نحن، شئنا أم أبينا، أناس معاصرون، وأهل حداثة، سواء قلنا إن الحداثة صفة لأفراد البشر، أم هي صفة المجتمعات الإنسانية، أم هي صفة للمراحل الزمنية والأعصار. وللحداثة بالطبع درجات ومراتب، قد أكون إنسانا حداثيا، ولكنك أكثر مني حداثة، وربما يوجد من هو أكثر منا نحن الاثنين اكتسابا لهذه الصفة، وانطلاقا من هذه المراتب والدرجات، أمكن الحديث بشأن حداثة ناقصة وأخرى كاملة، بل بمقدورنا افتراض وجود نموذج (pattern) أعلى للحداثة لم يبلغة أحد بعد.
وعلى أية حال؛ نحن نذعن بأننا حداثيون بنحو أو بآخر. بالطبع، لو توخينا الدقة البالغة في الكلام، يمكن الاعتراف بوجود حالات نادرة بين القبائل البدائية لم تحظ إلى الآن بنصيب من الحداثة، ولكن لا ينبغي أخذ هذا النوع من القبائل بالحسبان، لا من ناحية حضورهم الثقافي، ولا من ناحية كثافتهم السكانية بالقياس إلى مجموع البشرية المتحضرة. وهذا الإهمال ليس من باب عدم الاحترام، بل على اعتبار عدم تأثير هذه الحالة النادرة والنائية على نتيجة البحث كثيرا.
نحن إذن حداثيون من جهة، ومؤمنون من جهة أخرى، وحتى لو أخذنا الإيمان بمعني الالتزام بالأديان التاريخية القديمة، فإن عدد الناس غير المؤمنين في العالم سيكون ضئيلا جدا. أغلب الناس في هذا العصر مؤمنون. وللإيمان بالطبع درجات ومراتب أيضا.
ولنتساءل الآن: هل ثمة مفارقة وتناقض في الجمع بين الإيمان والحداثة في المجتمع الإنساني؟ وهل يكون سلوكنا غير متجانس حينما نكون مؤمنين وحداثيين في آن واحد؟ هذا أولا. وثانيا: هل لنا أن نلتزم بأي شكل من أشكال القراءات للدين في هذا العالم الحديث الذي يتجه بنا نحو ما هو أحدث؟ هل بمقدور الإنسان الحديث أن يتمسك بما يشاء من قراءة للدين؟ جوابي للإنسان المعاصر أن يتلقى الدين على غرار ما كان يتلقاه ويقرأه الإنسان القديم المحافظ. وفي ضوء ذلك، إذا لم يكن بوسع هكذا إنسان، القبول بالقراءة التقليدية للدين، فأمامه – إذا أراد أن يتصرف بصورة منطقية متوازنة – طريقان لا ثالث لهما:
الأول: أن يتخلى عن الدين نهائيا، وبالتالي يخسر المزايا والخصائص الإيجابية التي يتوفر عليها الدين على صعيد الفرد (إن لم نقل بوجود هذه المزايا على صعيد المجتمع أيضا). علما بأن تخلي الإنسان عن الدين يعقبه على الأقل شعور بالفراغ الروحي والقلق والاضطراب.
والثاني: أن يقبل الدين بهيئة جديدة وفهم جديد. ولك أن تسمي هذا الفهم الجديد للدين بـ (المعنوية)، كما أصنع أنا، وذلك أن لفظ الدين، في جميع اللغات، يتداعى منه إلى النفوس والأذهان، مداليل ذات إيحاء عاطفي سلبي، عدا ما فيه من مدلول ايجابي. من هنا أفضل التعبير عن هذا الفهم الجديد للدين بـ (المعنوية). ولقائل أن يقول إن هذه المعنوية يفصلها عن الدين بمفهومه التقليدي بون شاسع، ولا أرى غضاضة في قبول ذلك، فأنا على أي حال، أؤمن بهذا الفهم الجديد للدين لا بالفهم والقراءة التي يقدمها لنا المحافظون.
هذا مع الإذعان بأن الفهم التقليدي السابق كانت له في حينه معطياته الإيجابية، ولكنه اليوم غير جدير بأن ننحاز إليه، لا باعتبار الواقع، ولا باعتبار المصلحة. إلا إذا كان همك الوحيد الوصول إلى الحقيقة (الرؤية الواقعية)، وإلا إذا كان همك النجاة (الرؤية النفعية). في كلتا الحالتين لا يمكن الدفاع عن الدين بالمفهوم القديم.
هذا هو الذي يدعوني إلى التأكيد بإصرار على حاجتنا اليوم إلى المعنوية (SPIRITUALITY) لا إلى الدين بمفهومه التقليدي، رغم أني لا أنكر المعطيات الإيجابية للدين على مر التاريخ، وأعتقد بوجوب عدم التخلي عن الدين(1) ثم قد يقال- بعد بياننا لخصائص المعنوية – أنها هي الدين بلبه وجوهره، ولا مانع عندي من القبول بذلك أيضا.
ولكي نكون لأنفسنا تصورا صحيحا عن المعنوية، لابد لنا أن نفهم السبب في عدم قدرة الإنسان المعاصر على التعايش مع الفهم التقليدي التاريخي للدين، ولإدراك هذه المسألة يجب الرجوع إلى مفهوم الحداثة واستجلاء عناصرها وسماتها ومقوماتها، وفيما يلي عرض موجز لذلك.
– عناصر الحداثة وسماتها
ثمة أوجه اختلاف بين إنسان الحداثة والإنسان التقليدي سواء من الناحية العقائدية المعرفية، أو من الناحية العاطفية الشعورية، أو من ناحية الإدارة والعمل. في هذه الدوائر الثلاث يوجد تفاوت بين إنسان الحداثة وإنسان ما قبل الحداثة.
وبشكل عام، بوسعنا تصنيف عناصر الحداثة إلى صنفين رئيسيين:
1- عناصر يمكن اجتنابها.
2- وأخرى لا يمكن اجتنابها.
أي أن هناك جملة سمات حصلت للإنسان الحديث بحيث لا يمكن تجريده منها بنحو من الأنحاء. وهناك مجموعة سمات يمكن أن يتجرد الإنسان الحديث عنها، ضمن عملية سآتي على توضيحها لاحقا، مثلا: أحد خصائص الإنسان الحديث وسماته هو الإيمان بالتطور، والقول بأن البشرية تسير نحو الأمام يوما بعد آخر. بيد أني أعتقد أن هذه الخصيصة والسمة مما يمكن سلبه عن الإنسان الحديث، أي بالإمكان إقناع الإنسان الحديث بأن القول بالتطور يمكن التخلي عنه. بالطبع هذا ليس بالأمر السهل، ولكنه ممكن على كل حال.
لو وافقنا على تصنيف سمات الحداثة وعناصرها إلى سمات: قابلة للاجتناب، وأخرى غير قابلة، يتعين علينا أن نذعن أن سمة ما من سمات الحداثة إذا كانت غير قابلة للاجتناب، فلابد من الإقرار بها كأمر واقع في وجود الإنسان الحديث، سواء كانت تلك السمة محمودة أو مذمومة، حسنة أم قبيحة، تعجبنا أم لا تعجبنا، وحتى لو أردنا أن نصنع من الإنسان الحديث إنسانا دينيا، يجب أن ندرك أن ذلك لا يتأتى دون الأخذ بالاعتبار تلك السمة أو الخصيصة. دعوني أضرب مثالا على ذلك. قبل ألف عام، كان أجدادنا يرتقون سطوح المنازل في ليالي الصيف ويشيرون لأطفالهم نحو السماء لينظروا إليها.. ماذا كانوا يرون في السماء، وماذا كانوا يريدون من أبنائهم أن يروا ويقرأوا فيها؟ كانوا يريدون تنبيه أولادهم إلى عظمة الخلقة، فيقولون لهم: نحن البشر لو أردنا أن نبني سقفا، ولو كان صغيرا، سنحتاج – لا محالة -إلى أعمدة ترفع السقف، ولكن الله بنى هذا السقف الكبير العالي دون أعمدة وجدران، كانوا يتصورون السماء سقفا، وكانوا يلقنون أولادهم أن قناديلنا تحتاج دائما إلى الزيت لكي تبقى متوهجة، بينما قبة السماء تشتمل على قناديل تتلألأ لمئات السنين دون أن يخفت نورها ووهجها. السقف بلا أعمدة والقناديل بلازيت، كانت تقود أذهان أجدادنا القدامى لرؤية القدرة الإلهية الكاملة وراء هذا الإعجاز. ولكن ما هي العقلية التي ننظر بها نحن إلى السماء اليوم، وما هي الأشياء التي نراها فيها، ونحرص على نقلها لأطفالنا؟
ليس ثمة فرق بين الانطباعات الحسية (impression) التي نحملها، والانطباعات الحسية التي كان يحملها أجدادنا. النور الذي كان يخترق عيونهم هو ذات النور الذي يخترق الآن عيوننا نحن. لم تتغير تركيبة عيوننا ولا طبيعة النور. وما زالت النجوم تتألق وتتوهج، وتحدث في أعصابنا ذات التأثيرات الحسية القديمة التي كانت تحدثها في عيون آبائنا وأجدادنا.
ولكن ثمة اختلاف جوهري كبير بين ما كانوا يقرأون من خلال هذه الانطباعات وبين ما نتصوره نحن الآن. لم يعد بوسعنا النظر إلى السماء كسقف والى الكواكب كقناديل، فقد كشفت النظريات الجديدة النقاب عن معان أخرى لهذه الأمور، بحيث لم يعد بمقدورنا حتى تلقين أنفسنا فضلا عن غيرنا، هذه الأمور. وهذا معنى ما قلناه من أن بعض عناصر الحداثة غير قابلة للتجريد عن الإنسان الحديث. حينما نعتبر بعض عناصر الحداثة مما لا يمكن اجتنابه والتخلص منه، فلا محيص لنا من التعايش معها، حتى وإن بدت باطلة في نظرنا، على غرار سلوك الطبيب مع المريض عندما يدعوه للصبر والتحمل حتى تنتهي الدورة الطبيعية للمرض، إذ لا جدوى من وصف العلاج مادام لم يكمل المرض دورته، وإذا اكتملت الدورة فلا داعي لوصف العلاج، فلقد شفي المريض. إن من يريد دعوة الإنسان المعاصر إلى الدين، يجب أن يكون ملما إلماما وافيا بأسلوب التعامل مع النوع غير القابل للتفكيك من عناصر الحداثة.
أما العناصر الممكنة التفكيك عن الإنسان الحديث، فهي تنقسم بدورها إلى قسمين: العناصر الحقة القابلة للتفكيك، والعناصر الباطلة القابلة للتفكيك، أو العناصر الحسنة والعناصر السيئة. فإذا كانت هذه العناصر من القسم الأول (الحسن الحق) فلا معنى لمعارضتها بل اللازم قبولها، إما إذا كانت من القسم الثاني (الباطل السيء) فلابد إذن من مناوءتها، ولكن بالأسلوب الذي يفهمه الإنسان الحديث من مصطلح المناوءة، أي المناوءة العملية.
ملخص القول، إننا معنيون فقط بهذا القسم الأخير، إذ لا قبل لنا بالعناصر غير القابلة للاجتناب، ولا مشكلة عندنا مع العناصر القابلة للاجتناب إذا كانت من القسم الأول الحسن، بل نرحب بهذا النوع من العناصر، فلا يبقى إلا القسم الثالث والأخير، وهي العناصر غير القابلة للاجتناب إذا كانت من النوع الباطل الرديء.
– مفهوم المعنوية
لا يدرك الإنسان ضرورة المعنوية إلا حين يستشعر أمرين: الحاجة إلى الدين، والإحساس بأن الدين بمفهومه التقليدي التاريخي الأصولي لا ينسجم مع عناصر الحداثة التي لا يمكن اجتنابها، أو عناصر الحداثة الممكن اجتنابها ولكنها حق. لو شعرنا بهذين الأمرين معا لن يكون بوسعنا الحديث عن الدين بمعناه المتعارف، في هذه الحالة إذا تعارض الدين مع عنصر غير قابل للاجتناب من عناصر الحداثة، فلن يكتب له النجاح، وكذلك لو تعارض الدين مع عنصر حق وحسن من عناصر الحداثة القابلة للاجتناب، حينها سنلجأ إلى القول بالحاجة إلى قراءة جديدة للدين لا تتعارض أو تتقاطع مع كلا النوعين من العناصر الآنفة الذكر. وهذا هو ما أعبر عنه بالمعنوية.
العقلانية هي أكبر وأبرز خصائص الحداثة غير القابلة للاجتناب. ومن هنا فإن أول خصائص المعنوية، قدرتها على التوافق مع العقلانية والانسجام معها. حينئذ يمكن تعريف المعنوية بنحو آخر، والقول بأنها الدين المعقلن. وحتى يتعقلن الدين لا بد من إنجاز عدة مهام.
ولا أعني بالضرورة القيام بهذه المهام على صعيد المجتمع، وإنما بمقدور كل شخص أن يقوم بمفرده بها إذا كان يرغب بأن يكون من أهل المعنى. وليس من الضروري أن تبادر للقيام بهذه المهمة، مؤسسات أكاديمية ومراكز دراسات على صعيد اجتماعي واسع، وإن كان هذا الأمر مطلوبا في حد ذاته. المشكلة أن الفرد لا يستطيع البقاء بالانتظار حتى يتم تشكيل تلك المراكز والمؤسسات، وبالتالي هو مضطر للمبادرة إلى هذا الأمر بمجهود فردي، لكي يصحح نظرته للدين ولنفسه. هذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: إن هذه الأعمال التي ينبغي لكل فرد القيام بها، ليست مجرد تأملات نظرية، بل لا بد أن تكون مقرونة بنوع من الفعاليات والرياضات الباطنية، كي يتاح لصاحبها التدين بالدين العقلاني، أو يكون معنويا. وهنا أرى من اللازم تعداد عناصر الحداثة وسماتها غير القابلة للاجتناب.
– عناصر الحداثة غير القابلة للاجتناب
فيما يلي استعراض موجز للعناصر والظواهر التي لا يمكن سلخها عن الحداثة، وهي:
1- اتصاف الحداثة بكونها منهجا برهانيا استدلاليا:
الأمر الذي لا يجعلها على وفاق مع القراءة التقليدية للدين التاريخي، كون الأخير ذات طابع تعبدي. والاستدلال والتعبدية على طرفي نقيض. ويعني مفهوم التعبد، أنني حين أقول إن (أ) يعني (ب)، وتطالبني بالدليل، أكتفي بالقول في معرض الجواب: لأن (س) من الناس قال كذلك. هذه هي الهيئة العامة للاستدلال على طريقة التعبد. وبقدر ما يستفزك هذا النحو من الاستدلال فأنت أقرب إلى عامل الحداثة. إنها لمن المغالطات الكبيرة في نظر الإنسان الحديث أن يقال له أن (أ) يعني (ب) لأن (س) قال ذلك، ولابد من التعبد بقوله!
أما المنهج البرهاني فله صورة أخرى مغايرة؛ فحين أقول إن (أ) يعني (ب) وتطالبني بالدليل، عليّ أن أجيبك مثلا بالقول: لأن (أ) يعني (ج)، و(ج) تعني (باء)، فنستنتج أن (أ) تعني (ب) وقد لا توافقني الرأي بأن (أ) تعني (ج)، وحينئذ لابد من الاستمرار بعملية الاستدلال، فأقول مثلا إن (أ) يعني (د) و(د) تعني (ج) فإذن (أ) تعني (ج)، وهكذا حتى تقتنع بمسير الاستدلال.
لن تكون حداثيا ما لم تكن مستعدا للمضي قدما بالاستدلال مادام الطرف المقابل ماتزال عنده أسئلة واستفهامات، فلو وصلت في الاستدلال إلى مرحلة أن (ك) تعني (ل)، وسألك المقابل عن الدليل، فعدمته، وتشبثت بقول فلان أو فلان، تكون بذلك قد لجأت إلى التعبد، وهجرت دائرة الحداثة،لأن الأخيرة منوطة بعدم التهرب من الاستجابة المواكبة للمطالبة المستمرة بالدليل. وإذا بلغنا النقطة التي نعدم فيها الدليل، فلابد لنا من السكوت حفاظا على سمة الحداثة في سلوكنا، وإلا فإن الإصرار على النتيجة دون تقديم دليل هو التعبد بعينه، ومعه لا مجال لدعوى الانتماء إلى عالم الحداثة.
إن أول عمل في طريق تحقق المعنوية هو إلغاء عنصر التعبد من الدين، قدر الإمكان. وأورد القيد الأخير (قدر الإمكان) لسببين أذكرهما لاحقا. وتعود الاستدلالية في جوهرها إلى ما يعبر عنه تيليش بالاحتكام للذات (Autonomy) لا الاحتكام للغير (Heteronomy) . الإنسان الاستدلالي ليس مستعدا إلا لقبول حكم نفسه، بينما الإنسان المتعبد مستعد للاحتكام للغير. نزعة الاحتكام للغير هي التي قادت أمثال فويرباخ وهيغل وتيار اليسار من تلامذته، إلى فكرة الانفصام عن الذات. يرى هيجل أن كل شخص يتسم بنزعة الاحتكام للغير، فهو يعاني من انفصام الشخصية، وذلك بغض النظر عن طبيعة الشخص الذي يحتكم إليه، ويتعبد بآرائه وأقواله، والذي قد يختلف من ثقافة لأخرى، ومن زمان لآخر، ومن فرد لآخر، ومن سن لآخر، ولكن ماهية التعبد تبقى هي هي، رغم هذه الفوارق والاختلافات. التعبد هو القبول بالرأي أو الحكم لمجرد أن مصدره فلان.
2- عدم الوثوق بالتاريخ وقلة الاعتماد عليه:
طبعا ليس المراد من عدم الوثوق بالتاريخ، افتقار إنسان الحداثة للرؤية التاريخية. كيف، ومن الخصائص المعرفية لإنسان الحداثة، امتلاكه لرؤية تاريخية للأشياء. بمعنى أنه لا ينظر إلى الظاهرة بحدود مقطعها الآني فحسب، بل يأخذ بالاعتبار امتدادها في عمود التاريخ، إن منطق الرواية التاريخية يقول لنا إن النظر إلى مقطع واحد من ساق الشجرة لا يكفينا في التعرف عليها بالكامل، بل يجب النظر إلى جميع المقاطع. إنسان الحداثة يقول بعدم إمكانية معرفة حقيقة الحكومة أو الدين أو الخط أو الرياضة بمجرد الاطلاع على وضعها الحالي، بل لا بد من دراسة الأوضاع التي مرت بها هذه الظواهر والمقولات عبر التاريخ، وطبيعة التحولات التي شهدتها.
مع ملاحظة أن هذا النوع من عدم الوثوق بالتاريخ لا يعني بحال، عدم الاستفادة من العبر والدروس التاريخية بل المراد إن الإنسان الحديث، خاصة بعد زمان ديفيد هيوم، أيقن بعدم إمكانية الوصول إلى نتائج يقينية في باب التاريخ. عدم الثقة بالتاريخ يعني أن التاريخ علم احتمالي لا قطعي. وهذه (اللاقطعية) صادقة بحق كل مقطع تاريخي، حتى لو لم يمض على الحادثة سوى بضع دقائق. ما أن تدخل الحادثة في عمود التاريخ، حتى يصعب الحكم بشأنها حكما جزميا يقينيا على غرار ما هو موجود في الرياضات من الجزم بأن 2+2=4.
بل لا يمكن الوثوق بالحادثة التاريخية حتى بمستوى اليقين الحاصل في مجال العلوم التجريبية، مثل العلم بأن «الماء يغلي في درجة 100 مئوية». لقد لعب هيوم الدور الأكبر في إثبات أن قدرا من الشك موجود دائما بشأن وقائع التاريخ.
إن خصوصية (اللاقطعية) تثير أسئلة كثيرة بشأن الدين، كون الأخير يتوقف على الإيقان بحصول عدة حوادث تاريخية. في كل دين، لا بد من تسليمك بحتمية وقوع جملة من الحوادث التاريخية كمقدمة ضرورية لاعتناق ذلك الدين. لن يكون بمقدورك الادعاء بأنك مسيحي، ومع هذا تنكر قضية العشاء الأخير، وصلب المسيح، وظهوره مجددا في غضون أيام بعد موته. ولكن إلى أي مدى يمكننا الجزم – حقا – بوقوع هذه الأحداث تاريخيا؟ ألفا عام هي المسافة الزمنية التي تفصلنا عن تلك الأحداث، أضف إلى ذلك، أن أحدا لا يؤيد وقوع هذه الأحداث سوى المسيحيين أنفسهم.
على أن هذه الحادثة الدينية لم ينقلها ولا مؤرخ علماني. هذه قضية مهمة. ولديفيد هيوم كلام طريف في هذا الصدد. إذ يتساءل: أي شيء أكثر جدارة بالتصديق؛ حادثة يرويها ألف شخص كلهم مسيحيون، أم حادثة يرويها مئتا مسيحي، وثلاثمئة بوذي، وأربعمئة مسلم، وهكذا؟ واضح أن الحادثة الثانية أجدر بالقبول، لأن الوارد في الحالة الأولى أن يكون لاشتراكهم بالمسيحية دخل في حملهم على الاعتقاد بوقوع تلك الحادثة، بوعي أو بغير وعي. وكذلك الأمر لو كان نصف الألف شخص رجالا ونصفهم الآخر نساء، فإن درجة الوثوق بالرواية ستكون أكثر، لنفس السبب الآنف الذكر، وهو احتمال أن يكون للرجولة دخل في اختلاف الخبر، ولو عبر اللاوعي واللاشعور. والآن لنفترض أن الألف شخص كانوا من أديان مختلفة، وكان نصفهم من الرجال ونصفهم الثاني نساء، وبعضهم أثرياء وبعضهم الآخر من الفقراء، وهكذا بقية الاختلافات، إذ كلما زاد تنوع الجماعة الناقلة للخبر، زادت درجة الثقة والاطمئنان بوقوع الحادثة، ذلك أن كثرة التنوع تعني قلة الخصائص المشتركة، وقلة هذه الخصائص تعني قلة المصالح المشتركة، وحينما تقل المصالح، يتضاءل احتمال التأثر. وفي ضوء ذلك أعاود طرح السؤال الماضي: هل نقلت هذه الحوادث الثلاث من قبل مفكر علماني يتعامل مع الدين بصورة حيادية؛ لا له ولا عليه؟
وعلى أي حال، فإن هذه السمة من سمات الحداثة (أعني عدم الوثوق بما في التاريخ) يظهر أنها مناقضة للدين، وبالتالي نكون مضطرين إذن للتقليل من درجة اعتماد الدين على الحوادث التاريخية، بينما الأمر يختلف على صعيد المعنوية، إذ هناك لا تعد الحوادث التاريخية ركنا من أركان الفكر والسلوك الديني.
3 – الحداثة آنية – مكانية:
بمعنى أن من يقترح عليها حلا لمسألة (نظرية) أو مشكلة (عملية)، فلا بد من اختبار هذا الحل، الآن، وفي هذا المكان، لمعرفة آثاره ونتائجه. ولا يعني هذا أن إنسان الحداثة ينكر بالضرورة وجود الآخرة وحياة ما بعد الموت، بمقدور الإنسان المعاصر أن يؤمن بالآخرة واليوم الآخر وحياة ما بعد الموت، لكن المهم أن يتم اختباره لهذه الأمور الآن، وفي هذه الدنيا التي يعدها مختبره العملي الوحيد. أحد معاني العلمانية هو أن كل ما تقوله وتدعيه، يجب أن يخضع للاختبار هنا، حتى يتسنى لنا التأكد من صحة ما تقول. فلو اقترحت لنا دينا أو مذهبا أو مسلكا لحل مسألة أو مشكلة، ومن ثم وقفت على رؤوسنا وأمرتنا بأن نتبع هذا الحل المقترح بلا نقاش، على أمل أن تظهر نتائجه الايجابية بعد الموت، فإن إنسان الحداثة يرفض التعامل مع القضية بهذا الأسلوب إذ لا معنى له في نظره. إنسان الحداثة لا يقول بأن الحياة بعد الموت ليست موجودة، إنما يقول إنني يجب أن أفهم ذلك الآن. مثال بسيط على ذلك؛ إنك لو ذهبت إلى الخباز لشراء الخبز، ولكنك أعرضت عن الشراء لعدم اختمار الخبز، سيقول لك الخباز: خذ الخبز الآن فإذا وصلت إلى المسجد سيختمر تلقائيا! والآن لو رفضت هذا العرض من الخباز، فهل يكون من حقه القول إنك لا تعتقد بوجود المسجد؟ نعم، من حقه أن يقول إن فلانا من الناس لا يعتقد بكون المسجد مكانا صالحا لاختبار الخبز من جهة الاختمار، وأن المخبز هو المكان الوحيد المناسب للتحقق من هذا الأمر.
هذا المثال المبسط، دوره في بحثنا بيان حقيقة أن ديننا من الأديان إذا ادعى شيئا معينا، فلا بد من اختبار أثر هذا الشيء، في هذا الزمان وهذا المكان، لا في زمان ومكان آخرين. ومن ثم إذا كانت هناك آخرة، فستمثل النتيجة الاستمرارية لما لمسته في الدنيا واستفدت منه، وإن لم تكن هناك آخرة، فأنا لم أخسر الدنيا على كل حال. أما إذا قيل بأنه لا يمكن التحقق من صحة هذا الحل المقترح للمسائل والمعضلات، إلا بعد الموت والدخول في عوالم أخرى، فهذا الكلام مما لا ينسجم مع المنهج العلماني في التعامل مع الأشياء.
هذه الخصوصية للحداثة، تجعلها على غير وفاق مع نزعة الاهتمام بالآخرة التي تشترك بها الأديان. الإنسان الحديث شبيه بعرفاء الثقافات السابقة على الحداثة، ومن ناحية كونه يتعامل بالنقد لا بالنسيئة. ومعنى هذا الكلام على مستوى المصداق، أنه إذا كان يجب علي أن أصلي وأصوم وأحج، فلا بد لي من استشعار آثار هذه الأعمال والممارسات الدينية، أثناء حياتي بهذه الدنيا، عبر الإحساس بالبهجة والراحة والسكينة والأمل والرضا الباطني المعنوي. أما إذا كنت أؤدي جميع الطقوس والعبادات دون أن أجد في نفسي أثرا ملموسا لهذه الأعمال، ويكتفي بالقول لي إن هذا الأثر سيظهر في العالم الآخر، فمن الطبيعي أن أميل إلى الاعتقاد حينئذ بأن الأعمال لا فائدة منها في هذه الدنيا. الفهم الذي يحمله الإنسان التقليدي المحافظ عن الدين هو أننا نقوم بهذه الأعمال والعبادات دون أن نعرف ما الذي يسجله الله في صحائف أعمالنا. لا مكان في القاموس الديني التقليدي لشيء اسمه الشعور بالراحة والأمل والطمأنينة في الدنيا. المهم عنده هو العالم الآخر، بينما الإنسان الحديث يرى أن الدين لا بد أن يؤمن له هذه الأمور في هذا العالم، في الدنيا التي يعيش فيها الآن لا بد أن يكون للعبادة آثار روحية محسوسة وملموسة، على نحو ما نشعر بالشبع بعد عملية الأكل. المعنوية، في ضوء ما مر، نوع نزعة تجريبية في الدين؛ مؤداها ضرورة تجربة الدين في هذه الدنيا. بالطبع يمكن العثور على شواهد دالة على هذا المعنى والمضمون في الآيات والروايات. ولكني لا أريد جر البحث إلى هذا النطاق. يقول بعض العرفاء: إن هذا المعنى هو المراد من آية ﴿من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلٌ سبيلاً﴾ (الاسراء – 72). أي أن من لم ير الأثر في هذه الدنيا فلن يراه في الآخرة. طبعا يمكن القول إننا نستطيع رؤية بعض آثار التدين في هذه الدنيا لا كل الآثار، وهذا كلام معقول. المهم أن نلمس أثرا هنا، وإلا فإن النتيجة المنطقية المترتبة على عدم رؤية شيء، هو لزوم الاستماع إلى كل المزاعم والتدين بها، أي علينا الأخذ بكلام كل من يأتي ويقول لنا عليكم بقراءة كذا وكذا، صباح ومساء كل يوم.. والنتيجة تظهر بعد الموت، وليس لنا أن نعترض عليه، لأنه سلك عين طريقة الأنبياء؛ الحوالة على ما بعد الموت. ولن يكون ثمة معيار واضح لحسم الخلافات الدينية وفض الدعاوى المتعارضة في نطاق الدين. هذا هو المقصود من اتسام الحداثة بكونها (آنية مكانية).
4 – انهيار وتزلزل الأحكام والقوانين الشمولية القديمة:
لقد تزلزلت الأحكام والقوانين الشمولية لما وراء الطبيعة في ذهن الإنسان الحديث لأسباب عديدة. وأن ثمة صفتين رئيستين للأحكام الميتافيزيقية الكلاسيكية:
أ – المبالغة في الشمولية؛ من خط الإبرة إلى عمود البيت؛ كل شيء صالح للتفسير في ضوئها. لو سألت أمثال ابن سينا وهيغل واسبينوزا، وآخرهم هوايتهد، عن أي شيء، ينبرون لتفسيره وإعطائه مكانه الخاص به في منظومتهم الفكرية التي يعتبرونها شاملة لكل شيء في عالم الوجود. لديهم إجابات جاهزة عن كل سؤال، سواء تعلق بما قبل الموت أو بما بعده، بالحيوان أو الإنسان أو الجماد أو النبات.. من هنا يقال إن نظريات الميتافيزيقيا تتصف بالشمولية والجامعية (Comprehensive). لا يوجد بين علماء ما وراء الطبيعة الأقدمين من يقول: أنا مختص في باب الجبر، وبالتالي لا تسألوني عن الجوهر والعرض. أما اليوم، فعندما تذهب إلى جامعة كمبريدج وتجد فيها أستاذا مختصا في الجبر، وتسأله عن الجوهر والعرض أو الزمان والمكان يجيب إنها ليست في نطاق اختصاصه، ولن يثير ذلك دهشة عندك، بل على العكس تدرك أن الرجل من أهل الفن والاختصاص.
ب – تتميز أفكار ما وراء الطبيعة بأنها: عقلانية، وشهودية، وأسطورية في آن واحد، أي أن ثلاثة أمور تتعاطى معها وتشكل مصادرها الأولية المعتمدة، العقلانية تعني العلية والاستدلالية (العقل هنا بمعنى reason)؛ والشهودية بمعنى الاعتماد على العقل الشهودي (intellect)؛ والأسطورية تعني اشتمالها على قضايا ميثيولوجية.
إن نظريات ما وراء الطبيعة تستمد رصيدها وتتغذى على هذه المصادر الثلاثة؛ العقل الاستدلالي، والعقل الشهودي، والعقل الأسطوري. هكذا كان ابن سينا والملا صدرا وابن ميمون وهيغل وتوما الأكويني وأمثالهم. أما اليوم فإن جميع هذه النظريات فقدت بريقها في نظر إنسان الحداثة، وتزلزلت بل انهارت لأسباب رئيسية ثلاثة. هذا هو نوع آخر من عدم الوثوق، يتعلق بما وراء الطبيعة. هذه الخصوصية للحداثة تتنافى مع حقيقة كون الأديان ذات طابع ميتافيزيفي ثقيل. والثقل هنا بمعنى الوزن الكبير والصلابة الشديدة. لا يمكن لإنسان الحداثة أن يقبل أو يتعايش مع هذه الميتافيزيقيا الثقيلة التي تتصف بها الأديان. مثال على ذلك؛ أنت قد تتمرض وتذهب إلى العيادة ليفحصك الطبيب ويصف لك العلاج المناسب فتتناوله كي تتحسن صحتك. ولكن ماذا لو أبلغك الطبيب بأن هذه الوصفة لن تكون مؤثرة ما لم تعتقد بأنه حاصل على الشهادة من الجامعة الفلانية، وإلا فلا أثر للدواء. من الواضح أنك ستصاب بالذهول من كلامه هذا. والآن لو لم يقتصر الطبيب على ذلك وطالبك، بالإضافة الى هذا، بالاعتقاد بأن الطبيب فلانا وفلانا هم من تلامذته، وذلك كشرط ثانٍ لتأثير الدواء. ماذا سيكون رد فعلك إزاء هذه المطالبات المقرفة؟… دون شك إن إكثاره من هذه الشروط والمطالبات، تورثك المزيد من الشك في مؤهلاته كطبيب.
هكذا الحال مع الأديان التقليدية، حيث تشترك جميعا – مع اختلاف الدرجات – باعتمادها بنحو أو آخر على قناعات ميتافيزيقية ثقيلة؛ بمعنى أنه يتعين عليك لكي تفوز بالنجاة، أن تعتقد بقائمة طويلة من الغيبيات. يقول كيركغارد: «إن النجاة تحملنا على الاعتقاد بكثير من القضايا المتزلزلة». أما لو قال لنا الطبيب بأن هذه الوصفة ستنفعك سواء اقتنعت بشهادتي وكفاءتي ووثاقتي أم لا، فلا شك أن ذلك سيحملنا على الاعتقاد بصحة هذه الوصفة، لعدم وجود أمور ميتافيزيقية وراءها، ولكونها لا تلزمنا بالاعتقاد بأمور كثيرة خارج نطاق الدواء وأثره.
الأديان ذات طابع ميتافيزيقي مكثف، وان اختلفت بدرجة ذلك. يقول بوذا في هذا المجال: أخضعوا ما أقوله للاختبار، فإن صح فاعملوا به، وإلا فلا، وكان يؤكد دوما على عدم كونه معصوما من الخطأ، ويحذر أتباعه من التعامل معه على غير هذا الأساس. (بالطبع لم يلتزم البوذيون بهذه النصيحة فأخذوا يؤلهون بوذا، وهذه القصة تعود إلى مشكلة تبحث في علم الاجتماع الديني). على أي حال، ثمة تلازم بين الأديان وبين الإيمان بما وراء الطبيعة، فالبوذية نفسها تفرض على أتباعها الإيمان بالتناسخ وبكارما وسامسارا، ومن لا يؤمن بذلك لن يكون من أتباع بوذا حقا!
الواقع، إن المعنوية نوع ديانة؛ تختزل فيها الجوانب الميتافيزيقية إلى حدود دنيا. هذه الأيام هناك من يروج لأساليب علاج روحي، فيقول مثلا: اعمل هذا الـ (meditation) وسترى النتيجة في غضون ثلاثة أشهر دون أن يلزمك الاعتقاد بشيء. لقد أصبح طبهم الروحي شبيها جدا بطبهم البدني الجديد، حيث لا ضرورة فيه للاعتقاد بأي شيء، كي تكون الوصفة الطبية مؤثرة. هذا النوع من الطب الروحي يمثل مظهرا من مظاهر المعنوية، وذلك أن البعد الميتافيزيقي فيه مخفف إلى أبعد الحدود.
5 – سلب القدسية من الأشخاص:
إن أحد سمات الحداثة هو الدعوة للمساواة (Egalitarianism). الحداثة تنظر إلى جميع أبناء البشر بنظرة واحدة من الناحية المعرفية. المساواة تعني النظر إلى الجميع بعين واحدة، ومعنى ذلك أن كل من يدعي شيئا فلا بد أن يأتي بالدليل عليه، فإن فعل قُبل كلامه، وإلا فلا، وهذا يعني تجريد الأشخاص من (القدسية)، التي هي لفظ مبهم وغير مفهوم، لكنني لم أعثر على غيرها.
وعلى كل حال، حينما أقول (تجريد الأشخاص من القدسية) تفهمون معنى ما، وهذا المعنى هو مرادي من التعبير. هذا الأمر يتقاطع مع ما هو سائد على صعيد الأديان من القبول بتقديس الأشخاص، بل وتأليههم أحيانا. بوذا الذي كان يحذر أتباعه من تقديسه صار في نظرهم إلها، فما ظنك بأولئك الذين كانوا يرون لأنفهسم مكانة متميزة عن الناس. طبع الإنصاف يقتضي هنا الاعتراف بأن أحدا من مؤسسي الأديان والمذاهب المعروفة في عالم اليوم لم يكن يرى لنفسه ميزة خاصة تجعله فوق مستوى السؤال والمناقشة. بيد أن حالنا بالنسبة لهؤلاء، حال ذينك المريدَين اللذين تنازعا في أفضلية خط مرشديهما؛ فقال الأول: خط مرشدي أفضل من خط مرشدك، وقال الثاني: بل خط مرشدي هو الأفضل. واحتدم النزاع وقررا الاحتكام إلى نفس المرشدين، فقال أحد المريدين لمرشده: أنا أقول إن خطك أفضل من خط فلان، ولكن مريد فلان يقول إن خطه هو الأفضل، وجئنا نحتكم إليك. تأمل المرشد قليلا ثم قال: للإنصاف، خط فلان أفضل من خطي. خرج المريدان من (المحكمة) فقال المهزوم منهما: إن مرشدي لا يعرف حتى قيمة خطه!
بوسعك القول إن الإنسان، حتى في عالم المعنوية، قد يرجع إلى شخص آخر كالأستاذ (ولا أقول الشيخ أو المرشد أو المريد). ولكن لا ننسى أيضا أن الرجوع إلى الأستاذ غير تقديسه. هذا الرجوع هو بمنزلة الرجوع إلى الطبيب. إنك لا تستطيع أن تطوي العالم كله بحثا عن جميع الأعشاب الطبية وامتحانا لآثارها في علاج مرض جسماني، بذريعة عدم رغبتك باستشارة الطبيب. سيقال لك إنك لا تستطيع تجاهل الطريق الطويل الذي طوته البشرية عبر آلاف السنين لتبدأ من الصفر. عليك – إذن – مراجعة الطبيب، لكن إذا رجعت إليه لا يحق لك القول ما دام الطبيب هو فلان، فإن كل دواء يصفه سيكون ذا أثر. لا ينبغي لك أن تقول إن علينا اختبار كل الأعشاب والأدوية من جديد، كما لا ينبغي لك أن تعتمد اعتمادا مطلقا على قول الطبيب، وتعتقد بأن كل دواء يصفه فهو الداء الصحيح والمؤثر. هاتان حالتان متطرفتان، وعليك انتهاج السبيل الوسط بينهما. لا نبدأ الطريق من الصفر، ولا نثق ثقة مطلقة بما يقوله الطبيب، ما لم نلمس آثاره العملية التي تظهر بعد تناول الدواء.الرجوع إلى الأستاذ في نطاق المعنوية أمر وارد جدا، ولكن بقصد اختصار المسافة، وتفادي البدء من الصفر. ولكن كيف تتم عملية الاختصار هذه؟ الجواب: إنها تتم عبر تجربة الوصفة التي يقدمها الطبيب، فإن كانت مؤثرة فبها، وإلا فلست مجبرا على الالتزام بهذه الوصفة حتى مع عدم التأثير. هذا هو معنى عدم تقديس الأستاذ. نحن نخضع كلام الأستاذ للتجربة والامتحان، فإذا نجح في الامتحان أخذنا به وإلا فلا. هذه هي السمة الخامسة من السمات التي يفتقر إليها الدين التاريخي والقراءة التقليدية للدين.
6 – إن للأديان التاريخية أحكاما ومتعلقات وتبعات؛ يدرك الإنسان الحديث أنها نتيجة اتصاف هذه الأديان بكونها محلية (Locality):
حينما تلقي نظرة عابرة على كل دين ومذهب تاريخي، ستلاحظ أن الكثير مما في هذه الأديان من تعاليم نظرية أو أحكام عملية، ترجع في الحقيقة إلى كون هذه الأديان ظهرت في مقطع تاريخي خاص، وموضع جغرافي خاص، وفي ظل ظروف وأوضاع ثقافية وحضارية خاصة. القرآن يقول: ﴿أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلفت﴾ ولم يقل: «أفلا ينظرون إلى الفيلة كيف خلقت»، بينما أغلب الاستعارات والتشبيهات الواردة في الديانتين البوذية والهندوسية تركز على الفيل، على اعتبار أنه الحيوان الأكثر حضورا في شبه القارة الهندية؛ منطلق هاتين الديانتين.
الواقع أن المعنوية تقتضي تجريد الأديان من كل المتعلقات المرتبطة بخصوصية كونها محلية (Locality). الخصوصية المحلية (Locality) موجودة في جميع الأديان والمذاهب. وتنسحب هذه الخصوصية على نفس الأحكام والتعاليم. وحتى نصل إلى (المعنوية) لا بد من تقليم الأمور المحلية (Local) وصولا منها إلى الأمور العامة (Universal).
حينما نعتقد بأن جميع الناس المتواجدين في أمكنة وأزمنة مختلفة، من الممكن أن يكونوا من أهل السعادة بالرغم من اختلاف عقائدهم، فهذا يعني انك تذعن بأن تلك العقائد المختلف حولها لا دخل لها في تحقيق السعادة أو الشقاء. وهذا يعني بدوره أن تلك العقائد ذات خصوصية محلية (Local).
إن الرؤية التاريخية التي يحملها الإنسان الحديث عن الأديان قادته إلى الإيمان بأن بعض عقائد الأديان وأحكامها وتعاليمها ذات طابع محلي؛ مرحلي وموضعي وظرفي.
اليوم، ثمة روح حاكمة على فضاء المعنوية؛ مؤداها: إن الدين للإنسان وليس الإنسان للدين، أي أن الدين جاء لخدمة البشرية. وعلى حد التعبير العيسوي (السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت). لا يمكن، في ضوء ذلك أن نعطل الخدمة للإنسانية مراعاة لحرمة السبت. هذه القراءة قراءة معاصرة مفادها أن لا شيء أكرم من الإنسان. وحين نقول إن كل شيء (في خدمة الإنسان) فنحن نقصد المعنى الدقيق لما بين الحاصرين، وليس الخدمة التي تتركز على الجانب المادي في حياة الإنسان. وفي تقديري، أنه لا بد للمعنوية أن تتخذ لنفسها (شاكلة) على نحو ما أبينه، وعلى الأديان، إذا أرادت أن تكون في خدمة الإنسان الحديث، أن تنظم نفسها على هذه (الشاكلة) أيضا، وحينها يلزمها القيام بجميع الأعمال التي مرت الإشارة إليها.
أول الأعمال التي يجب القيام بها على خطى تحقيق (الشاكلة) المعنوية، هو تحديد مشكلات الإنسان ومعضلاته. لو تطالع الكتب المؤلفة في مجال الطب النفسي وعلم النفس، أو تلقي نظرة عابرة عليها، ستدرك بطبيعة الحال ما هي المشاكل والمعضلات النفسية التي يعاني منها البشر. ففي هذه الكتب يمكن العثور على الأمراض والمشاكل مصنفة في أنواع وأقسام. وكذلك لو طالعت كتب الاجتماع وخاصة ما يؤلف منها في دراسة الأمراض والعاهات الاجتماعية، ستواجه هناك أيضا قائمة عريضة من المشاكل التي يعاني منها إنسان اليوم على المستوى الاجتماعي. وكذلك الأمر مع كتب الاقتصاد والبيئة والطبيعة والفكر والثقافة. ولو جمعت كل هذه المشاكل والعاهات في قائمة واحدة، فسوف يربو العدد على الآلاف من المشاكل الفردية والجماعية، الفكرية والثقافية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، العلمية والتربوية، المعرفية والعقائدية، النفسية والعاطفية، والمشاكل المرتبطة بميدان الإدارة والعمل.
وبنظرة فاحصة في هذه القائمة الطويلة من المشاكل والمعضلات سنكتشف أنها منتظمة في سباق طولي، بمعنى أن بعض هذه المشاكل ناشئ عن البعض الآخر منها؛ بحيث لو لم تكن هذه لما وجدت تلك، وهكذا في سياق ترتيبي متعاقب. يتعين على كل دين أن يكشف للإنسان الحديث عن تلك المشاكل التي تمثل الأرضية لبقية المشاكل والمعضلات، بنوعيها النظرية والعملية. ومن هنا، فإن مجرد تحديد المشاكل على كثرتها لا يحل العقدة، بل لا بد من رسم المخطط الهرمي المقلوب لهذه المشاكل، وتسليط الضوء على المشكلة الأساسية، ولذلك ثلاث حالات وصور: أما أن نعرف ما هي المشكلة التي تنبع منها سائر المشاكل والمعضلات، أو أن نعرف سبب المشكلات، أو أن نعثر على أكثر المشاكل والمعضلات. هذه هي المرحلة الأولى.
والمرحلة الثانية هي معرفة جذور هذه المشاكل وعللها، أما المرحلة الثالثة فهي محاولة التعرف على طريقة الحل لتلك المشاكل. والمرحلة اللاحقة هي ماهية الأساليب العملية الكفيلة بالوصول إلى هذا الهدف، وذلك لأن من الممكن اكتشاف حل نظري لمشكلة معينة، ومع ذلك نجهل الأسلوب العملي لتحقيق هذا الحل. لا يكفيك أن يقول لك الطبيب النفساني: إن مشكلتك هي الحسد والحل أن تتفاداها. المهم أن يبين لك طريقة عملية للتخلص من الحسد.
والمرحلة الخامسة والأخيرة معرفة ما هي الضمانة للنجاة. ذلك أنني قد أوفق في تحديد المشكلة، وتشخيص طرق علاجها، ولكن من يضمن لي أن أوضاعي سوف تتحسن؟!
في الديانة الهندوسية يقال عادة إن الضامن لتحسن أوضاعك هو قانون (كارما). وفي المسيحية؛ الضامن هو لطف الإله، أي لطف شخص لا قانون. إذا تمكن كل دين من صياغة منظومة ذاتية على هذا النحو والشاكلة، فسوف يكتب له النجاح في دنيا اليوم، علما أن صياغة منظومة كهذه مرهون بإنجاز الوظائف التي تمت الإشارة إليها آنفا.
وفي تقديري، أن المسألة والمشكلة الأساسية للبشرية تكمن في العذاب والألم والمعاناة، ولا بد من العمل على تحديد سبب هذا الألم، والسبل العملية لرفعه، وما هي الضمانة للسعادة والنجاة (النجاة هنا بمعنى التخلص من سبب الألم أيا كان).
علينا السعي للجمع بين العقلانية والمعنوية، لكي لا نواجه مصير الأمم والحضارات التي تمسكت بالعقلانية وضحت بالمعنوية، أو قامت بالعكس، وأدى ذلك إلى بوارها. مثلا، الحضارة الهندية القديمة تمسك أهلها بالمعنوية على حساب العقلانية، فاندرست حضارتهم. والحضارة الغربية الحديثة تمسكت بالعقلانية وضحت بالمعنوية، ولذلك سوف تصل إلى طريق مسدود. وهذا ما دعا موروآ ومن ثم اندريه مالرو إلى القول: إن المستقبل سيشهد زوال البشر، أو بقاء البشر المعنوي، وهذا تحذير صريح من أن الحضارة الإنسانية الحديثة، بسبب افتقارها إلى المعنوية، فهي في طريقها إلى الزوال.