ما كان سيكون عليه موقف ماكس فيبر، لو عاش عشرين عاماً أخرى، فشهِد صعود «الحزب النازي» في بلاده، ثم اندفاعتَه المجنونة في شرق أوروبا وغربها التي أثمرت الحرب العالمية الثانية ومآسيها التي لا توصَف؟
هل كان سيبقى متمسكاً بدفاعه عن الشرعية العقلانية (الديمقراطية)، في الغرب، وتفوُّقها على الشرعيات كافة؟ ألم يصل هتلر والنازية إلى السلطة من طريق إرادة الشعب وصناديق الاقتراع، محمولاً على قاعدةٍ عريضة من الجمهور الاجتماعي المسكونِ بفكرةٍ وطنية (قومية) ألمانية، مرَّغ الحلفاء كرامتَها في الحرب العالمية الأولى، كما في «مؤتمر باريس»؟ ليس من شكٍّ لدينا في أن الواقعة النازية، صعوداً وحُطاماً، كانت ستُزعزع يقين فيبر في الشرعية الديمقراطية التي أتت بمشروعٍ انتحاري نَحَر ألمانيا كلَّها. وسيزعزعُه أكثر حقيقةُ أنّ العبء الأكبر في تحرير ألمانيا من النازية، ودحْر قواها، إنما وَقَع على بلدٍ لم يَقُم نظامُه السياسي على مقتضى الشرعية الديمقراطية، وإنما على مقتضى شرعية أخرى لم يهتمّ بها فيبر هي الشرعية الثورية؛ وهذا البلد هو الاتحاد السوفييتي الذي ستصف حنّة أرندت نظامه السياسي بالنظام التوتاليتاري. وبمعزلٍ عن فيبر، وعمّا إذا كانت ستفاجئه التطورات في ألمانيا، فيما لو عاش إلى الأربعينات من القرن الماضي، فإن السابقة النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا تطرح الاستفهام عريضاً على مدى وجاهة الربط الحصري بين الشرعية والديمقراطية، وما يرتبط بهذا الربط من تقديسٍ لآليات الانتخاب، واختزالٍ للديمقراطية إلى وسائلها، في إطار نظرةٍ أداتية للديمقراطية، سبق أن انتقدناها في كتاب «الدولة والسلطة والشرعية». سنلقي نظرة، في ما سيلي، على نوعين من الشرعية السياسية لم يأبه بهما ماكس فيبر في تصنيفه للشرعية، هما: الشرعية الثورية وشرعية الإنجاز. وهاتان متمايزتان من بعضهما، في التكوين، ولكنهما قد تتطابقان في حالات عدّة كما سنرى في ما بعد.
من النافل القول إن التغيير السياسي والاجتماعي، في أيّ مجتمعٍ أو بلدٍ في العالم، يقع من طريق وسائل مختلفة: الانتقال الديمقراطي، التسوية بين القوى الاجتماعية والسياسية المتصارعة والتوافق على نظامٍ جديد، الثورة الاجتماعية… إلخ. ليس ثمة من نموذج واحدٍ ووحيد تسلكه المجتمعات إلى تغيير أوضاعها ونظام الحكم فيها. في فرنسا وروسيا القيصرية حصل التغيير بثورة شعبية راديكالية ودموية؛ وفي بعض بلدان شرق أوروبا، حصل بثورات شعبية سلمية؛ وفي بريطانيا حصل بتسوية سلمية داخلية بين الأريستقراطية (ومعها الملكية) والبرجوازية الصاعدة، شأن التسوية التي قضت بإعادة تأهيل النظام الامبراطوري في اليابان واقتسام السلطة مع البرجوازية الصاعدة في القرن التاسع عشر، ومثلهما حصل في جنوب إفريقيا بين نظام الأقلية البيضاء والحركة الوطنية الإفريقية؛ وفي قسمٍ كبير من أوروبا والعالم حَصَل التغيير الديمقراطي من طريق الاقتراع؛ أما في أمريكا اللاتينية، فكان الطريق إليه من خلال التوافق بين النخب العسكرية الحاكمة (الفاشية سابقاً) والحركات الديمقراطية في جنوب القارة كما في وسطها.
للتغيير الثوريُّ شرعيتُه، مثلُ ما للتغيير الديمقراطي الشرعيةُ عينُها. قد لا يكون التغيير بالوسائل الديمقراطية ممكناً في بعض البلدان ولعل ذلك في أكثرها أو قد يتعذر على مجتمعٍ مسجون في أقفاص الاستبداد والفساد والحيْف. وفي بيئةٍ من هذا النوع، قد يتوافر إمكانُ الثورة الاجتماعية إن كانت قواها على مستوى من النضج والجاهزية كبير. وقد تأخذ الثورةُ شكل صدامٍ مسلح، كما حصل في الثورتين الفرنسية والبلشفية، مثلما قد تسلك نهجاً شعبياً مدنياً سلمياً، إن كانت قواها عريضة وقويةَ التأثير، بحيث لا تحتاج إلى سلاح. وفي الحالات جميعاً لا يُسْأل مجتمعٌ عن اختياره سبيل الثورة الشعبية، وإنما يُسْأل النظامُ الحاكم فيه عن أسباب دفْعه الشعب إلى خيار الثورة. الثورة تكتسب شرعيتها، هنا، من حق الشعب والمجتمع في تغيير أوضاع البؤس والاستبداد. والسلطة التي تنشأ من رحم الثورة تستمدّ شرعيتها السياسية من الثورةِ عينِها التي قادتْها أو شاركت فيها، سواء كانت سلطةَ فريقٍ واحدٍ متجانس هو مَن قاد الثورة أو سلطةً انتقالية بين القوى المشارِكة فيها أو أكثرها. وليس لأحدٍ أن يطعن على شرعيةٍ سياسيةٍ مصدرُها الثورة الاجتماعية، إذا كان الشعبُ نفسُه قد ارتضاها.
غابتِ الثورة في الأفق الفكري لماكس فيبر، فلم يستدخلها ضمن مصادر الشرعية. ولعلّه لم يكن يرى فيها سوى الطريق الذي ستسلكه الحركات الاشتراكية والثورية، المعادية للرأسمالية، للوصول إلى السلطة وتغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يَعُدُّهُ هو ذورةَ تجسيد العقلانية. ولم تكن الشرعية الثورية وحدها ما غاب في تصنيفه، وإنما غابت إلى جانبها شرعيةٌ أخرى رديفٌ في القيمة هي شرعية الإنجاز؛ وهي ليست كسابقاتها شرعية سياسية، بل يمكن حسبانُها شرعية شاملة: سياسية واجتماعية وتنموية…الخ، أو قُل هي شرعية سياسية، لأنها مبنية على قدرةٍ إنجازية تتحصَّل بها مقبوليتُها المجتمعية.
تعني شرعيةُ الإنجاز الشرعيةَ التي تُحْمَل على أعمالٍ اقتصاديةٍ وتنموية واجتماعية، ذاتِ أثرٍ ملموس في حياة مجتمع ما، تنهض بها سلطةٌ سياسيةٌ منتَخَبَة أو غير مُنْتَخَبَة، تتأتى منها نتائج سياسية، عدّة، منها حصول تلك السلطة على التأييد والرّضا من قِبَل الجمهور الذي يشعر بعظيم عائدات ذلك الإنجاز عليه من قِبل نخبته الحاكمة.
قلنا إن السلطة التي تَحْمل عبء ذلك الإنجاز قد تكون منتَخبة وقد تكون غيرَ ذلك. في الحال التي تكون فيها منتَخَبَة، تقترن لديها شرعيتان: الشرعية الديمقراطية (والأدق الانتخابية). وشرعية الإنجاز. أمّا في الحال التي لا تكون فيها سلطةً منتَخَبَة فإن ذلك لا ينال من شرعيتها، لأنها تعوِّض عن نقص الشرعية الانتخابية بما أنجزتْهُ ونال رضا من الشعب. على أن شرعية الإنجاز ليست، دائمًا، متأتاة للسلطة المنتخَبة ؛ فكم من نخبةٍ حاكمة وصلت إلى السلطة من طريق الاقتراع، لكنها أخفقت في إجابة أيٍّ من مطالب الشعب وجمهورها الناخب، وبعضُها اعترى حكمَه الفساد. وهكذا ليست الديمقراطية وصفةً ناجعةً، بالضرورة، لتحقيق رأسمال الإنجاز، والديمقراطيات قد تتعثر كما تتعثر الأنظمة السياسية غير المنتَخَبَة، بل تقوم من تجارب العالم المعاصر أدلّة على أن كثيراً من الأنظمة الأخيرة أفلح في إنجاز معدلات من التنمية والتقدم من غير أن يكون ديمقراطياً (كما في تجربة بعض النمور الآسيوية). ليس مقصِدنا، هنا، إلى ذمّ الديمقراطية ومدح نقائضها، وإنما يُهمِّنا أن نبدّد عقيدة الربط الماهوي بين الديمقراطية والتنمية والتقدم. إن تجارب الدول الحديثة والمعاصرة تُطلعنا على حقيقة ليست قابلةً للتجاهل: إنّ أنظمةً سياسية غير منتخبة؛ أتت إلى السلطة بالثورة، أو بعملية التحرر الوطني، أو حتى بالانقلاب العسكري، حققت إنجازات كبيرةً وبعضها مذهل في ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وأشبعتْ حاجات شعوبها، وأبْدَت من الكفاءة والعقلانية في إدارة الدولة والمجتمع والاقتصاد ما فاق كلّ توقّع. وسيكون سخيفًا أن يقال في حقّها إنها غير شرعية، لأنها ليست منتَخَبَة على المعيار الغربي! هل في وُسْع أحدٍ أن يشك في شرعية الأنظمة التي قادت نُخبُها حركات التحرر ضد الاستعمار قبل أن تصل إلى السلطة؟ إنّ وراء هذه السلطة إنجازاً كبيراً هو دحر الاحتلال ونيْل الاستقلال الوطني. وهل في الوسع الشك في شرعيةِ نظامٍ مثل النظام الناصري في مصر، بدعوى أنه وصل إلى السلطة من طريق قلب نظام الحكم بالقوة العسكرية؛ ماذا عن إنجازاته التنموية والاجتماعية والوطنية التي أدخلت مصر إلى العصر الحديث، وقضت على التهميش والأمية، وحوّلت القاهرة إلى عاصمة من عواصم السياسة الدولية؟ ثم هل يَسَعُ أحداً أن يطعن على شرعية النظام السياسي الصيني، بدعوى أنه غير ديمقراطي؟ من يقول ذلك ينسى اثنين من أضخم إنجازاته بل من أضخم الإنجازات في العالم في السبعين عاماً الأخيرة: قيادة حركة التحرر الوطني في الصين، والقضاء على الفقر والأمية والتهميش، وتحويل الصين في أقل من ربع قرن إلى ثانية أقوى قوة اقتصادية في العالم.
هكذا يتبدّى كم هو ضروري مراجعة الكثير من اليقينيات الفكرية والسياسية في مسألة الشرعية، ونقد النظرة التنميطية والأقنومية إليها، وما تُضمره تلك النظرة من نزعةٍ مركزية أوروبية تتخذ قيم الغرب في الاقتصاد والاجتماع والسياسة معياراً، وتُطالِب العالم باحتذائه باسم «كونيته».
*عن صحيفة التجديد العربي
نشر بها يوم 14 غشت 2015