تنتظم قراءتنا النقدية لهذا التقرير التحليلي ، حول خمسة عناوين رئيسة تركز على الجوانب المنهجية، على أن تتلوها لاحقا قراءات وملاحظات تشمل مضامينه و خلاصاته.
وللتذكير فقد أحدث المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بتاريخ 16 ماي 2014، تطبيقا لمقتضيات دستور2011، ليحل محل المجلس الأعلى للتعليم . و من أدواره فضلا عن تقديم المشورة ،» تنوير ذوي القرار والفاعلين والرأي العام، بواسطة التقييمات الكمية والنوعية، المنتظمة والدقيقة لمختلف مكونات منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي «.لذلك كان من الطبيعي أن ينجز هذا التقرير ألتقييمي والذي جعلناه محورا لهذه القراءة النقدية والتي نبغي منها ،المساهمة بدورنا و بموضوعية وتجرد ،في تنوير كل من يهمه الأمر بمن فيهم أعضاء الهيأة التي أشرفت على إعداده، والمساهمة بالتالي في تطوير التعليم ببلادنا.
1 – مبررات التقرير و ربط المسؤولية بالمحاسبة
ينطلق هذا التقرير ،حسب معديه، من الوضعية التي آلت إليها منظومة التعليم ببلادنا ،ومما أبانت عنه العديد من الدراسات والتقارير الوطنية والدولية ، من اختلالات متواترة ومتعددة الأوجه. حيث أصبحت المدرسة عرضة لانتقاد الفاعلين والمهتمين الذين يشتكون من عدم وفاء السياسات التربوية المتعاقبة بوعودها والتزاماتها. فأصبحت المدرسة المغربية والعمومية منها على وجه الخصوص، «مؤسسة في وضعية أزمة، تستهدفها الانتقادات من كل جانب وتعتبرها مصدر كل الأزمات الأخرى، مثل الأزمة الاقتصادية، لكونها لا تؤهل المتعلمين لسوق الشغل؛ والأزمة الثقافية، لكونها لم تعزز السلوك المدني وسط الأجيال الناشئة؛ والأزمة الاجتماعية، لأنها فشلت في مهمتها التربوية القاضية بتكوين مواطن مسئول».
ضمن هذا السياق ،سياق الأزمة التي يعانيها نظامنا التربوي والمطالب الملحة من كل الجهات، للإسراع بإصلاحه ، «أصبح ،كما يقول واضعو هذا التقرير ،تقييم تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين ،مطلبا مستعجلا وشرطا ضروريا لتقدير الإنجازات الملموسة وتحليل الفوارق إزاء ما أوصى به، وذلك من أجل فتح آفاق تأهيل النظام التربوي وتطويره والخروج به بالتالي من أزمته».
«إن التقييم الإجمالي والشامل ، حسب هذا التقرير ، لتطبيق الميثاق على مدى أكثر من عشرية (من سنة 2000 إلى سنة 2013)، أصبح أمرا ضروريا سابقا على كل مسعى لإعادة تأسيس نظام التربية والتكوين والبحث العلمي… و ذلك من خلال فحص ما تحقق من تقدم ومن مكتسبات، مع إبراز الاختلالات والصعوبات التي تمت مواجهتها، من أجل تقييم درجة نجاح هذا التطبيق بشكل شمولي والتعرف على دعامات ورهانات التربية التي تتطلب تدخلا فعالا في السنوات المقبلة».(ص9 من التقرير).
لكننا نعتقد ، أن مثل هذه الدراسات و التقارير التقييمية ،لا تحتاج إلى مبررات،ولا ينبغي أن تأتي نتيجة أزمات و اختلالات .فهي من الضروريات وربما من الروتين ،في جميع الأنظمة التي تسعى نحو التطوير ونحو إرساء الديمقراطية الحق وربط المسؤولية بالمحاسبة . وفي المغرب و بعد المصادقة على الدستور الجديد سنة 2011، تم إدراج مفهوم ربط المسؤولية بالمحاسبة في وثيقة النظام الدستوري المغربي ،كركن رابع بعد الديمقراطية المواطنة و التشاركية و الحكامة الجيدة وفصل السلط وتوازنها وتعاونها. لذاك فالغرض الأساسي للتقييم هو المساءلة وليس فقط الإعداد لوضع إستراتيجية إصلاحية . ففي ظل نظام ديمقراطي ، فإن المرافق والخدمات العامة مثل وزارة التربية الوطنية وغيرها من الوزارات ، مسئولة عن عملياتها وعن كيفية تدبير شؤون قطاعها وعن سبل استخدام الموارد المرصودة. إن تقييم السياسات العمومية هو في الواقع مطلب ديمقراطي ، لأنه يتيح للمعنيين ولعموم المواطنين ، المعلومات الموضوعية التي تمكنهم من تشكيل أفضل رأي حول الخدمات العامة و مساءلة في نفس الآن، أصحابها . فضلا عن هدف التطوير و الإصلاح كما هو وارد في مبررات واضعي هذا التقرير والذين يتجنبون، ما أمكن،الحديث عن ربط المسؤولية بالمحاسبة.
-2 تقييم المنظومة والأسئلة المسكوت عنها
عمل التقرير إّذن ، على إبراز الفوارق بين أهداف وتوصيات دعامات الميثاق من جهة (وخصوصا ما يتعلق بالتطبيق) وبين الإنجازات الفعلية من جهة أخرى. فالمقصود إذن، هو كشف المكتسبات ومكامن العجز وتحديد التحديات التي يجب رفعها لتحسين جودة التربية والتكوين في المستقبل.
«يخترق التقرير سؤالان أساسيان هما: هل حقق تطبيق الميثاق بعد مرور أكثر من عشرية، غايته المركزية المتمثلة في تحسين أداء المدرسة المغربية على عدة مستويات؟ وما هي مكتسبات الإصلاح وما هي العوائق التي تمت مواجهتها و الاختلالات التي حصلت أثناء تطبيق هذه الوثيقة؟ «إن الهدف من هذا التقرير المرتكز على دعامات الميثاق (وهو الأول من نوعه بخصوص هذه المسألة بالمغرب)، هو تقييم الفوارق بين أهداف الميثاق المذكور والنتائج المحصل عليها.»(ص 10).
لكننا نعتقد أن هذا التقرير يحيد عن المقاصد بوضعه لهذه الأسئلة/الأهداف الشاردة والتي تجعلنا نبتعد عن التشخيص الحقيقي لأسباب الأزمة والكشف عن آثارها المدمرة ومحاسبة المسئولين عنها وبالتالي تخطيط معالم الإصلاح الناجع الذي طال انتظاره. فنغرق في المقاربات التقنية والتفاصيل الكمية والقواعد الإحصائية والرسوم البيانية والعناوين الفرعية، ونبقى على السطح بدل من التعمق في الأسباب الحقيقية والمرامي الدفينة . لان السؤال في اعتقادنا، ليس عن الاختلالات في تطبيق الميثاق ، بل كان ينبغي التركيز على تحليل ومناقشة السياسات التربوية (اليمينية منها واليسارية…)التي تعاقبت خلال العشرية المقصودة والتي لم يكن همها دائما تطبيق الميثاق ولم تكن تلتزم بالضرورة بمقتضياته ،بل كانت غالبا ما تدير ظهرها لدعاماته. سياسات قاصرة قادها بعض السياسيين (وغير السياسيين) ،الذين لم يلتزموا دائما حتى ببرامج أحزابهم ، وكانت قراراتهم المتسرعة والتي يغلب عليها العشوائية والارتجال، خاضعة في الغالب إما لضغوط المنظمات والصناديق الدولية ومكاتب الدراسات الأجنبية والمانحين باسم التعاون والشراكة ، و إما نتيجة ضغوط داخلية لم يكن دوما هاجسها الأساسي خدمة الوطن ونموه ورفاهية أبنائه وإما لقرارات ظرفية يمليها الانشغال بتدبير الشأن اليومي والهاجس الأمني والحفاظ على «المكتسبات».
إن الأسئلة التي يضعها مؤلفو التقرير ،تجعل في رأينا ، من الميثاق مجرد «قميص عثمان» أو الشماعة التي نعلق عليها سياساتنا التربوية/ اللاتربوية الفاشلة .
كما أن السؤال /التقييم كان ينبغي أن يشمل أولا، وزارة التربية الوطنية نفسها ، (وليس فقط الوزير سياسيا أكان أم تقنوقراطيا)، في هياكلها (اوركانيكرام) وتنظيماتها وأكاديمياتها… وموظفيها وأطرها وخاصة العليا منهم والذين يؤثرون كثيرا في قرارات الوزراء خاصة من يأتي منهم من قطاعات وتخصصات أخرى بعيدة كل البعد عن التربية والتعليم،و أن يشمل التقييم «حكامتها» بل و تحكمها و تسلطها المركزي والمتمركز (ضدا عن كل مبادئ وخطط الجهوية المتقدمة) وأن يشمل السؤال ،أساليب عملها و تدبيرها للميزانيات وعقد اتفاقيات التعاون والشراكات وإبرام الصفقات (وما أدراك ما الصفقات) و أن يستهدف قبل هذا وذاك، الثقافة السائدة في دهاليز الوزارة والعقلية المتفشية في أقسامها ومديرياتها ومدى نزاهة المسئولين عنها …
ثم إن الهيأة التي أشرفت على هذا التقييم ، كان ينبغي أن توجه الاستدعاء كذلك ، للمجلس الأعلى للتعليم ذاته، و تستفسره عن ماذا كان يفعل خلال هذه العشرية ونيف،وعن دوره ، وأساليب عمله و تقييماته وعلاقته بوزارة التربية الوطنية والتي على ما يبدو ، لم تكن دائما وربما لحد الآن ، علاقة تعاون وتكامل واندماج ، حيث نلاحظ على سبيل المثال ،أنها لم تنتظر نتائج مشاوراته وجلسات الاستماع ودراساته والتي كانت تتم بموازاة مع مشاورات ودراسات الوزارة ، حتى أعلنت عن أولوياتها وإستراتيجياتها الخمس عشرية (رؤية أفق 2030) بموازاة وربما حتى قبل انتهاء المجلس من رؤيته وأولوياته في الإصلاح والتي قدمت مؤخرا إلى عاهل البلاد.
بل ومررت وزارة التربية الوطنية قبل ذلك ومن تحت الطاولة، قرارات خطيرة، مثل:
-إقرار مسلك البكالوريا «الدولية» ؛
– أجرأة مشروع المؤسسة ؛
– الإستراتيجية الجديدة للارتقاء بالتعليم والتكوين الخصوصي وتعزيزها بميكانيزمات للنهوض به وجعله شريكا أساسيا للتعليم العمومي،
– وضع خطة لتكوين المدرسين خارجة عن توصيات المجلس؛
-والشروع في تفعيل بعض الأولويات (التدابير ذات الأولوية) في إطار تنزيل خطتها الإصلاحية ورؤيتها المستقبلية الاستشرافية، والتي وضعتها ( الوزارة) باستقلال عن خطة المجلس، والمؤلفة من 23 إجراء موزعا على 9 محاور؛
– وضع بل تحسين برامج/مناهج جزئية «منقحة»،لا تندرج بالضرورة في إطار النظرة الشمولية للمنهاج المنشود في كل إصلاح حقيقي ؛
كل ذلك في ارتباط وثيق بين الأولويات و الإجراءات …و بين وضع مشاريع وعقد صفقات، من مثل برنامج «تحسين المنهاج الدراسي للسنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائي» أو مشروع «رصيد» – القراءة من أجل تطوير المهارات الأكاديمية والنمو الذاتي- مع بعض المانحين الأجانب كوكالة USAID…وغيرها.
3 – صعوبات التقييم ومحدودية التقرير
يعترف واضعو التقرير منذ البداية وفي تقديمهم لهذا التقييم التحليلي ،في 187 صفحة، والذي يقولون عنه إنه غير «مسبوق في بلادنا» ، بضعفه ومحدودية نتائجه. حيث يذكرون بصعوبات المهمة و قصورها ، «مع الإشارة إلى محدودية هذه العملية المتعلقة بمدة تتجاوز العشرية من فترة التطبيق ويطمح هذا التقرير إلى تفسير الفوارق قدر الإمكان، مع التأكيد على المكتسبات والنتائج الإيجابية،دون إغفال العوائق التي حدت من دينامية الإصلاح المنصوص عليها بالميثاق.»
ويؤكد المؤلفون في مكان آخر من التقرير ،ما نحن بصدده : «نشير في البداية، إلى صعوبة تقييم تطبيق الميثاق، نظرا لتعقد نظام التربية والتكوين والبحث العلمي، المتضمن لمكونات وأبعاد عديدة، تتمثل في السياسات المتوالية ومخططات العمل والأجهزة المؤسساتية والبرامج البيداغوجية والبنيات التربوية وأنظمة تأطير الفاعلين والأطراف المعنية.»
ويضيف واضعو هذا التقرير التحليلي ، إلى كل ذلك، صعوبة تجويد النظام التربوي والمدة التي يستغرقها للتأثير في المتعلمين، فيقولون «لأن تأثيرات الإصلاحات لا تدرك على المدى القصير في غالب الأحيان، بل تقتضي زمنا أطول لذلك. وما يعمق هذه الصعوبة أكثر، هو غياب تقييمات منتظمة، شاملة وقطاعية،تبرز درجة تحسن نظام التربية والتكوين نتيجة الإصلاحات».
إن هذا الاعتراف المرير، يبرر بالضبط سؤالنا :أين كان المجلس الأعلى للتعليم، خلال هذه العشرية ونيف وأين كانت وزارة التربية الوطنية وأين كانت أجهزة الدولة الأخرى و هيآت البحث وآليات التقييم والتتبع ومجالس المحاسبة واللجان والفرق البرلمانية…؟ ألا يتعلق الأمر بمصير الملايين من أطفالنا ، بل وبمصير الأمة كلها ؟
كما يعترف هؤلاء وبكثير من الحسرة، وأمام حاجتهم الملحة لإثارة السؤال حول مستقبل المدرسة انطلاقا من «التقييمات الموضوعية وغير المنحازة»، بالقصور ويقولون: «والحال، أنه باستثناء تقرير المجلس الأعلى للتعليم لسنة 2008 وتقييمات الأبحاث حول مكتسبات التلاميذ وبعض التقييمات الداخلية بمؤسسات هنا وهناك، فإننا لا نتوفر على تقييم شامل أنجز بطريقة منتظمة وموضوعية»… ويضيفون «وفي الحقيقة، فإن هذا التقرير لا يتضمن تقييما للأثر الحاسم أو للنجاعة، بسبب ندرة المعطيات و النمذجات الملائمة. ومع ذلك، فقد تمت معالجة وتقييم جوانب من المردودية (أي المخرجات)، عبر تحليل تعميم التعليم وامتداده والرجوع إلى الأبحاث حول مكتسبات التلاميذ وإدماج الخريجين وحول الإنصاف والبحث العلمي.» (ولنا عودة إلى مسالة الدراسات والمصادر والمراجع التي تم اعتمادها في التقرير، في العنوان الخامس).
ويستدرك المؤلفون، «وقد واجه هذا التقييم الشامل إكراهات مقترنة بمدى توفر المعطيات الكمية والكيفية. ففي غياب نظام إعلامي يسمح بولوج قواعد المعطيات الكمية المتجانسة والتي تحظى بالمصداقية، اضطر هذا العمل التقييمي إلى اعتماد معطيات متفرقة وخام، بذلت الهيئة الوطنية للتقييم مجهودا كبيرا لتنظيمها مسبقا وتصحيحها».
كما يعترف تقرير المجلس هذا، بالعجز عن تقييم كلفة التلاميذ وبعض الجوانب المالية من الميزانية الضخمة المخصصة للتعليم (ربع ميزانية الدولة)، حيث يذكر :»بخصوص تقييم المجهود في مجال تمويل التربية الوطنية خلال عشرية الميثاق، يجب تدقيق معطيين :أولا، لم ينجز الحساب الوطني المتعلق بالتربية الوطنية سوى مرة واحدة خلال السنة الدراسية 2004 – 2003 …» ثانيا، لا تسمح معطيات الميزانية المتوافرة حاليا، بالتمييز بين النفقات الخاصة بكل سلك تعليمي. وبصيغة أخرى، فإن هذه النفقات غير مجزأة بحسب الأسلاك التعليمية الثلاثة للتربية الوطنية )الابتدائي والثانوي الإعدادي والثانوي التأهيلي(…»(ص 180).
كما يذكرنا المجلس (راجع المذكرة المنهجية في ملحقات التقرير) بحدود تقييم التعليم العالي ويضعه تحت عنوان( نظام معلوماتي غير كاف) : «إن النظام الوحيد الذي يسمح حاليا بالتتبع الفردي للطلبة،هو النظام التطبيقي المتعلق بتنظيم وتدبير الطلبة والتعليم APOGEE وقد شرع في استعمال هذا البرنامج الذي تم تكييفه مع النظام الجامعي المغربي، منذ سنة 2003 لمواكبة الإصلاح البيداغوجي، وهو متعدد المجالات ويتم بواسطته تدبير العديد من الوحدات،بدءا بالتسجيل الأول للطالب بالمؤسسة إلى الحصول على الشهادة الجامعية،مرورا بكافة مراحل المسار الأكاديمي )الخصائص السوسيوديمغرافية، النقط، النجاح في تصديق الوحدات… الخ.( ومع ذلك، لم يتم تعميم البرنامج التطبيقي المذكور على كل الجامعات، كما أن المعطيات لا تغطي فترة تطبيق الميثاق بكاملها».
وهنا نتساءل من جديد ،أين كان المجلس الأعلى وأين كانت وزارة التعليم العالي وماذا كانوا يفعلون؟ ولماذا لم يبادروا بإجراء دراسات علمية معمقة تغطي كل هذا النقص وتضع آليات لتخطي كل ذلك القصور؟
* أستاذ مغربي باحث في علوم التربية