اعلنت مؤخرا الفرق البرلمانية المشكلة للأغلبية الحكومية تعديلاتها المقترحة على مشروع القانون التنظيمي المعتبر بمثابة النظام الأساسي للقضاة ، و هي تعديلات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تشكل انتكاسة حقيقية للتطور الديمقراطي لتنزيل مبدأ الفصل بين السلط في إطار التوازن و التعاون ، و تترجم رؤية المشرع الفئوية لإبقاء تسلط السلطة التنفيذية على “السلطة القضائية” بل و تدخل الأولى في عمل الثانية ..و لعل تغييب القضاة عن النقاشات المجتمعية الكبرى هو الذي ساهم في بلورة توجس و تخوف غير مفهوم من طرف البعض للتقليل من قدرة القضاة على القيام بأدوارهم الدستورية في حماية حقوق و حريات المواطنين و أمنهم القضائي ، بل أن البعض انتقد حتى الروابط التي تجمعهم و هي بصدد عرض تصوراتها على لجنة العدل و التشريع بمجلس النواب ، و هذا معناه في نظرهم أن القضاة يجب أن يظلوا بمكاتبهم داخل المحاكم التي يعملون بها، و ليس لهم كمواطنين و كجمعيات مهنية الحق في المشاركة في القضايا الوطنية و خاصة تلك المرتبطة بحقوق الانسان و استقلال السلطة القضائية ، و القيام بالمهام التمثيلية داخل باقي المؤسسات و الهيئات الدستورية .
فهل حرمان و منع القضاة من الترشح لمجلس النواب ، و حتى خلال مدة سنة من وضع حد لمهامهم ينسجم مع مقتضيات الدستور ، ثم هل إقصاء القضاة من الإسهام في الدينامكية المجتمعية يرتبط بمنطق مبدأ الفصل بين السلط أم تحركه هواجس و تخوفات غير مفهومة …
1- القضاة بين المهام النيابية و الالحاق بالحكومة و اداراتها
نصت المادة السابعة من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب على عدم أهلية القضاة لعضوية مجلس النواب في مجموع أنحاء المملكة سواء خلال مدة مزاولتهم لمهامهم القضائية ، أو بعد الانتهاء من مزاولتها مدة سنة على الأقل من تاريخ الاقتراع .
فباستقراء المادة المذكورة يتضح أنها تمنع على القضاة الترشح لعضوية مجلس النواب سواء خلال مزاولتهم لمهامهم أو خلال السنة الموالية لانتهائهم من مزاولتها ، و في هذا السياق سبق لاحدى الجهات الادارية المختصة في تلقي الترشيحات المتعلقة بمجلس النواب أن رفضت طلب الترشح الذي تقدم به الأستاذ جعفر حسون بدعوى انه لم تمض سنة عن تاريخ عزله من سلك القضاء استنادا إلى المادة المذكورة.
و اذا كان المشرع المغربي قد اختار منع القضاة من الترشح لعضوية مجلس النواب كأحد مظاهر مبدا الفصل بين السلط ، فانه في مقابل ذلك نص على امكانية الحاقهم بالادارة وبالاصالة تولي مناصب حكومية كوزراء مادام أن الادارة موضوعة رهن اشارة الحكومة ، و هو ما يعكس التناقض الحاصل في الرؤية بين القانون التنظيمي لمجلس النواب و النظام الاساسي للقضاة ، فلماذا التنصيص على امكانية الحاق القضاة بالادارات و منعهم من القيام بالمهام النيابية داخل البرلمان شريطة عدم الجمع بين المهمتين في وقت واحد.
ان الجواب على هذا التساؤل يقتضي الرجوع الى بعض التجارب التي نزلت مدلول فصل السلط وفق منطق منسجم بين عمل القضاة بالسلطة الحكومية من جهة و مجالس الشعب من جهة أخرى كما هو الأمر بالنسبة للقانون الألماني الذي يسمح للقضاة في الترشح للمؤسسة التشريعية و تولي الوظائف الحكومية شريطة عدم القيام بنفس المهام في نفس الوقت ، اذ نظمت المادة 36 من القانون الألماني للقضاة ، عضوية القضاة في البرلمان و الحكومة ، و منحتهم الحق في الترشح سواء للبرلمان الفدرالي او برلمان الولايات ، و الاستفادة من اجازة شهرين غير مؤدى عنها للقيام بحملات انتخابية .
و اذا فاز القاضي بالتمثيلية النيابية على المستوى الفدرالي او الولايات ، أو اصبح بعد موافقته عضوا في الحكومة الفدرالية او في حكومة الولايات فانه تنتهي بموجبه حقوقه وواجباته كقاض ، و قد سبق في هذا السياق للقاضي RONALD SCHIll الملقب بالقاضي غير الرحيم بالنظر لقساوة أحكامه ، أن اسس حزبا سياسيا و فاز بالمرتبة الثانية ليصبح وزيرا في حكومة ولاية هامبورغ.
و نتيجة لذلك فقد عرف البرلمان الاتحادي الالماني بحسب الاحصائيات المنشورة في موقعه الرسمي عضوية 13 قاضيا و ممثلا للادعاء العام في انتخابات سنة 2006 ، و 12 منهم خلال انتخابات سنة 2010، و نفس الأمر قرره القانون التونسي الذي كان ينص صراحة على عدم امكانية الجمع بين المهام النيابية و ممارسة وظيفة القضاء (المادة 17 من القانون عدد 29 المؤرخ في 14 يوليوز 1967 المتعلق بنظام القضاء و المجلس الاعلى للقضاء و القانون الاساسي للقضاة)
و هو ما كرسة القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات و الاستفتاء التونسي تحت عدد 16 لسنة 2014 والمؤرخ في 26 ماي 2014 ، و الذي ميز بين حق القضاة في الترشح للانتخابات الرئاسية و التشريعية ، فلم يضع أي قيد أمام القضاة في الحالة الأولى بمقتضى الفصل 40 من القانون المذكور ، ، في حين قيد الفصل 20 منه حقهم في الترشح لعضوية مجلس نواب الشعب و ربطه بتقديم استقالاتهم أو إحالتهم على عدم المباشرة طبقا للتشريع الجاري به العمل ، كما منعهم في هذه الحالة من الترشح في آخر دائرة انتخابية مارسوا فيها وظائفهم لمدة سنة على الأقل.
فحالة عدم المباشرة تتيح للقضاة المنتخبين بمجلس النواب القيام بالمهام النيابية التمثيلية لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد كلما اقتضت الحاجة ذلك، و يجب عليهم تقديم طلب إرجاعهم إلى وظيفتهم شهرين على الأقل قبل انتهاء مدة الإحالة على عدم المباشرة بواسطة رسالة مضمونة الوصول.
إن حرمان القضاة من القيام بالمهام التمثيلية النيابية هو في حقيقته إقصاء غير مبرر ، لأنه حتى في حالة القبول باتجاه الفصل العضوي الدائم فان المشرع كان عليه تقرير منع إلحاق القضاة بالإدارات و الحكومة و هو ما لم يتم اعتمادة بمقتضى النظام الأساسي للقضاة أو حتى مشروع القانون التنظيمي كما أحيل على مجلس النواب .
ان المنع الذي نظمه القانون التنظيمي لانتخاب أعضاء مجلس النواب بالنسبة للقضاة فضلا على كونه غير منسجم مع النظام الأساسي للقضاة ، فهو لا يساعد في جعل القضاة جزءا من أهم مقومات الحراك المجتمعي و خاصة داخل المؤسسة التشريعية بالنظر للخبرات و الكفاءة التي يتوفرون عليها في مجال القانون و التشريع ، كما أنه أكثر من ذلك يخالف الدستور و يصادر حقهم كمواطنين عندما منع ترشحهم في مجموع أنحاء المملكة حتى بعد انتهاء مهمتهم لمدة سنة من الموعد المقرر للاقتراع.
2- القضاة و المهام التميثلية بباقي المؤسسات الدستورية و هيئات الحكامة و النوظمة و ممارسة باقي المهن القضائية بعد التقاعد:
ان رغبة المشرع في محاصرة القضاة داخل المحاكم لا تقتصر على حرمانهم من حقوق المواطنة في اطار مبدأ عدم الجمع بين المهام النيابية و القضائية في آن الوقت ، بل تمتد الى عدم اشراكهم في باقي المؤسسات و الهيئات الدستورية، و هو ما يتجلى بشكل واضح من خلال الظهير المنظم للمجلس الوطني لحقوق الانسان الذي و ان لم ينص على حرمان القضاة من عضويته صراحة الا أنه اعتمد على تمثيل عضو واحد مقترح من طرف الودادية الحسنية للقضاة ما دام أن المجلس المذكور يتشكل من ممثلي جمعيات المجتمع المدني و الحقوقي ، غير أن التمثيل المذكور يبقى مع ذلك مخالفا لمبدا التعددية الذي جاء به الفصل 111 من الدستور ، و لا يعكس حجم السلطة القضائية و دورها في حماية الحقوق و الحريات في تركيبة المجلس الوطني و المجالس الجهوية .
و بنفس المنطق توجهت المادة 13 من ظهير 31 يوليوز 2014 المتعلق بالمجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي الى اقصاء القضاة صراحة من عضوية المجلس ، باعتبارهم في حالة من حالات التنافي التي تجعل العضو فاقدا للعضوية في المجلس المذكور .
ان توجه التضييق على القضاة لم يتوقف على عضويتهم في باقي مؤسسات و هيئات النوظمة و الحكامة بل امتد حتى الى ممارستهم لبعض المهن القضائية كمهنة التوثيق العصري ، اذ اشترطت المادة 8 من ظهير 22 نونبر 2011 بالنسبة لقدماء القضاة حصولهم على الدرجة الأولى على الأقل بعد قبول استقالتهم أو احالتهم على التقاعد مالم يكن ذلك لسبب تأديبي ، وعدم تجاوز سنهم 55 سنة عند تقديم الطلب .
كما أنه و بصدد النقاش الذي يواكب القانون المنظم لمهنة المحاماة فقد تعالت بعض الاصوات من وزارة العدل و الحريات تحاول اليوم تقييد حق القضاة في الولوج لمهنة المحاماة بعد احالتهم على التقاعد ، و ذلك باشتراط عدم تجاوز أعمارهم 55 سنة ، و هو المقتضى الذي يخالف المادة 13 من الميثاق العالمي للقضاة كما وافق عليه بالاجماع المجلس المركزي الدولي للقضاة في 17 نونبر 1999 و التي تنص على أنه للقاضي الحق في التقاعد عن العمل أو معاش سنوي وفقا لفئته الوظيفية ، و لا يجب منع القاضي من مزاولة مهنة المحاماة بعد تقاعده عن العمل القضائي .
ان اقصاء القضاة من باقي الهيئات و المؤسسات الدستورية و ممارسة المهن القضائية بعد تقاعدهم أصبح توجها تشريعيا ممنهجا ،و هو لا يرتبط بمبدأ الفصل بين السلط ، بل يوحي بوجود أزمة تشريع و التي ستحتاج لا محالة الى تجربة القضاة و باقي نخب المجتمع بعيدا عن منطق الريع ومجموعات الضغط ، فالتشريع يجب أن يكون لكل الوطن لا لفئة أو هيئة أو حزب ، كما أن مجال تمثيل السلطة القضائية يجب أن يمتد الى المحكمة الدستورية لضمان التوازن بين السلط و منع تعسف سلطة التشريع على سلطة القضاء.
*الاربعاء 22 يوليوز 2015