يعود الفضل إلى المفكر فهمي جدعان في تأسيس اتجاه في الفكر العربي المعاصر، يقوم على أنسنة المقاربات الفلسفية، ومنحها طابعاً كونياً، في إطار ما يسميه “العقل الوجداني”.

وفي هذا المسعى، فإنه يناوئ العقل التجريبي الاختباري المجرد بوجود الإنسان، وبمصيره على الأرض. ويعتقد في المقابل أن العقل المعرفي انحرف ليصبح عقلاً أداتياً، وعقلاً تكنولوجياً، يطلب القوة والغلبة والتحكم والسيطرة، وفي اعتقاده أن الفيلسوف أو المفكر الذي يريد أن يكون “عبداً” للعقل المعرفي المجرد والعقل الأداتي سيفقد الجناح الإنساني التواصلي، وسيتحول إلى آلة مادية مستبدة.

ويرى جدعان، في هذا الحوار، أن “الإسلام السياسي” “بدعة” إيديولوجية حديثة، ونَسجٌ على منوال الأحزاب السياسية الحديثة. وهو في اعتقاده انحراف صريح عن غائية الإسلام الحقيقية التي هي غائية أخلاقية حضارية، لا حركة سياسية مكيافيلية تطلب السلطة والغلبة والإقصاء للمختلف.

والدكتور فهمي جدعان من مواليد بلدة عين غزال بفلسطين المحتلة، حاصل على دكتوراه الدولة في الآداب في الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام من جامعة السوربون عام 1968. درّس في عدة جامعات في الأردن، والكويت، وعُمان، وفرنسا. أنجز العديد من الكتب، من بينها:

1-أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث 1979.

2-نظرية التراث، ودراسات عربية وإسلامية أخرى 1985.

3-المحنة؛ بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام 1989.

4-الطريق إلى المستقبل: “أفكار – قوى” للأزمنة العربية المنظورة 1996.

5-الماضي في الحاضر: دراسات في تشكلات ومسالك التجربة الفكرية العربية 1997.

6-رياح العصر: قضايا مركزية وحوارات كاشفة 2002

7-في الخلاص النهائي: مقال في عودة الإسلاميين والعلمانيين والليبراليين 2006.

8-المقدس والحرية. وأبحاث ومقالات أخرى من أطياف الحداثة ومقاصد التحديث 2009

9-خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية 2010

ويصدر له قريباً كتاب جديد بعنوان “تحرير الإسلام -ورسائل زمن التحولات”.

التقينا الدكتور فهمي جدعان، فكان هذا الحوار:

*. م.ب تساءلتَ غير مرة: هل ثمة حقاً حداثة أم حداثات في حضارتنا يمكن استلهامها والبناء عليها. أم أنها كانت دوماً ذات روح “اتباعية” تنفر من “الابتداع” وتتعلق دوماً بـ “التقليد”؟

*ف.ج: في كتابي (تحرير الإسلام – ورسائل زمن التحولات) الذي يوشك أن يصدر عن “الشبكة العربية للأبحاث والنشر” قول في (الحداثة والحداثات العربية) أبنت فيه عما يشبه أن يكون تاريخاً مفهومياً للحداثات العربية، بدءاً من “الحداثة النبوية” إلى المنعطف العقلي واستقلال العقل الإنساني عند المعتزلة والفلاسفة، ثم بزوغ الحداثة “العلمية”، فتفجر “الذات الشخصانية” في الفضاءات الصوفية … إلى عصر التنوير العربي الحديث.

لا، لم تكن حضارتنا ذات روح اتباعية تقليدية، إلا في أوساط بعض المذاهب الفقهية والكلامية والتيار الذي يمكن نعته بالتيار السلفي الاتباعي الذي جسده “أهل السنة الأوائل” و”أصحاب الحديث” والسلفيون المتأخرون: ابن تيمية ومدرسته. ومن المؤكد أن التشيّع، بعد أن تبلور في نظام عقيدي صارم، يلتحق أيضاً بهذه الرؤية، وذلك على الرغم من أخذه بمبدأ الاجتهاد العقلي الذي يمارسه الأئمة.

وفي جميع الأحوال أنا لست ممن يؤمنون بمبدأ “الاستلهام” بقدر ما أضع يدي على المواقف أو الرؤى أو المفاهيم التي تحتفظ بدلالة “حالية” لنا نحن اليوم. وأرى أن مبدأ “الابتداع” هو الذي ينبغي أن يُتَّبع، وأن “الحاضر” هو البوصلة التي ينبغي أن توجه أفعالنا.

*. م.ب : وهل بالإمكان إعادة بناء حداثة إنسانية ذات قيم وغايات مرتبطة بالعدالة والأمن والرفاهية والأمل والعلاقات الإنسانية التواصلية؟

*ف.ج: هذا مطلب جوهري حيوي مصيري. والتخلي عنه سيكون بمثابة استقالة من الوجود و”تسوية” مع الفوضى والخراب والزوال.

لكننا نعلم أن إدراك هذا المطلب ليس في متناول اليد الفوري، وإنما هو منوط بتصفية الفوضى القائمة والمشكلات المستعصية، وبالسياسات السديدة وإدراك “الدولة العادلة” النزيهة، وإعادة بناء الإنسان. وهذا مطلب عسير، لكنه ليس مستحيلاً.

*. م.ب: يُنظر إليك باعتبارك من رواد التيار الإسلامي الإنساني الحضاري، نظراً لعنايتك الكبيرة بمشكلات الإسلام التاريخية والحضارية، ومحاولة موضعة الإسلام في معرض الحداثة التي أضحت جزءاً من وجودنا. هل ترى أن العلاقة بين الإسلام والحداثة علاقة ضدية، أم أن بمقدورها أن تكون تكاملية وتوافقية وسجالية؟

*ف.ج: أولاً: أنا “مسلم” لا أكثر ولا أقل. ولست أنتمي إلى أي تيار من تيارات الإسلام الإيديولوجي المعاصر. ولي طريقتي في تمثّل الإسلام من حيث هو أحد المركبات أو المكونات الأساسية للوجود العربي التاريخي والقابل. وأنا أرى أنه ليس ثمة فهمٌ أو تصورٌ أو تمثلٌ واحد لدين الإسلام، اللهم إلا ذاك المحفوظ في “اللوح الإلهي”. أما في الواقع فلدينا “إسلامات” لا إسلام واحد. وأنا أعتقد أننا نستطيع أن نتمثّل الإسلام بما هو منظومة من العقائد والأخلاق التي يمكن أن تتجسد في علائق توافقية مع المبادئ “البديهية” للحداثة، وأقول “البديهية” لأن الحداثة “حداثات”، وفيها تصورات أو مواقف يتم تجاوزها باستمرار. الحداثة ليست معطى نهائياً جاهزاً، وإنما هي متحولة غير مستقرة، ولها مضاداتها، وليس علينا أن نربط، ربطاً جذرياً، بين الإسلام وبين أية صورة “تاريخية” عابرة للحداثة. ومعلوم أننا نتكلم اليوم على “ما بعد الحداثة” وعلى “ما بعد الحداثة” أكثر مما نتكلم على الحداثة التي باتت “كلاسيكية”.

*. م.ب: يثير مصطلح “السلفية” الكثير من الالتباس. فقد خرج عن مفهومه التداولي التاريخي، وأضحى صنواً للتشدد والتزمت والإرهاب. هل هناك سلفية محددة بطبيعة فكرية وإيديولوجية ناجزة، أم سلفيات. أم أنها في مجموعها تأتي رداً على التوجهات الإسلامية المعتدلة، أو بطش السلطة الحاد؟

*ف.ج: السلفية سلفيات، لا سلفية واحدة. وفي بحثي (السلفية: حدودها وتحولاتها) الذي أعيد نشره في كتابي الآنف الذكر (تحرير الإسلام….)، ميّزت بين ثلاثة أنواع من السلفية: السلفية التاريخية -أعني سلفية الجيل الإسلامي الأول-، والسلفية المُحدَّثة، أعني سلفية “الإصلاحيين” المسلمين: جمال الدين ومحمد عبده والطهطاوي وخير الدين…، والسلفية المتعالية، التي يمكن اعتبارها “تمهيداً” لما يسمى اليوم “السلفية الجهادية”. وهي جميعاً تنسب نفسها إلى “السلف” لكنها جميعاً “مواقف تعكس عقول أصحابها” وظروفهم وأوضاعهم التاريخية. وفي اعتقادي أن المسلمين مطالبون أو مدعوون إلى أن يقيّموا حياتهم ويقوّموا وجودهم التاريخي لا بالرجوع إلى جيل سابق وبشر آخرين، وإنما بالرجوع إلى أوضاعهم التاريخية المباشرة وإلى معطيات وجودهم المشخص واعتبار ذلك في ضوء “المقاصد” العليا لدينهم، أعني “المقاصد” المشتقة من القراءة الشمولية أو (الهولستية) للنصوص الدينية، لا من الأفكار والروايات والأخبار التي تنتقل عن هذا الشخص أو ذاك ممن نجحوا في تاريخ الإسلام. وبالطبع ينبغي أن تكون هذه القراءة موافقة لمتطلبات الواقع المباشر ولأحكام الزمن الذي يجري.

* م.ب: في السياق ذاته، يبرز مصطلح “الإسلام السياسي”. كيف تقرأ هذا المصطلح في ضوء ما يعرف بـ ” ثورات الربيع العربي”؟

“الإسلام السياسي” في رأيي “بدعة” إيديولوجية حديثة، ونَسجٌ على منوال الأحزاب السياسية الحديثة. وهو في اعتقادي انحراف صريح عن غائية الإسلام الحقيقية التي هي غائية أخلاقية حضارية، لا حركة سياسية مكيافيلية تطلب السلطة والغلبة والإقصاء للمختلف. لقد عالجت هذه المسألة أيضاً في كتابي (تحرير الإسلام …)، بقدر من التدقيق والتحديد ولا أريد أن أكرر هنا ما جاء هناك.

  *. م.ب: تتساءل ماذا يريده الإسلاميون، فتجيب: دولة إسلامية تحكمها الشريعة بإطلاق وتفرد، وتتمثل دين الإسلام في رؤية كونية شاملة تغلب عليها وتستبد بها روح انفصالية، إقصائية، صدامية، أحادية تنكر “الاختلاف” ولا تتقبل “الاعتراف”، وتتعلق بقراءة ضيقة حرفية للنصوص الدينية، وبرؤية قتالية أو جهادية مشتقة من قراءة ظاهرية لآيات قرآنية سبق أن حكمت رؤية ابن تيمية في ظروف تاريخية أوجبت ذلك.

أما يزال هذا ما يريده الإسلاميون، بعدما انتقلوا إلى الحكم، أم أن الصورة تغيّرت قليلاً؟

  *ف.ج: نعم … هذا ما يريده الإسلاميون اليوم وغداً، ولم أغيّر رأيي في هذه الرؤية. وكل القرائن المشخصة والشاخصة تدل على ذلك. وهم في انتظار مرحلة “التمكين” والاستبداد بالدولة ومفاصلها ومكوّناتها. الصورة لم تتغير، لا بل هي تتعمق وتتجذر، لكن “قوى خارجية”، حليفة أو متحالفة تبذل جهدها من أجل كبح هذه النزعة وتطلب إلى الإسلاميين أن “يتفاهموا” مع خصومهم، وذلك في إطار استراتيجية إقليمية ودولية خاصة بهذه القوى. والمشكلة الكبرى في حقيقة الأمر، في شأن الإسلاميين، تكمن في أنهم حوّلوا دين الإسلام إلى “حزب سياسي” يجور على الغائيات العميقة الكونية لهذا الدين، ويدخل في عقابيل وألاعيب ولا أخلاقيات العالم السياسي.

* م.ب: ترى أن دين الإسلام “دعوة” إيمانية، روحية، تَقَويَّة رحيمة. والدولة العادلة تستطيع أنْ تحقق مقاصد الشريعة العليا دون أنْ تكون محمولة على أكتاف أحزاب دينية تقدّم الفروع على الأصول وتقصّر في حقّ غائية الدين الأساسية، وهي الرحمة والعدل والتقوى. وفي اعتقادي أنْ على الجماعة (تقصد جماعة الإخوان المسلمين) أنْ تتخلّى عن المطلب السياسيّ وتعود إلى نهج (الدعوة) التّقَويَّة الرحيمة.

هل ما تزال عند دعوتك؟

 * ف.ج: نعم، ما زلت عند اعتقادي هذا. على (جماعة الإخوان المسلمين) أن ترحم نفسها، وترحم المسلمين، وترحم دين الإسلام نفسه، وتعود إلى الغائية الجوهرية لدين الإسلام، وأن تتخلى نهائياً عن مشروعها القاضي بتحويل الإسلام إلى “سلطة سياسية” قسرية قاهرة تطلب “قيادة العالم” أجمع وتحوّل (الأمة الإسلامية) إلى “ضبع كاسر” ينظر إليه العالم أجمع نظرته إلى “العدو الأبدي” الذي ينبغي قهره وتدميره.

المسلمون ليسوا في حاجة، بعد أن استقر دينهم في أفئدة وقلوب العالم، لأن يخططوا لوجودهم في هذا العالم وفقاً لمبادئ السياسة في الصراع والاقتتال والحرب الدائمة. نعم لسنا في حاجة إلى هذا المنظور. نحن في حاجة إلى “إصلاح الإنسان” بالمعنى، والقيمة، والمبادئ الأخلاقية والإنسانية الرحيمة. بذلك وحده سنتميّز عن حضارات الاستبداد والهيمنة والاستعباد، وبذلك وحده يمكن أن نكون قدوة ونموذجاً ومثالاً يحتذى لدى الآخرين، وبذلك وحده يتحقق لنا ولأبنائنا ولشعوبنا الخير والسعادة والرفاهية والطمأنينة والأمن، لا العذاب والامتحان الدائم والوضع الشقي. الإيمان التقي الرحيم، التواصلي العادل، هو طريق الخلاص، لا “الإيمان المستعلي” المسكون بإغراءات التفرد والسلطة والاستبداد والانفصال.

م.ب: بقيتَ تدق بقبضة فكرك التنويري الجدرانَ، وتعلق الجرس، وتحذر من أننا إن لم نُعدّ لحضور ذاتي ذي معنى وفاعل في التاريخ الحاضر والمستقبل المنظور، فسنكون، كما قال نيتشة، كمن يعقد “تسوية مع العبودية”. هل خرجنا من هذا البرزخ، أم أننا ما نزال عالقين فيه؟

ف.ج: لم يتغير شيء. والأحوال ازدادت سوءاً، وعقدنا تسوية مع الموت والدمار والاقتتال والارتهان للقوى وسياسات الهيمنة، والاستبداد، والتدمير الذاتي، والكراهية، والتمزق، والمجهول.

م.ب: تحاول في كتبك العديدة، أن تكسر الصورة النمطية للمفكر أو المشتغل بالفلسفة، وتذهب إلى أنسنة مقارباتك الفلسفية، ومنحها طابعاً كونياً. في إطار ما تسميه “العقل الوجداني”. ألا تخشى من مغبة فصل الكتلة الفلسفية عن منهجها وإطارها النظري التقعيدي، والعقل المعرفي؟

ف.ج: أعتقد أن إسهامي الأساسي، في هذا الشأن يكمن على وجه التحديد في أنني أرفض، من منظور إنساني واقعي، أن يستبد العقل التجريبي الاختباري المجرد بوجود الإنسان، وبمصيره على الأرض. أنا لست خصماً للعقل، أنا أعترف به وأقدّره وأحتكم إليه في حل المشكلات الشخصية، لكنني أيضاً لا أستطيع أن أتنكر للكينونة الوجدانية في وجودي وفي وجود أي إنسان آخر. العقل المعرفي، وحده، انحرف ليصبح عقلاً أداتياً، عقلاً تكنولوجياً، يطلب القوة والغلبة والتحكم والسيطرة، وأدى، تاريخياً، إلى “النزعة الاستعمارية” التي شهدناها القرون الثالثة الأخيرة. الفيلسوف أو المفكر الذي يريد أن يكون “عبداً” للعقل المعرفي المجرد والعقل الأداتي سيفقد الجناح الإنساني التواصلي، وسيتحول إلى آلة مادية مستبدة. الفرق الأساسي بيني وبين الجابري والعقلانيين الآخرين، الراديكاليين، أنني أريد “الإنسان التكاملي”، الإنسان التواصلي، الرحيم، الذي يطلب المساواة والعدالة والتعاطف والتشارك في مجابهة “الوضع الإنساني” البائس على الأرض.

م.ب: تحدثتَ عن تلك الصور التي يكوّنها الإعلام الغربي عن كتلة نفسية ذهنية وجدانية يمثل الإسلام وأهله فيها حضوراً “طارداً” ومُعْطى يبعث على النفور والخوف والكراهية. وتَتموضع الصور هذه في رموز المقدس، وفي مجموع من المفردات المشخصة المتعلقة بالنص الديني: كالمرأة، والجهاد، والتصلب، وكراهية “المخالف”، والاستفراد بالحقيقة وغير ذلك، فضلاً عن صورة تترسخ عن الإسلام باعتباره معادياً للحضارة والتقدم، ومتنكراً لحقوق الإنسان الأساسية. ولكن، ألا تشتمل هذه الصور على ذرائع لتلك “المزاعم” والتخرصات؟

ف.ج: بكل تأكيد. هذه الصور تشكل ذرائع قوية لهذه المزاعم. إننا نقدّم لهم كل المسوّغات لإشاعة هذه الصورة. مرة أخرى، أحيلك إلى كتابي الجديد (تحرير الإسلام …) حيث عرضت من جديد لهذه المشكلة.

* عن موقع مؤمنون بلا حدود

 نشر بها يوم 16 يونيو 2013

‫شاهد أيضًا‬

دراسة نقدية لمجموعة (ولع السباحة في عين الأسد).للقاص (حسن ابراهيم) * د. عدنان عويّد:

التعريف بالقصة القصيرة ودور ومكانة القاص في تشكيل معمارها:      القصة …