محمد الحبيب الفرقاني الغيغائي.. الفقيه الإتحادي، الذي نجح في أن يكون «مثقفا عضويا» بالمعنى الغرامشي
قوة الحركة الإتحادية، التي خرجت من تحت جبة الحركة الوطنية، التي كانت بدورها قد خرجت من تحت جبة الحركة السلفية المغربية التنويرية العقلانية، كامنة في أنها ظلت منتصرة دوما للإنسية المغربية، كنتاج حضاري كبير، ولم ترتهن قط لحسابات خارجية أو مصالح خارجية. هذا منحها دوما أن تكون معادلة صعبة على الكثير من حسابات الشرق، وأيضا حسابات الغرب، وجعلها أن تصبح بالتالي، نموذجا مستقلا في كل الحركات السياسية بالعالم الثالث. فهي كانت تختط “طريقها الثالث” بين حسابا الشرق وحسابات الغرب. لهذا السبب لم تكن الحركة الإتحادية، بمنهجها التقدمي وخيارها السياسي الحداثي الوطني، واستراتيجيتها النضالية الديمقراطية، قط في خصومة مع الهوية الدينية الحضارية الإسلامية للمغاربة، بدليل ما أفرزته من رجالات سياسة وفكر وأدب لهم تكوين ديني شرعي قانوني كبير، كان الأستاذ الراحل محمد الحبيب الفرقاني الغيغائي، واحدا منهم. بل إن فطنة رجل دولة السياسية، من طينة الزعيم الكارزمي الراحل عبد الرحيم بوعبيد (وقبله الشهيد المهدي بنبركة)، قد جعلته دوما، يحرص على حضور صوت وطني متميز، ذي مرجعية دينية إسلامية فقهية رصينة، من قيمة المناضل الكبير والوطني الراحل الفرقاني، الذي لم يكن سوى نموذجا للعشرات بل للمئات من أشباهه من أطر ومناضلي الإتحاد، على طول البلاد وعرضها. وكان حضورهم قنطرة تواصل سياسية سلسة مع تيارات وعائلات سياسية وفكرية تعتمد في إيديولوجيتها فقط المرجعية الدينية وشكلا من التأويل السياسي للدين. بل إن ذلك، قد منح للمغرب أن تكون لحمته المجتمعية، في بعدها الوطني، جد قوية ومحمية، على عكس ما وقع في تجارب مجتمعية أخرى بالعالم العربي. كونها لم تكن قط تجربة شمولية إقصائية استئصالية، بل ظلت دوما تجربة توافقية تمتلك توابل ذكاء حسن تنظيم الإختلاف وتدبيره، لأن تحت سماء البلاد عقلاء يقرؤون الأمور في بعدها الوطني البناء.
محمد الحبيب الفرقاني، الذي كان من حظي أن أحتك به، مثل المئات من أبناء جيلي، هنا وهناك، كان دوما نموذجا للفقيه الأديب، الغارق في “تامغربيت”، الذي حين يناقشك، بلثغته الخاصة، بالتسارع الواضح في كلماته، بعينيه الطفلتين دوما، اللتان تشعان براءة نادرة، بيديه التي كان يحركهما كثيرا وبلا توقف، بشكل انحناءة رأسه المائلة قليلا جهة اليسار، كان يسعى دوما إلى أن يجعلك طرفا في بلورة صلابة القناعة بالفكرة. وهو بذلك يمارس بيداغوجيا تربوية، توصلية، تتأسس على مكرمة الإنصات، وعلى سلاسة الحوار غير المتعالي، الذي يأخدك بيسر إلى أن تكتشف بعد طول نقاش، براح الحقيقة كما هي. ورغم كل المحن التي عبرها الرجل، وكل نذوب جراحات التعذيب الوحشي الذي طاله على امتداد عقدين من الزمان، في هذا المعتقل السري أو ذاك، في هذا السجن أو ذاك، لم يكن الرجل قط، يتاجر بجراحه تلك، أو يجعلها موضوعا لحديثه أمام مجالسيه، بل كان همهم الأوكد دوما، هو مصير البلاد والعباد، وأن سؤال الذات وعذاباتها، ليس سوى تفصيل في طريق طويلة للبناء والتقدم.
محمد الحبيب الفرقاني، كان رجل سياسة، لكنه كان أيضا رجل سياسة بأخلاق، ورجل سياسة بمرجعية معرفية وفكرية، ورجل سياسة بموقف من الحياة والوجود، هو الموقف الإيماني الديني المسلم، لكن سقف الوطن هو الأعلى عنده دوما، وحب الأوطان من الإيمان كما يقال. ومن الأمور التي وقفت عندها في سيرته، تلك العلاقة الرائعة، التي ظلت تجمعه بالمفكر الراحل محمد عابد الجابري، الذي لم يكن فقط رفيق نضال سياسي بالنسبة له، بل كان أخ طريق وحياة. لأنه قليل من يعرف، أن سي الحبيب الفرقاني، كان قد أقام مدة ليست باليسيرة في بيت الجابري رفقة زوجته وأبنائه، وكانت العائلتان أشبه بأخوين يعيشان تحت سقف واحد، قبل أن يستقل الفقيه المناضل والشاعر الأديب بنفسه في بيت مجاور لبيت الجابري، بحي بولو بالدارالبيضاء، بعد أن تجاوز أزمته الإجتماعية، التي كان السبب فيها ضريبة النضال والسجون. وهذا يترجم معنى أن كانت الحركة الإتحادية “عائلة”. وفي تلك الرفقة، كان الحوار ينضج فكريا وسياسيا بين الهرمين المغربيين، وهو ذات الحوار الذي سيجعل الراحل الحبيب الفرقاني، يكون واحدا من أرسخ وأنضج الأصوات الوطنية والإتحادية التي ناقشت وجادلت وحاورت، بعضا من زعامات التيارات الإسلامية، خاصة الراحل عبد السلام ياسين وقبله الأستاذ البشيري وغيرهم من الزعامات التي بدأت تعلن عن نفسها ضمن تلك العائلات السياسية المغربية، ذات المرجعية الفكرية الخاصة. وكان الدرس الكبير الذي تعلمه الكثير من شبابهم ومن أطرهم، أن قوة المغرب مجتمعيا وسياسيا، هي في المحافظة على استقلالية القرار السياسي الحزبي مغربيا، وأن لا يرتهن قط للخارج أن يخدم أجندة مشرقية كيفما كان نوعها.
محمد الحبيب الفرقاني، الذي حاول البعض إلصاق تهمة تصفية سياسية جبانة ومخجلة به، هي عملية قتل المناضل الوطني الإستقلالي الكبير بن دريس بتاونات، كان يكتفي دوما بأن يقول “سنلتقي يوما عند العادل الصمد، الذي كل الحقيقة مدونة عنده، وهو من سيجزي الظالم بما ظلم”. مضيفا أن بعض الرعاع يركبون عنف الكلام وعنف الفعل، دون أن يستشعروا مخاطر ما ينجزون. لأن الذي حدث، هو تواجه بين قبيلتين، واحدة بقيت استقلالية والأخرى أختار أبناؤها الحركة الإتحادية، فوقعت المزايدات وسقط الرجل الوطني الفاضل، بن دريس، بين يد من تطرف به الموقف من القوم الذي ذهب ليهدئ الأنفس بينهم. علما أن الحبيب الفرقاني كان أحد اثنين من مفتشي حزب الإستقلال الذين التحقوا بالحركة الإتحادية، سنة 1958، وكان هو حينها مفتشا عاما للحزب بإقليم أكادير. وجوابا عن سؤال كيف التحق بالفعل السياسي، وكيف تبلور عنده الوعي السياسي الوطني، يجيب الراحل بنفسه قائلا:
” في أي مرحلة بدأ يتبلور الوعي السياسي عند السيد الحبيب الفرقاني؟ هذا الذي أسميته وعيا سياسيا، يرجع تبلوره بالنسبة لي إلى تلك البدايات الأولى التي بدأت فيها دراستي الأولية الابتدائية، وكانت النفحات الأولى من هذا الوعي وفدت لي من الوالد، رحمه الله، الذي كان في حد ذاته عالما وفقيها متخصصا في الفقه والنحو والبلاغة والصرف وخاصة علم التوقيت. ذلك أنه هو الذي تولى تلقيني بدأب وحزم وبساطة وأنا مازلت أتابع حفظ القرآن الكريم في سن الثانية عشرة، المبادىء العامة للنحو والفقه والصرف والميراث والتوقيت وكان ذلك بالذات في مسقط رأسي بقرية أزرو في تحناوت على بعد 32 كيلومترا من مراكش. وفي سنة 1938 التحقت بمراكش لمتابعة دراستي الثانوية، وقد طويت المرحلة الابتدائية مباشرة بدروس الوالد بكلية ابن يوسف، حيث تابعت دراستي في وسط طلابي معرفي الى أن أنهيت دراستي بحصولي على شهادة العالمية من القسم الأدبي سنة 1947 بنفس الكلية التي كان يرأسها الأستاذ الدكتورمحمد بن عثمان المسفيوي. وقد كنت أقطن حينها بالحي الجامعي السكني المعروف بمدرسة ابن يوسف المتواجد أمام المسجد الحامل لنفس الإسم. وتتميز هذه المدرسة أو الحي الجامعي بروعة هندستها المعمارية، وتحتوي على حوالي 120 غرفة. وهي من تأسيس أبي الحسن علي بن عثمان المريني، من دولة بني مرين، وهي معلمة تاريخية معمارية هامة بمراكش. هناك في هذا الحي وجدت نفسي في جو طلابي مفتوح متنور، ومع مجموعة حية من الطلاب أذكر منهم بالخصوص الإخوة السادة: الحبيب بن موح، الفقيه محمد البصري، محمد شهيد، بوشعيب الدكالي، محمد الفيكيكي، عبد السلام الجبلي، بوشعيب البيضاوي، ومحمد بن القاضي الأعتابي وعبد السلام الأعتابي… وغيرهم. في هذا الوسط الطلابي، وبرفقة المجموعة المذكورة بصفة خاصة، تفتح وعيي أكثر، ونمى عندي حب العلم والمعرفة واستطلاع أحوال العالم والتعرف بالخصوص علي الوضع الوطني الداخلي ومشكلته مع الحماية الفرنسية، وتفتح في محيط ذلك وعيي وإدراكي ونحن نمارس نشاطنا إضافة الى الدروس الرسمية واليومية على مستويين: الأول: المجال السياسي، إذ انخرطت مبكرا في الحركة الوطنية، فكنا جماعيا نتابع النشاط السياسي ونوسع دائرته تنظيميا في الوسط الطلابي، ندرس النشرات الحزبية الداخلية، وفي اجتماعنا الأسبوعي كنا ندرس وثيقة سياسية عنوانها »الحماية« وهي دراسة سياسية حضرها حزب الاستقلال، وهي تحليل سياسي وقانوني للحماية الفرنسية وكان الحزب قدمها الى هيئة الأمم المتحدة في اجتماعها بقصر »شايو« بباريس. كان يتولى أحدنا تلخيص بضع صفحات منها ثم يقدمها للمناقشة والتحليل، كما كنا نقوم في هذه الخلية بتحليل الوضع السياسي السائد ودراسة مجموع سلوك وموقف الادارة الفرنسية وتصرفات الكلاوي خاصة بمراكش ومع الطلاب بالذات. الثاني: ويتمثل المستوى الثاني في الميدان الثقافي، إذ كنا نكتفي بالدروس الرسمية العلمية ونجد عليها، بل كنا نهتم أشد اهتمام بالنشاط الثقافي والإنتاجات العلمية والأدبية المختلفة خاصة في المشرق العربي..
إذ كانت مصر ولبنان في هذه الفترة مركزي إشعاع ثقافي علمي وأدبي كبير. ومصدري إنتاجات ثقافية مختلفة. كتب ومجلات، مثل الهلال، المقتطف، الرسالة، الكاتب المصري، كتاب الحديقة.. كنا نحرص على قراءة هذه المجلات التي كانت ذات مستوى رفيع نبحث عنها بالشراء أو بالإعارة. كما كنا نتابع ونقرأ بشغف لكبار الكتاب والأدباء الشرقيين مثل: عباس محمود العقاد، طه حسين، المازني، مصطفى الرافعي، عبد القادر المغربي، أمين الريحاني، زكي أبو شادي وعزيز أباظة.. وغيرهم. ومازلت أحتفظ بمجموعات هامة من بعض هذه المجلات. ما هي العراقيل ومصاعب الدراسة والحياة التي واجهتكم في هذه المرحلة؟ كانت هناك عراقيل ومصاعب ومتاعب متعددة بطبيعة الحال أهمها: 1 شدة متابعة جواسيس الادارة الفرنسية من جهة ومضايقة الكلاوي وأعوانه للطلاب من جهة أخرى. 2 قلة ذات اليد لأن أغلبية الطلبة أبناء الفقراء، أو متوسطي الحال في أحسن الظروف. فكان هذا يعوق امتلاكنا للكتب والمجلات، فكنا نتبادلها ونستعيرها، ونجد صعوبة في ذلك. لذلك كان نشاطنا في أواسط الأربعينات شبه سري، واجتماعاتنا سرية تقريبا وإلى جانب الخلية الأساسية المذكورة، هناك خلايا سياسة طلابية تجتمع أسبوعيا أو في نصف الشهر. وكنا سياسيا مرتبطين عضويا بالحركة الوطنية أي حزب الاستقلال وعلى اتصال بالمسؤولين عنها بمراكش وهما: السيد عبد الله ابراهيم والمرحوم عبد القادر حسن، وكنت أنا انخرطت في حزب الاستقلال على يد عبد الله ابراهيم بمنزله بدرب الحمام بالمواسين. وأية مصاعب أو متاعب واجهتك في دراستك آنفا؟ كان أهم عقبة أو صعوبة اعترضتني في دراستي هي أن الوالد، رحمه الله، قرر أن يزوجني لأسباب عائلية خاصة، وأصر على ذلك وأنا في منتهى الحماس للدراسة والتثقيف. وكنت أرغب أن أتممم دراستي بفاس، كما فعل بعض رفاقي، ورغم أني رجعت مكرها الى البادية وقد تزوجت وصرت أساعد والدي في الأعمال الفلاحية، وهو طبعا فلاح. قد واصلت دراستي ومتابعتي الثقافية بإصرار. وكنت أستعد للامتحانات السنوية وأشارك فيها دون أن أتابع الدروس يوميا بالكلية. هنا بعد نحو سنتين، وقع تحول آخر اضطراري في مسار حياتي، ذلك أنني انتقلت الى مراكش. وهناك لزمني أن أبحث عن عمل أو مورد للعيش وتوفير قوت أسرتي، فكان أن بعت قطعة أرضية صغيرة ورثتها من الوالدة رحمها الله، بمبلغ ثمانية آلاف ريال، بها فتحت متجرا صغيرا لبيع الثياب في أقصى شارع السمارين قريبا من القيساريات القديمة، وقد ساعدني بالمتجر وغيره أستاذي الفقيه العلامة المرحوم السيد عبد الجليل بلقزيز، غير أنني وأنا نفسيا وفكريا لم أخلق للتجارة،لم أستطع أن أواصل وأفلست تجارتي بعد نحو من سنة ونصف، إذ كنت في نفس الوقت أتابع دراستي. وكان المتجر على صغره دائما مليئا بالطلبة الأصدقاء ونحن في المذاكرات والمناقشات العلمية ويأتي الزبناء وتبقى التجارة! وماذا بعد إفلاس تجارتك الصغيرة؟ بقيت عاطلا مدة، لكن تابعت دراستي وتحضير امتحاني ولو من بعيد، وبعد حين وقع تحول جديد في مسار حياتي ودخلت مجالا جديدا هو أقرب إلي وأشد ارتباطا باهتماماتي، ذلك أن الرئيس ومدير الكلية المرحوم الأستاذ محمد بن عثمان المسفيوي، وكان يعطف علي ويحبني. اقترحني مديرا لإحدى المدارس الحرة التي تأسست في هذه الفترة بمراكش. وهي مدرس الفتح الحسنية بدرب الحلفاوي بباب دكالة. ولاتزال قائمة الى اليوم. وكان مقر المدرسة مع جنان كبير محبس عليها تبرعا من المحسن الحاج الباعمراني وطني قديم. أقبلت على مهمتي الجديدة بحماس فائق مع مجموعة من المعلمين بنفس الإرادة والحماس فازدهرت المدرسة واكتظت بالتلاميذ الى نحو 1600 تلميذ. وكان التعليم يتقمص روحا وطنية عربية وإسلامية، وكانت المدرسة مركز إشعاع وطني هام بفضل الحفلات والتمثيليات الوطنية التي كانت تقدمها المدرسة وتلامذتها للجمهور المراكشي. وبعد أربع سنوات، ولأسباب مختلفة انتقلنا الى أكادير حيث توليت أيضا إدارة مدرسة حرة جديدة هناك هي مدرسة النصر الحسنية. وكان هذا الانتقال باقتراح، بل وطلب من المرحوم الوطني السيد الحاج أخنوش التفراوتي صاحب ومؤسس شركة إفريقيا بعد الاستقلال والوطني المعروف، آنذاك بأكادير وسوس. هناك اشتغلت في المدرسة بأكادير، تالبرجت بنفس الروح والحماس، وإلى جانب الأخوين المرحومين أحمد الحاج وعباس القباج ومحمد أباعقيل. كنا نقوم بنشاط واسع في نشر الحركة الوطنية، حزب الاستقلال في مجموع إقليم سوس. وتوسيع تنظيماتها وفروعها بشكل متواصل نشيط وحاد، وكانت المدرسة وإشعاعها وحفلاتها الجماهيرية التي كانت تعقد في ساحة مومية وتحضرها جماهير واسعة من كل أنحاء الإقليم تؤدي دورا هاما في التوعية والتنوير من مجموع الإقليم. وتضايقت الإدارة الفرنسية من هذا النشاط الوطني. وبعد تهديدات ومضايقات مختلفة، اتخذت قرارا بنفينا نحن الثلاثة: الفرقاني وأحمد الحاج وعباس القباج من أكادير، وتم ذلك يوم الأربعاء 4 أبريل 1951 فحملت الأخوين الى كلميم محجوزين في مكان خاص. وحملتني أنا إلى بلدتي بقرية أزرو بتحناوت، مرورا بتارودانت فأولوز، فكندافة، فمراكش في أكثر من أسبوعين. ولا أنسى بالمناسبة ليلة قضيتها في سجن ثلاث يعقوب وكان السجن مليئا بمجموع من سكان جبال المنطقة وقد قضيت معهم ليلة بكاملها. وأنا أتحدث إليهم ب »الشلحة« الأمازيغية أشرح لهم الوطنية ومعناها والدين ومحتواه. وتعشيت معهم بالعصيدة واللبن. وأقمت بدار الوالد بقرية أزرو بتحناوت حيث ألزمتني الادارة الفرنسية. وكان الوالد قد انتقل الى مراكش منذ سنة 1949 الى أن جاءت التطورات اللاحقة فيما بعد”.
محمد الحبيب الفرقاني، الذي كان قد جعل من إقليم مراكش، أكثر الأقاليم حزبيا في المغرب، الذي تم فيه تأسيس فروع بالعالم القروي (وكان ذلك ثورة في زمن)، كان رجل ميدان تنظيمي جد مميز. وكان بمرجعيته البيداغوجية التربوية التواصلية، يحسن قراءة الأنفس وطبائع الناس، ويسلس له أمر قيادة الناس وتوجيههم وإقناعهم. وهو بذلك إنما يصدر عن تكوينه البكر في معهد بن يوسف بمراكش، وطبيعة ما تشربه من مدار العلم العتيقة بسوس، واحتكاكه برجال فطاحل من قيمة الفقيه المؤرخ المختار السوسي. ولم يكن مستغربا قط أن يكون أبناؤه متصالحين مع سيرته تلك، من خلال قرارهم الشجاع بمنح مكتبته الغنية جدا، التي بها لقى تاريخية وثائقية نادرة، إلى المكتبة الوطنية بالرباط. حيث وقعت يوم 15 أبريل من سنة 2010، العائلة عقد هبة مع إدارة المكتبة الوطنية تم بموجبه نقل مكتبته تلك من بيته بالمحمدية إلى الرباط، وأطلق على تلك المجموعة الغنية إسم ” مجموعة الحبيب الفرقاني” وهي بذلك عنوان للمجد الأبقى في ذاكرة الناس وذاكرة المكان، لأنها جعلت من الإسم وصاحبه مرجعا أبديا في تلك الذاكرة المغربية. فالأبناء، عمليا، لم يتاجروا في ذلك الرصيد المعرفي والوثائقي والمكتبي لوالدهم الراحل. وهو أرشيف غني جدا، بما للكلمة من معنى، كونه يضم مخطوطات نادرة جدا، وتقاييد ذات أهمية تاريخية حاسمة. والرجل تنطبق عليه عاليا مقولة »المثقف العضوى« بالمعنى الغرامشي. لأنه رجل كانت تتساوق عنده الفكرة مع الفعل. كانت القصيدة عنده (لأنه شاعر أديب) نصا أدبيا وفعلا في ساحة الميدان، لهذا السبب فقد أدى الضريبة من جسده غالية جدا. ولعل أرشيف مصالح المخابرات المغربية لا يزال يحتفظ بتفاصيل نتائج التعذيب التي تعرض له في نهاية الستينات من القرن الماضي، حين كانت أحشاؤه قد أصيبت لدرجة خروجها من جسده، وكيف أن أقدامه أصبحت مثل صفيحة حديدية واحدة من الزرقة، وكيف أن عموده الفقري أصيب في أماكن ذات حساسية خطيرة على المشي.. ورغم كل ذلك، خرج الرجل بذات الإبتسامة الطفلة التي كانت تميزه عن غيره من الصحب. وليسمح لي القارئ هنا، أن أعترف له بشئ، هو أن الصورة التي لي دوما عن الراحل، هي لحظات ضحكه التي تكون خجلى، فهو حتى في الضحك يخجل كطفل يخاف من الخطأ.. إلى الحد الذي يجعل الواحد منا وهو يستعيد سيرته، يتساءل: هل كان بيننا، حقا، رجال من تلك الطينة في الصفاء والصدق والطيبوبة؟!.. بل إنه، حين كان الراحل الكبير، والقائد الإتحادي الكاريزمي، عبد الرحيم بوعبيد يحرص على أن يكون الحبيب الفرقاني والمقاوم محمد منصور في قيادة الإتحاد، فلأنه كان يدرك معدن الرجلين، وليس فقط لأن في الأمر رسالة سياسية ذات رمزية واضحة (أن الإتحاد خيمة للأصفياء من جيل الوطنية والفداء). محمد الحبيب الفرقاني، الذي ولد يوم 18 دجنبر 1922، بقرية أزرو بضواحي تحناوت (تلك البلدة الهادئة والجميلة جدا، المطلة على مراكش، في الطريق النازلة من أوريكة وأسني، ومن قمة جبل توبقال)، اكتسب صلابة الرجولة، رمزيا، ربما من اسم قريته الذي يعني بالأمازيغية »الصخر«. وحين ولج إلى معهد بن يوسف بمراكش، ليحصل على شهادة عليا في الدراسات العربية والفقهية، كان يلج إلى باب هائلة للوطنية، تلك التي تبلورت في مغرب أواسط القرن العشرين، حين كان جيل من مجايليه الشباب يبنون معنى لتلك الوطنية في كبريات المدن المغربية، وأساسا بين مراكش وفاس، مرورا بطنجة، الدارالبيضاء، الرباط، سلا، تطوان، مكناس، آسفي، تارودانت، تزنيت، السمارة ووجدة. وفي طريق مقاومته لأسباب القبح في الوقت المغربي، كان الرجل مرة يستجير بالكلمة، ومرة ينزل للفعل المادي الملموس في ساحة الحياة العمومية. لهذا السبب، تعايش عنده القلم (الشعر، المقالات التحليلية الدينية، المقالات السياسية، الصحافة) مع الخطو في ساحة المعركة من أجل ذات السيدة الجليلة: الحرية. والحرية عنده، هي أولا الإستقلال من الإستعمار وعودة الملك الوطني محمد الخامس، وهي ثانيا، أن يكون المغاربة سادة قرارهم في تحقيق التقدم والتنمية. محمد الحبيب الفرقاني، الذي أصدر ثلاثة دواوين شعرية (»نجوم في يدي«، »دخان من الأزمنة المحترقة«،»تهاليل للجرح والوطن«)، وكتبا عن تاريخ المقاومة (»الثورة الخامسة«، و»في الطريق إلى التاريخ«)، لم يكن من الرجال الذين يستكينون للصمت في قول رأيهم كما يؤمنون بصدقيته الكاملة، مما يترجم جرأة في الموقف وفي المبدأ. هو الرجل، الذي كان يتعفف في طريق الحياة، حيث معروف عنه، أنه ما كان يتحجج قط أمام أي رجل سلطة بمكانته السياسية أو الإجتماعية. ومن القصص المعروفة عنه، أن العديد من رجال الشرطة أو الدرك، كان يجدون أنفسهم في حرج حين يوقفونه في الطريق ويشرعون في تحرير »مخالفات ما«، أنه كان يلوذ إلى صمته ولا يتبجح قط بعضويته في البرلمان أو أنه عضو المكتب السياسي للإتحاد، أو.. ما لا حصر له في مراتب الشرف الأصيل في ذاكرة البلاد. وكانت زوجته الراحلة، السيدة الفاضلة رقية، تكبر ذلك فيه دوما، وتراه عنوانا على قيمة رجولته في الحياة. أستطيع تخيل حجم الغنى الذي تضمه مكتبته على مستوى المخطوطات والوثائق النادرة، التي بعضها رأى النور لأول مرة، والتي تعتبر شهادات حاسمة حول ملفات دقيقة من تاريخ المغرب الحديث. وأنها تكاد تكون »لقى نادرة« في مجال التأريخ، ستكون جد مفيدة للباحثين والمؤرخين المغاربة. وإذ أذكر من شئ، فإني أذكر تلك النقاشات التي جمعتني به رحمه الله، في مناسبات عدة حول تاريخ الحركة الوطنية، حول ذاكرة الإتحاد، حول اتحاد كتاب المغرب، حول الإنقلابات العسكرية التي كانت ستقود المغرب إلى مجاهل لا يعلم مخاطرها غير الله، حول الحركات الأصولية، حول تاريخ الزوايا في المغرب ومكانة »سوس العالمة« فيها، حول علاقته بعدد من الشخصيات الوطنية، ضمنها المختار السوسي، علال الفاسي، شيخ الإسلام بلعربي العلوي، عبد الرحيم بوعبيد، المهدي بنبركة، الفقيه البصري، عبد الله إبراهيم، عبد الرحمان اليوسفي، محمد بنسعيد آيت إيدر.. ثم الدور الذي لعبه في التنظيم الحزبي بإقليم الحوز كله وليس فقط في مراكش، وكيف أنه التنظيم الإتحادي الوحيد الذي استطاع تأسيس أكثر من 37 فرعا في بوادي إقليم مراكش، وكان ذلك »ثورة« في نهاية الستينات وبداية السبعينات. ثم حول علاقته بالشباب الإتحادي الذي التحق بحركة »أقصى اليسار« الماركسية اللينينية، وقبلها علاقته بالتنظيمات الإتحادية المسلحة (أساسا مجموعة الشهيد دهكون).. مثلما أذكر دراسته التي أعدها (ولم ينشرها قط) حول خريطة معتقلي الإتحاد على مدى سنوات الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، والتي سعيت أكثر من مرة للإطلاع عليها دون أن أنجح في ذلك. وهي الدراسة التي كان قد طرح خطوطها العريضة أمام شهود مغاربة وازنين حول مائدة إفطار في فندق بالعاصمة التونسية سنة 1996، هم المناضل بنسعيد آيت إيدر، والدكتور سعد الدين العثماني، والأستاذ خالد السفياني، والعبد لله، والتي يؤكد فيها أن أكثر من 60 بالمئة من الذين أدوا ضريبة النضال العالية في الحركة الإتحادية هم من مناطق سوس. مما يؤكد تلك المقولة التي ظلت تتردد لسنوات »أن الإتحاد حزب سواسة«، وأن الراحل عبد الرحيم بوعبيد لم يختر اعتباطا الترشح في أكادير سنة 1977 رغم المعارضة الشديدة من أعلى سلطة في البلاد، فالرجل كان يوجه رسالة ذات دلالات عدة حينها. بل إن الحبيب الفرقاني قد أعطى لقوة ذلك الوجود السياسي الإتحادي النضالي بسوس معنى سوسيولوجيا، يجد مرتكزه في الخلفية الفكرية والسلوكية التي ظلت تحكم الذهنية الأمازيغية السوسية، ضمن بوثقة وطنية راسخة. وهي الدراسة التي تقوض الكثير من خطابات مدعي وتجار »الهوية الأمازيغية« اليوم. مثلما كانت تلك الجلسة مناسبة لحديث مطول حول معنى »الحرطاني« في الذاكرة المغربية (أي »الحر الثاني«) والتي تعتبر من المواضيع ذات الحساسية الحقوقية الهائلة.
محمد الحبيب الفرقاني هو أيضا تجربة مجلة “الأديب”، التي كانت تصدر بمراكش، وفيها نسجت الكثير من المعاني الفكرية والسياسية لجيل كامل مغربي من الجنوب، سيصبح العديد من أبنائه صانعي معان في مغرب السبعينات والثمانينات إلى اليوم، فقد كانت مشتلا لإنضاج أفكار ورؤى وطنية حداثية وعقلانية رصينة في “تامغربيت”. بذلك، سيظل الفرقاني اسما راسخا من أسماء الوطنية المغربية، تلك التي كان معنى الوجود عندها يتساوق مع اليقين أن “حب الأوطان من الإيمان”. وحب الأوطان هو في الحرص على منهج البناء فيها لا الهدم، وفي الحرص على استقلالية القرار السياسي الوطني المغربي، لا ذلك المرتهن للخارج تحت يافطة سياسية توظف الدين، وأن قوة البلاد هي في مكرمة تنظيم الإختلاف والتعدد بين أبناءها كل أبناءها. سيرة الرجل بهذا المعنى درس لنا جميعا اليوم.