لم تكُنِ النزعةُ القُصْوَوية التي تطلُب في السياسة أقصاها نزعةً سياسيةً مَرَضية خاصةً بالأحزاب السياسية الراديكالية، من النمطين اليساري والإسلامي، فقط وإنما كانت، وما زالت،
تستبد بسياسات الدول وأنظمة الحكم في العالم المعاصر، وتعبّر عن نفسها في خيارات سياسة اندفاعية وهوجاء غالباً ما تنتهي، بمن ينتهجونها وببلدانهم، إلى نهايات دراماتيكية. ولا يتعلق الأمر، في هذا، فقط بسياسات أنظمة الحكم في بلدان الجنوب «العالم الثالث»؛ حيث نخبُها الحاكمة لا تصل إلى السلطة، في الغالب من الأحوال، من طريق الاقتراع العام والإرادة الشعبية، وإنما تفصح عن نفسها كذلك في تجارب تاريخية متعددة في سياسات دول الغرب نفسها؛ حيث النظام السياسي فيها مبناهُ على العقلانية، وحيث النخب الحاكمة منتَخَبة من الشعب وتتمتع بقدرٍ من الشرعية الديمقراطية مؤكَّد. وإذا كان من فروقٍ بين القصووية هنا وهناك؛ في مجتمعاتنا السياسية وفي مجتمعات الغرب، فهي في الدرجة لا غير: ومن دون أن يُفْهَم من ذلك أنّ أوضاعَها أسوأ، ووطأتَها أشدُّ، في بلدان الجنوب منها في الغرب؛ حتى لا نقول إن كمَّها يزيد، ومعدّلَها يعلو، في بلدان الغرب، أكثر، في امتداد زيادة مستوى القوة كموردٍ رئيسٍ للسياسة.
تتجسَّد القصووية في أنماطٍ من الحكم، حديثة ومعاصرة، مثل النازية، والفاشية، والديكتاتورية، والكُلاّنية (التوتاليتارية)، ورثت من الإمبراطوريات القديمة أسوأ ما في سيرتها، وزادت عليها كلّ أمراض القوة العمياء وعقيدة العنف في العالم المعاصر. والقصووية، التي نعني في أنماط الحكم هذه، لا تتعلق بسياسات القمع الداخلي للشعوب والمعارضات، المنتهَجَة من تلك الأنظمة، وإنما نقصد بها سياسات الهيمنة والتوسّع والتسلط التي تسلكها الدول، لتوسعة نطاق نفوذها الإقليمي والعالمي، والتنزُّلِ منزلة الأقطاب التي تدير محاور، وتقرّر مصير قسم من العالم كبير. إن مثل هذه السياسات وقد ازدحم بها العالم منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم هي ما يفسّر ظواهر الصِّدام الكبرى التي حدثت، في القرنين الماضيين، وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية والحروب الكولونيالية على المستعمرات، وحروب التحرُّر الوطني، من أظهر ظواهرها؛ مثلما يفسّر المآلات المأساوية التي كان إليها مصير القوى التي استبدّت بها تلك النزعة.
القصووية في سياسات الدول تعبّر عن نفسها في طلب الأهدافِ الأبعدِ حدًّا، وتحدّي الواقع الموضوعي وأحكام ميزان القوى فيه، وتحييد خيارات السياسة الأخرى والاكتفاء منها بخيار استخدام أقصى القوة لتحصيل الهدف الأبعد. وحتى حينما تلجأ الدول، المصابة بداء القصووية، إلى المرحلية في السياسة؛ فتقبل بإبرام اتفاقات أو عهود، تفعل ذلك تكتيكياً، بل بشكل مغشوش ومخادِع، متحيِّنَةً الفرصة للانقضاض على ما أبرمته، والذهاب رأساً إلى الخيارات الأنسب للتفكير القصووي. لنترك، جانباً، المثال البونابارتي القصووي، بحسبانه المثال التأسيسي الحديث الذي أخذ الإمبراطورية الفرنسية في المجال الأوروبي إلى حتفها، ولْنُشِر إلى أمثلة سياسية من قُصْوَوِيَات القرن العشرين.
أوّل الأمثلة النازيةُ الألمانية؛ على خطى نابليون بونابرت ومغامراته العسكرية سار أدولف هتلر و«الحزب النازي» في طريق السيطرة على المجال الأوروبي، ومنه بالتبعة على المستعمرات الواقعة تحت نفوذ الدول الأوروبية التي ستسقط في القبضة. لم يكتف هتلر بتحييد الاتحاد السوفييتي، من طريق عقد اتفاق هدنة معه، بل وجه جيشه شرقاً نحو أراضيه لإسقاط النظام الشيوعي، في الوقت عينه الذي كان يتهيأ فيه لاحتلال فرنسا وحرب بلدان غرب أوروبا الأخرى. اندفع بقواه نحو هدفٍ قصيّ لا تسمح به علاقات القوى الدولية على الصعيد العالمي: السيطرة على كامل القارة الأوروبية: من الأطلسي إلى شرق الأورال، وتحقيق حلمٍ امبراطوري متأخر بدأته ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قبل أن تدفع ثمنه مهزومة ومُغَرَّمَةً في مؤتمر باريس. استصغر شأن جيوش بولونيا وفرنسا وبريطانيا وهولندة وباقي الدول الصغرى، وانتشى بانتصاراته السريعة في شرق أوروبا وفي فرنسا، لكنه لم يقدّر قوة الجيش السوفييتي، ولا قدَّر أن مغامراته ستستدرج الجيش الأمريكي إلى الميدان الأوروبي. وكان الثمن فادحاً: خسارة النازية كلّ أوروبا، بل خسارتها ألمانيا نفسها التي احتلها الحلفاء من جبهتي الشرق والغرب واقتسموها وقسّموها!
والمثال الثاني التّوسعيةُ السوفييتية؛ انتقل ستالين من فكرة الاشتراكية في بلد واحد في مواجهة دعوة تروتسكي إلى «الثورة الدائمة» إلى فكرة غريمه حين اندفع بقوته العسكرية إلى السيطرة على نصف القارة الأوروبية، بعد اندحار النازية عنها. كان إطار «اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية» أقصى طموح لينين لتوسيع إطار روسيا، وتجديد الحلم الإمبراطوري القيصري في المحيط المباشر. لكن ستالين المستفيد من الجنون النازي وجد الفرصة سانحة للذهاب بالإمبراطورية الصغرى إلى حدودٍ تحاكي الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في القرن التاسع عشر. غير أن كلفة الإمبراطورية الكبرى «المعسكر الاشتراكي» كانت غالية على السوفييت في حقبة الحرب الباردة؛ فإذ تحوّل الأمر إلى «امبريالية سوفييتية»، بلغة ماوتسي تونغ، أصبح على هذه الامبريالية أن تقوم بمثل ما قامت به سابقاتها من قمع للمستعمرات وحركات التحرر فيها. وهذا، بالضبط، ما حصل في تدخلات جيشها لقمع الانتفاضات في المجر وتشيكوسلوفاكيا. ثم كان على جنون القصووية السوفييتية أن يأخذ الاتحاد إلى الانهيار، بعد الغزو الأخرق لأفغانستان، وما تلاهُ من تمرُّدات في الأنحاء المختلفة من المجال الإمبراطوري (بولونيا، رومانيا… وصولاً إلى قلب روسيا)!
والمثال الثالث الإمبرياليةُ الأمريكية؛ ظل مجالُها الحيوي جنوب القارة اللاتيني إلى أن أعطتها المغامرة النازية فرصة تاريخية للتوسع خارج قارتها. وسرعان ما بسطت هيمنتها على غرب أوروبا تحت غطاء «حلف شمال الأطلسي»، ودمَّرت اليابان وسيطرت عليها وعلى كوريا الجنوبية، واحتلت فيتنام وأقامت سلطةً عميلة في جزء منها؛ ثم ورثت الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، في أملاكهما الاستعمارية ونفوذهما في آسيا وإفريقيا، بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر (1956)؛ وسخرت نظام الأمم المتحدة لخدمة أهدافها في السيطرة على العالم؛ وهندست الانقلابات ضد الأنظمة الوطنية في بلدان الجنوب، والثورات المضادة ضدّ حركات التحرر الوطني؛ ووضعت الفاشيات العسكرية على رأس السلطة في بلدان أمريكا اللاتينية المتمردة على السياسات الأمريكية؛ وسيطرت بالقوة، أو بالابتزاز، على مصادر الطاقة في العالم، وعلى المضائق والخُلجان وطرق التجارة الدولية؛ ودعمت الإرهاب الصهيوني وحروب «إسرائيل» ضدّ العرب؛ ونشرت جيوشها وقواعدها العسكرية وأساطيلها في العالم، بدعوى مواجهة «الخطر الشيوعي» (وما تزال تنشرها، اليوم، بدعوى محاربة الإرهاب)؛ ثم لم تلبث قصوويتها أن دفعت بها إلى احتلال أفغانستان والعراق للسيطرة على مصادر الطاقة. ولقد خرجت من الحربين منهكة، ليستجرّ عليها ذلك جملةً من النتائج البالغة السوء التي تُؤْذِن بنهاية عصرها الإمبراطوري: أزمة مالية واقتصادية عميقة؛ فقدان السيطرة على قرار أمريكا اللاتينية السياسي؛ تضاؤُل القدرة على الحدّ من صعود المارد الصيني؛ الانكفاء العسكري وتراجُع القدرة على التدخل في مناطق النزاعات.. والبقية تأتي.
هذه أمثلة ثلاثة لمآلات النزعة القصووية المتطرفة في سياسات الدول. يمكن التنفيل بالحديث عن أمثلة قريبة (القصووية الأردوغانية المحمولة على أوهام تجديد عهد الإمبراطورية العثمانية، والقصووية «الإمبراطورية» الإيرانية في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، كما في عهد «الجمهورية الإسلامية»)، لكنها لا تضيف كثيرًا إلى ما أشرنا إليه من فظاعات القصووية في السياسة ونتائجها الدراماتيكية…
* عن التجديد العربي
الاربعاء 4 غشت 2015