فجأة، رفع قياديان من حزب العدالة والتنمية،هما الأمين العام للحزب عبد الإله بنكيران، ورئيس المجلس الوطني سعد الدين العثماني، من سقف النقاش السياسي، في قضية تبدو في الزمن الانتخابي بعيدة كل البعد عن التداول السياسي وجدول الأعمال اليومي السياسي..
عبد الإله تحدث عن طقوس البيعة وحفل الولاء وضرورة تخفيفهما، في استرجاع بعيد لمطلب من زمن المعارضة. وقد قال عبد الإله بنكيران أنه مع تغيير الطقوس أو التخفيف منها، شريطة أن يتم ذلك باتفاق مع الملك.
يمكن أن يكون في اقتراب موعد عيد العرش، 30 يوليوز، مناسبة لتحديث وتحيين المطلب الذي دافع عنه عبد الإله بنكيران في الزمن السابق عن دخوله إلى المربع الضيق للحكم، واستفادته من الشراكة السياسية مع الملك في تدبير شؤون الدولة.
يمكن أيضا أن يعتبر الأتباع والمناصرون وجزء من الرأي العام ونخبة المجتمع أن في الحديث، مجرد الحديث من أعلى هرم السلطة حول موضوع بهذه الحساسية، جرأة سياسية وتميزا أدبيا، في الوقت الذي تطغى فيه على جدول النقاش قضايا هامشية، يعتبر عبد الإله بنكيران جزءا لا يتجزأ منها.
ويمكن أيضا أن نلمس المفارقة كبيرة للغاية، بين عبد الإله بنكيران الذي يستنفد الزمن السياسي في المهاترات والتشابك والتلاسن، وبين عبد الإله بنكيران الذي يطرح البيعة والولاء على بساط النقاش العمومي..
يمكن أيضا أن نتساءل بغير قليل من الدهشة: هل الرجل هو نفسه الذي يقول بأنه مجرد مرؤوس ملكي، وأن الملك رئيسه، وأنه لا يمكنه أن يعيش بعيدا عن الهواء الذي تضخه الملكية في رئتيه السياسية، وهو نفس الرجل السياسي الذي يطالب بالتقليص من مسرحة السياسة theatralisation في طقوس الولاء..؟
يمكننا أن نخاطر بأي دهشة أو استغراب وارد أو في حكم الرد المنتظر، لكن الذي يبقي في السجل هو أن رئيس الحكومة، ولعله الأول من نوعه في تاريخ الحلقات التدبيرية المغربية، يتحدث من أعلى هرم السلطة التنفيذية لكي يطالب الملك بتجاوز الطقوس الملكية، و “قطعها من أطرافها”..
كما يمكن أن نسجل بأنه حديث غير اعتباطي أو شارد، لأنه مسنود بحديث أوسع وأكثر عمقا وراديكالية، هو حديث سعد الدين العثماني، الصنو الآخر، الذي يحاور زعيم الحزب ورئيس الحكومة علانية في شؤون الدين والدولة.
فقد أوردت تقارير صحافية متطابقة أن وزير الخارجية السابق في تشكيلة بنكيران الأولى، دعا إلى”الانتقال لفصل الدين عن الدولة في الحُكم”، وأضافت نفس التقارير أن رئيس المجلس الوطني اعتبر أن “التطابق بين أمة الدين و أمة السياسة لم يعد ممكنا في زمننا هذا”.
سعد الدين العثماني، الذي كان يتحدث خلال لقاء بالجامعة التربوية التي نظمتها شبيبة حزب العدالة و التنمية بجهة الرباط سلا القنيطرة، له كتاب في قضية ” الدين والسياسة، تمييز لا فصل”، وهو في مستوى أقل من السقف الجديد الذي وضعه لمناقشة قضية الحكم في الوقت الحالي.
وكان أقصى ما يدعو إليه هو “التمييز” لا الفصل بين الدين والسياسة، في دفاع واضح عن تموقع حزبه في الشبكة الحزبية المغربية.
في دعوته إلى فصل الدين عن الدولة، تجاوز لسقف العلمانية ومطالب اليسار نفسه! بل هو ذهب بعيدا حتى في تقدير العلاقة، والجواب عن الذين يدعون إلى فصل الدين عن السياسة، في محاولة لوضع المسافة بين الدين وبين التدبير، وبين الدين واستغلاله السياسي..
في الدعوة إلى تجاوز التمييز، تجاوز الرد على من ينتقدون تجربة العدالة والتنمية والإسلام الحزبي برمته، إلى ما هو أعمق ويضع الدولة برمتها موضع السؤال.
والدولة في المغرب هي أيضا دولة الدين:
فهل يعني ذلك، إلغاء إمارة المؤمنين، باعتبار أن السلطة الدينية هي مكون من هذه الإمارة، وأن شخص الملك تلتقي فيه الدين والدولة؟
هل يمكن تغيير الدستور، لكي لا يبقى المغرب دولة إسلامية، وتصبح بلدا مسلما مثلا، وليس دولة إسلامية كما هو في نص الدستور الآن؟
هل يريد سعد الدين العثماني أن يساجل ويحاجج: إذا كنتم تريدون منا أن نفصل الدين عن السياسة، فالأولى أن نفصل الدين عن الدولة برمتها؟
سيجد جزء من اليسار، واليسار الثقافي تحديدا في مقولات سعد الدين العثماني وعبد الإله بنكيران رجع صدى لما دافع عنه وتبناه.
سوف لن نشاهد عبد الإله بنيكران في شارع الرباط يعتصم إلى جانب شباب 20 فبراير، هو الذي يردد التهديد بالشارع، ولكن هؤلاء، وبعضهم من مناصري اليسار ورفاقه الراديكاليين، سيجدون أن مقولة التخفيف من طقوس السلطة في عيد العرش، مطلب يعود بهم إلى حيوية الصراع مع الدولة.
وهي دولة، إذا اكتمل المشهد بمطالب سعد الدين العثماني بدون دين، متحررة أكثر من طوق الإمارة كما تعارف عليها المغاربة منذ قرون..
يدرك رئيس الحكومة، ولا شك، أن من التطورات الكبرى أو البراديغمات والإبدالات الراديكالية هو دفاع اليسار عن… إمارة المؤمنين!!(لنتذكر مثلا دفاع أبراهام السرفاتي وبن عمور وغيرهما كثير من وجوه اليسار…)، ويدرك العثماني من جهته أن مطالب فصل الدين عن الدولة تتجاوز السجال الظرفي، وأنها مطلب يثقب سقف المرحلة، إذا ما نظرنا إليها من زاوية الدستور الحديث، والذي لم يتجاوز بعد أربع سنوات من التبني، ولم تستنفد بعد كل ممكناته التطبيقية والتدبيرية، بل لعل الحقل السياسي المغربي يسير، بإصرار نحو العدة إلى ما قبله!
والمرحلة الانتخابية، لا سيما التي تكون ذات صلة بالقرب والمعيش اليومي عادة لا تعرف سجالات من قبيل الطقوسية القرونية أو العلاقة المتشابكة في بلاد تتداخل فيه الشرعيات الثلاث (التاريخية والدينية والدستورية) كحلقات تكمل بعضها البعض وتفسر طبيعة الدولة والنظام الملكي حتى أن الإمارة أصبحت إمارة ديبلوماسية دينية (التدبير الديني في إفريقيا وأوروبا مثلا )..
هل سيبقى النقاش في حدود تسجيل التصريحات؟
سنرى…
* عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
الاربعاء 22 يوليوز 2015