هل يعيد العالم جرعة الثقة المطلقة في نتائج صناديق الانتخاب، ام ان الشكوك تتعاظم في نجاعة هذا النظام للحكم ؟ . السؤال ليس جديدا، فقد تم تناوله منذ سنوات في عدد من الدراسات تقول (الديمقراطية) كما عرفها الغرب تلفظ أنفاسها، وانها لم تعد افضل الأسواء كما قيل في السابق، او لم تعد كما قال العرب (بعض الشر أفضل من بعض) .
السؤال يطرح من جديد بعد ان قررت حكومة اليونان المدينَة بثقل مالي ضخم، ان تفرض اعادة التفاوض مع دائنيها ،وهم الدول الغربية في الاساس، عن طريق ( الهروب) الى صناديق الانتخاب، وطرح سؤال للناخبين معروفة اجابته مسبقا، وكما توقع الجميع جاءت النتيجة ( من خلال صناديق الانتخاب) ان الشعب اليوناني لا يرغب في دفع ما استهلك من أموال الآخرينّ! ومن خلال تراخي حكومات منتخبة في السابق! تلك اللعبة الديمقراطية (العودة إلى صناديق الانتخاب) قد انتجت في اكثر من مكان نتائج مضادة، لعل آخرها ما حدث في اسرائيل ، فقد وجد السيد بنيامين نتنياهو ان التصعيد ومغازلة أسوأ ما تحتضنه الغرائز لدى الناخب الاسرائيلي افضل واسهل الطرق للعودة الى الحكم ، فأعلن قبل ايام من التصويت ( لا دولة فلسطينية و لا مكان للفلسطينيين) القاهم بجرة قلم ، فجاءت نتائج الانتخابات محققة لآماله، ولكنه بعد ظهور النتيجة مباشرة تراجع عن حدة تلك التصريحات علنا! السيد ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني قبل الانتخابات البريطانية الأخيرة، اعلن ان حكومته القادمة (في حال فوز حزبه) سوف تعرض مستقبل علاقة بريطانيا بالسوق الاوروبية المشتركة على استفتاء عام! وكان ذلك دغدغة لمشاعر كثيرين من مواطنيه وضيقهم من قوانين السوق المشتركة ،وشعورهم انهم يخسرون اكثر مما يكسبون في شراكتهم الاوروبية، وما ان ظهرت النتيجة التي حققت له الفوز حتى اعلنت الحكومة البريطانية، برئاسة أنها بصدد الدخول في مفاوضات مع السوق الاوروبية( لتحسين شروط الشراكة) وربما بعد حين يقال للمواطن البريطاني لقد حصلنا على شروط افضل، واصبح من مصالحنا العليا الاستمرار في السوق!، حقيقة الأمر ان بريطانيا تخسر كثيرا في خروجها من السوق الاوروبية على الصعيد السياسي و الصعيد الاقتصادي، وخاصة اصحاب الصناعة والخدمات فيها . ويمكن ان نستحضر امثلة اخرى حولنا، ففي مصر ابان تقدم الشعب المصري لتحقيق مصيره بيده بعد ثورة 25 يناير 2011 كان هناك سباق من خلال صناديق الانتخاب، وكان المعروض اما ان تصوت للاخوان (وسوف تدخل الجنة الاخروية والدنيوية ) او للآخرين (حيث تدخل النار)! وانا أضع المقاربة بشكلها الصارخ، فقرر كثير من المواطنين انهم بصدد ترجيح (دخول الجنة) وما لبث الجميع ان عرف انها (النار والفوضى ايضا) ، المفارقة الكبرى في ايران، حيث نجد ان صناديق الانتخاب تنصب كل بضع سنوات،ولكن مقدرات ايران لا تخرج عن رغبات وأوامر ( الولي الفقيه) يجري ايضا محاولات تفكيك الدول من خلال ( صناديق الانتخاب) ما حدث في اسكوتلاندا شمال الجزر البريطانية منذ سنوات قلائل شاهدا،كما ان هناك شاهدا اخر في شمال اسبانيا، اقليم (كتالونيا ) مع استمرار المطالبات في اقليم آخر ( الباسك) للانفصال عن الوطن الام من خلال ( صناديق الانتخاب) طبعا مهزلة التصويت من خلال صناديق الانتخاب هي التي رعتها روسيا (مارس 2014) في فصل شبه جزيرة القرم عن اوكرانيا ،فقد تم هناك ( استفتاء) ساندته موسكو، كانت نتائجه معروفة سلفا، ولم يستطع الغرب الاحتجاج ، لان النتيجة جاءت من خلال (صناديق الانتخاب) وجرت مهزلة اخرى قريبة منا في انتخابات الرئاسة السورية ( يونيو 2014) التي كانت ( رئاستها) تأمر بتدمير المدن والقرى بالقنابل البرميلية، وتقيم انتخابات مع منافسين اشباح، تأتي نتيجتها ( بنفس الرئيس).في باكستان الديمقراطية والانقلابات صنوان، مع قتل او تشريد الرئاسات المنتخبة! ولا بد من التذكير هنا بنص للرئيس المرحوم جمال عبد الناصر ، كاشف للمعضلة التي نحن بصددها فقد قال ( أنا لا أخشى على شعبنا من العدو الخارجي ، لقد استطاع ان ينتصر في كل معارك التحرير، ولكن ما اخشاه هو مخاطر الانقسام والفتن باسم الدين او باسم الديمقراطية من قبل اللاهثين على السلطة).
نص لافت يشى ببصيرة ، حيث ان استخدام شعار الدين، كما استخدام شعار الديمقراطية قد يستخدم للتضليل، وقد حملت بعض (جمورياتنا العربية) في اسمها ( الديمقراطية) وهي عنها بعيدة بعد الشمس عن الارض!.
التجارب عديدة في الاستخدام السلبي لمخرجات صناديق الانتخاب ، حتى في الولايات المتحدة اليوم، هناك دراسات للرأي العام تظهر (موافقة منخفضة على ممارسات «المؤسسات المنتخبة») والنخبة العالمية تبحث عن بدائل لتحقيق احلام البشر ، بعضهم يشير الى التجربة الصينية ، التي تضاعف الدخل القومي كل عشر سنوات، في حين لو عمل النظام الامريكي بكل طاقته لما استطاع مضاعفة الدخل القومي الا في ثلاثين عاما!.
تعيدنا المناقشة الى السؤال المركزي هل (صناديق الانتخاب) وحدها هي المقرر النهائي لمستقبل الشعوب،وماذا اذا تدخلت دول واموال او ايديولوجيات من اجل اغراء العامة بالتصويت بهذه الطريقة او تلك؟ هل يتحقق الهدف الاسمى من تلك الممارسة ؟ تلك اسئلة مطروحة علينا كعرب اليوم، كما هي مطروحة في بعض الكتابات الغربية ، وبمراجعة السباق الماراثوني في الساحة العربية ،الذي جاء على شاكلة ( اعلانات للاصلاح) في العقد الاول من هذا القرن، وقراءة المبادرات التي أطلقتها التنظيمات العربية الأهلية أو السياسية نجد أنفسنا أمام سوق عكاظ للمبادرات الاصلاحية ، وكلها تتخوف مما(يخطط في الخارج) وتدعو الى تنصيب ( صناديق الاقتراع)!اعلانات الاصلاح في العشرية الاولى من بداية القرن الحالي، اهمها سبع مبادرات، هي وثيقة صنعاء للإصلاح 10 يناير 2004, وثيقة الإسكندرية للإصلاح 13 مارس 2004، وثيقة جماعة الإخوان المسلمين للإصلاح، مصر3 مارس 2004. وثيقة حزب التجمع المصري للإصلاح 7 أبريل 2004. وثيقة المؤتمر القومي العربي للإصلاح، أبريل 2004. وثيقة قمة تونس للإصلاح مايو 2004. وثيقة مؤتمر الدوحةللإصلاح يونيو 2004.
ألا يلفت النظر هذا العدد من الوثائق التي تنادي بالإصلاح الديمقراطي في البلاد العربية وبعد ( ربيع العرب) الذي قاد بعضه الى صناديق الانتخاب، فشلت تلك الصناديق في تحقيق الاصلاح المرتجى حتى الساعة. ألا يدعو الامر الى مناقشة جادة في تحويل مطالبنا من (الديمقراطية) التي في الغالب مشوهة الى شعار آخر هو ( الجدارة) في الحكم! الى حين تعزيز المناعة الشعبية وتحقيق النمو الاقتصادي.
*نشر في الأهرام بتاريخ 12 يوليو 2015