في استباحة من يعتبرونه كافراً، وصولاً للاستعباد والإبادة الجماعية، وقد “يرحمونهم” بالاقتصار على ممارسة التمييز ضدهم كمواطني درجة ثانية، وقد ينفلت حبل الأحكام التكفيرية على الغارب ليطلقه من هب ودب، وقد ينضبط لنخبة ثيوقراطية تزيد أو تقل تشدداً، وهي اختلافات مهمة جداً بالطبع لمن يحتمل أن يتعرضوا للاستباحة جراء حكمٍ بتكفيرهم، غير أنها تبقى اختلافات في الدرجة لا في النوع، لأن الجوهر يبقى وجود “دين صحيح” يحق لأصحابه “شرعياً” أن ينفلتوا من أي ضابط أخلاقي في التعامل مع من يخالفه، بحسب قواعد قد تضيق أو تتسع، وهو ما لا يغير من التكفير، بالمجرد، كثيراً.
ابن تيمية مثلاً عرّف التكفير بأنه “عدم الإيمان… سواء اعتقد (المرء) نقيضه وتكلم به، أو لم يعتقد شيئاً ولم يتكلم… وسواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شكٌ وريب، أو إعراضٌ عن هذا كله حسداً أو كِبراً أو اتباعاً لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة” (من كتابه “مجموع الفتاوى”). إذن يقع الكفر عند ابن تيمية لو لم يعتقد المرء شيئاً ولم يتكلم، ولو لم يكذِّب الدين، بل خالطه شيءٌ من الشك والريب فحسب!!!! وهو تضييق مفرط لشروط التكفير لربما أدى به للحكم على الإمام أبو حامد الغزالي، الذي مر بمراحل صعبة من الشك والريبة، بالكفر، لو التقى به قبل أن يصل الغزالي لتكفير الفلاسفة (مع أنه ولد بعده بمئتي سنة)! رغم هذا، لم يعتبر ابن تيمية من يتأول فيخطئ كافراً، ولا اعتبر الجاهل كافراً، حتى يوضَّح له جهله ويصر عليه، ودعا إلى عدم المسارعة للتكفير وإلى مراعاة الأحكام الشرعية، حتى لو خفض سقف التكفير إلى الشك والريبة ولو دون كلام، ولربما اعتبرته داعش، لو جاء اليوم، كافراً، على تهاونه وتفريطه بالأمر هكذا!
التكفير ليس منتجاً إسلاموياً بالمناسبة، بمقدار ما يبدو لنا اليوم. فالظاهرة التكفيرية كنص وضعت أحكامها ابتداءً في التوراة والتلمود، والتلمود طبعاً هو تفاسير التوراة التي وضعها الحاخامات، وستكون لنا عودة لهذه النقطة. أما الممارسات التكفيرية واسعة النطاق فهي ظاهرة مسيحية غربية من القرون الوسطى بالمناسبة، بمقدار ما لا يبدو ذلك واضحاً اليوم، وقد كان المسيحيون الشرقيون بعض ضحاياها على مدى قرون، بالإضافة للمسلمين وشعوب أفريقيا وسكان القارة الأمريكية الأصليين. وكان من ذلك مثلاً، عدا حملات الفرنجة:
1) محاكم التفتيش الكاثوليكية التي نشطت في القرون الوسطى بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر بحثاً عمن اعتبرتهم مهرطقين ومرتدين ومنافقين، وقد تفننت في استخدام وسائل التعذيب الوحشي، ومن ذلك بتر الأوصال وحرق البشر أحياء وسحق العظام بالآلات، ومن هؤلاء المصلح التشيكي يان هوس الذي احتج على بيع “صكوك الغفران” فتم حرقه علناً عام 1415 ميلادي، ومنهم العالم الإيطالي جيوردانو برونو الذي قُطع لسانه واحرق حياً عام 1600 بتهمة الادعاء أن الأرض كروية وأنها تدور حول الشمس!،
2) الحملات الصليبية ضد المسيحيين الأرثوذكس في القسطنطينية وفي بلاد الشام، ويقول العالم الفرنسي غوستاف لوبون أن الفرنجة حين دخلوا القدس ذبحوا سكانها المسلمين واليهود و”خوارج النصارى” وكان ذلك بتقطيع الأوصال والرؤوس، وقد بلغ عدد ضحايا تلك المجزرة المروعة حوالي عشرة آلاف!،
3) حروب الاستئصال الديني التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية ضد حركة الإصلاح البروتستانتي في أوروبا الغربية في القرنين الخامس والسادس عشر وأدت لإزهاق أرواح الملايين،
4) حملات التبشير في أمريكا الجنوبية من قبل الإسبان والبرتغاليين التي قضت على حضارات وشعوب بأكملها،
5) محاكم التفتيش الإسبانية التي أشرفت على استئصال مئات آلاف المسلمين بعد سقوط غرناطة في الأندلس وإجبارهم على اعتناق المسيحية بطرق وحشية.
تستمد الظاهرة التكفيرية العربية الإسلامية المعاصرة جانباً أساسياً من “وعيها” إذن من ثقافة القرون الوسطى الأوروبية، فهي تشبه إلى حدٍ مثير للريبة إسقاطاً لمختبرات الإستشراق علينا، كأنها فيروس أوروبي تم حقنه في عروقنا لإعادتنا إلى عصور الظلام، بعد أن تخطتها أوروبا بالنهضة القومية، أما جانبها الآخر فهو التوراة والتلمود، وللحديث بقية..