تمة طرح غير علمي ينسب التنوير إلى حضارة بعينها، فيجعله أوربيا أو يجعله عربياً أو غير ذلك، ومرد الأمر في ذلك، على الأرجح، إما جهل بمضامين التاريخ وحقائقه أو سوء نية تحت ضغط الهوية والقبلية والجغرافيا وغيرها…
عيب وخطورة هذا الطرح يكمن في عدم خدمته للإنسان في نهاية المطاف، إذ عوضاً أن يكون العلم مدخلاً لخدمة الإنسان وعمارته للأرض يتحول (العلم) إلى حاجز أمام خدمة الإنسان، بل ويصبح مدخلاً للنزاع والصراع والحقد بين الناس بدعوى الأفضلية والسمو وغيرها…
ولعل حجم الانتقاد الذي ووجه به طرح ويل ديو رانت وبرتراند راسل برد كل الحضارة إلى الإغريق، من طرف الغربيين أنفسهم دليل على حذر الإنسانية تجاه فكرة تنسيب التنوير والإصلاح إلى حضارة معينة.
بل سنجد هناك من ينبه إلى عدم صواب تصور أو تمثل واحد للتنوير من منطلق أن فعل التنوير في ذاته هو حاصل إرادات متعددة ومتنوعة، ومن المعقول أن الإرادات قد تتلاقى في زمان ومكان معلومين، وقد تتفرق في المكان والزمان وتجتمع في الغاية والهدف (اسبينوزا).
بل هناك من يتقدم أكثر من الآثار الحاصلة آلياً عن اجتماع إرادات بهدف الإصلاح والتجديد والتطوير إلى اعتبار التنوير ما يرشح عن الآثار الآلية والمباشرة عن الإصلاح والتجديد في ذاته، ذلك أنه قد يتم الاتفاق إرادياً على تمكين طبقة مستضعفة أو أقلية من حقوق لم تكن ممكنة سابقاً وقد يتم تأطير وضمان هذه الحقوق بآليات دستورية وقانونية، لكن التنوير قد يكون هو مستوى تجذر الوعي (وعي الدولة والأفراد) بهذا الحق (الجابري).
إنه معنى أن يصبح قول الحقيقة واجباً مهما كانت الظروف والملابسات (كانط).
في مقالته حول التنوير يخلص كانط إلى حقيقتين تؤطران التنوير، كونه نتاج تاريخي لشروط وفاعلين متواترين، وكونه قوة دفع داخلية ذاتية تعتمل في كل فرد.
ونجد أقرب إلى هذه الفكرة في فكر المعتزلة، فكل فرد ينتج أفعاله ويتحمل مسؤولية ما ينتجه. وعليه فما ينتجه من إصلاح أو إفساد هو اعتمال داخلي، ولعل في ميل المعتزلة إلى »العقل قبل ورود السمع« ما يفيد السعي إلى الإصلاح على قاعدة إعمال العقل، لاسيما وأن العقل كان أداة التنوير بامتياز.
ودلالة أن التنوير تراكم تاريخي في الإصلاح والتجديد والتطوير هو جملة الصنائع والأحداث والقرارات النيرة في تاريخ الإنسانية، لاسيما تلك التي تمس فكر وسياسة وقانون وثقافة واقتصاد وعقائد وأديان الجماعات البشرية على امتداد التاريخ…
فقوانين حمو رابي واجتهادات ملوك الهند وحكمة الصين وفلسفات الإغريق وصنائع وقوانين الرومان وسنن الأنبياء والرسل وفلسفات الأنوار واستبصارات المتصوفة واجتهادات الحقوقيين كلها مساهمات في التنوير بغض النظر عن زاوية التنوير ومجاله.
من هذا المنطلق، يصبح من المعقول تجاوز النظرة الجغرافية للتنوير، لأنها في الأساس تعيق صالح الإنسان نفسه.
ومن الجانب الآخر، شكل الدين موضوعاً وحافزاً للتجديد والتنوير فيه، ولا غرو أن تكون الرسالات السماوية تنويراً للإنسانية ووسيلة لهدم سلوكات فاسدة ومحطة من كرامة الإنسان كالعبودية والرق والتسلط باسم السياسة أو المال أو القبيلة أو باسم الدين نفسه.
لقد كانت معركة محمد (ص) معركة ضد فساد في السلوك وتنويراً للناس من مفساد هذه السلوكات على عمارة الأرض، وكان قبله الحكماء والفلاسفة، وكان بعده الحكماء والفلاسفة والعلماء والأطباء والمصلحون…
لكل زمان ومكان تنويره بالضرورة، فما ينطبق على رقعة جغرافية (أ) لا ينطبق على رقعة جغرافية (ب)، لكن وبما أن الإطار التاريخي واحد والغاية واحدة، يلزم أن التنوير كوني مادام العقل هبة إلهية موزعة بالتساوي (ديكارت) مع فارق في كيفية إدارة العقل.
عندما سننجح في التفكير في خدمة الإنسان وعمارة الأرض على قاعدة أن الإنسان اختص بملكة الحكم والعقل (كانط)، سنفهم معنى أن الدين آلية ممكنة لتحقيق خير الإنسانية (ماكس ڤيبر) وليس كل الوسيلة (اسبينوزا).
من هذا المنطلق، تأتي ضرورة النظر في التراث والدين على قاعدة العقل والعلم (الجابري) وبتجديد المنهج في تقويم التراث (طه عبد الرحمان) تحقيقاً لسعادة الإنسان (السهروردي)، لأن سعادة الإنسان سعادة روح وعقل وليس سعادة بدن (ابن مسكويه).