من أبرز التداعيات التي تمخض عنها تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف إعلاميا باسم “داعش”، خارج مناطق الصراع الأساسية في سوريا والعراق هو إنهاء حالة الاحتكار والهيمنة التي بسطها تنظيم “القاعدة” علي مشهد العنف الديني في المستويين الإقليمي والعالمي خلال عقدين.
صاحب مزاحمة “داعش” لـ “القاعدة” علي صدارة المشهد الجهادي العالمي مجموعة من المتغيرات علي المستوي الحركي، أهمها إعادة تشكيل خريطة حركات العنف الديني في العالم، وفقا للولاءات والبيعات الجديدة التي توزعت بين تنظيمين، بعد أن كانت حكرا علي تنظيم واحد. كما حدث تغير شامل في تكتيكات العمل المسلح التي تتبعها جماعات العنف بسبب تأثرها بالنسق الذي يمثله “داعش”، فضلا عن إعادة طرح مجموعة من المفاهيم والمبادئ علي طاولة البحث السياسي والشرعي من جديد. وبمرور الوقت، أصبح الجدل حولها أحد مسببات التوتر والصراع بين هذه الجماعات.
ولعل أحد تعقيدات المشهد الجهادي في المنطقة خلال العام الأخير -بعد إعلان “داعش” قيام الخلافة، وعدم شرعية باقي الجماعات- يرجع الي أن التنظيمين الرئيسيين، “القاعدة” و”داعش”، ينشطان بقوة علي رقعة جغرافية واحدة (بادية الشام – شبه الجزيرة العربية – شمال إفريقيا -القرن الإفريقي – القوقاز وآسيا الوسطي)، وهو أمر أسفر عن علاقة مركبة بين التنظيمين وباقي التنظيمات التابعة لهما، اتخذت مسارات مختلفة، تراوحت أحيانا بين النزاع بدرجاته المختلفة، والتأثير المتبادل في بعض الأحيان، والتعاون في أحيان قليلة.
ويطرح المشهد في محصلته تساؤلا ملحا حول مستقبل جماعات العنف في المنطقة، ومدي إمكانية أن يكون ما جري، خلال العام الماضي، إرهاصات لإعلان نهاية “القاعدة”، التنظيم الأقدم والأعرق، أو علي الأقل اندماجه تحت لواء “داعش”، الأكثر حضورا في مشهد العنف اليوم، وهو أمر -علي أي حال- لا يمكن التوصل لتصور مبدئي بشأنه قبل استعراض وضع التنظيمين في الوقت الحالي، ومساحات التباين والتشابك بينهما فكريا وميدانيا.
أولا- الخلافة الإسلامية بين “داعش” و”القاعدة”:
بحكم أن الحركة الإسلامية المعاصرة نشأت بالتزامن مع الإعلان رسميا عن سقوط الخلافة الإسلامية في بدايات القرن الماضي، فإن جميع الحركات الإسلامية، بالرغم من التفاوت في مناهجها الفكرية، والسياسية، والعملية، تدرج هدف إحياء الخلافة ضمن أهدافها الرئيسية.
1- الخلافة الإسلامية عند “القاعدة”:
تكشف وثائق وأدبيات تنظيم “القاعدة” أن رؤية التنظيم لمشروع إعادة الخلافة الإسلامية تنطلق من نظرية “قتال العدو البعيد”، علي أساس أن وجود الولايات المتحدة علي رأس النظام العالمي كفيل بإجهاض أي محاولة لإقامة إمارة أو دولة إسلامية، وأن عودة الخلافة تبدأ باستنزاف القوة الأمريكية، حتي تصل إلي مرحلة الانهيار، وبعدها تبدأ مرحلة قتال الأنظمة المحلية التي يري التنظيم أنها لن تسقط إلا بسقوط أمريكا.
هذه الرؤية التي يبدو أنها متأثرة الي حد كبير بتجربة سقوط إمارة طالبان الإسلامية، بعد أحداث سبتمبر 2001، قد عبر عنها بوضوح أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم “القاعدة”، في رسالة عثرت عليها وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” بمقر المنزل الذي كان يقيم فيه بباكستان.
واعترفت “القاعدة”، ممثلة في زعيم التنظيم الحالي أيمن الظواهري، بصحتها بعد نشرها، وكان بن لادن قد تعرض فيها لمطالبة عناصر جهادية بتأسيس إمارة إسلامية في مناطق من اليمن وقعت تحت سيطرة تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب”، وطالب فيها بمواصلة الاستنزاف المباشر للعدو الأمريكي، حتي ينكسر ويضعف عن التدخل في شئون العالم الإسلامي. وبعد هذه المرحلة، تكون مرحلة إسقاط الحكام المتخلين عن الشريعة، وتليها بإذن الله مرحلة إقامة دين الله، وتحكيم شريعته”(1).
المعني نفسه ورد في رسائل أخري منسوبة لـ”بن لادن” موجهة لعناصر تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” بـ “عدم الإلحاح في قيام دولة إسلامية الآن، والعمل علي كسر شوكة العدو الأكبر كضرب السفارات الأمريكية في دول إفريقيا”(2). والواضح أنه كانت هناك حالة التزام عامة بالاستراتيجية التي وضعها الزعيم الروحي للتنظيم حتي بعد وفاته، سواء علي مستوي القيادة المركزية، أو الأفرع الإقليمية التابعة للقاعدة ويظهر ذلك في عدد من المواضع، منها -علي سبيل المثال-البيان الذي وقعه عشرة من أبرز مناصري “القاعدة” علي مستوي العالم في يناير 2015 بخصوص النزاع بين الحركات الجهادية في القوقاز، ورأوا فيه أن إقامة دول وإمارات إسلامية، في ظل زعامة أمريكا للنظام العالمي، ضرب من ضروب العبث(3).
في إطار هذه الرؤية العامة، تحرص “القاعدة” علي تحقيق مجموعة من الأهداف، وأبرزها:
– توظيف الغضب الشعبي المتصاعد ضد سياسات الولايات المتحدة في المنطقة لمصلحة خلق حاضنة شعبية متعاطفة ومؤيدة.
– مراعاة طاقات وقدرات الجمهور العادي من المتعاطفين.
– الحفاظ علي العناصر الشابة للتنظيمات الجهادية.
– تحييد أطراف محلية وإقليمية فاعلة علي الأرض، لكنها لا تشترك مع جماعات العنف في المنطلقات الأيديولوجية نفسها، وقد تقبل بالتعاون معها في مرحلة من المراحل.
وقد عبرت عن كثير من هذه الأهداف الوثيقة التي بعث بها أبو مصعب عبد الودود، زعيم تنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي”، إلي جماعة “أنصار الدين” في أزواد عام 2012، بعد إعلان استقلال الإقليم عن جمهورية مالي، وحملت الوثيقة عنوان “توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي في أزواد”(4).
وتكفي الإشارة إلي أن عبد الودود نصح في هذه الوثيقة جماعة “أنصار الدين” بضرورة الوصول إلي اتفاق مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد بعدِّها الطرف الأقوي في المعادلة السياسية آنذاك، رغم أن قطاعا كبيرا من العناصر الجهادية ينظر إليها بوصفها حركة “علمانية”.
وربما تكشف واقعة فشل الاندماج بين جماعة “أنصار الدين” والحركة الوطنية لتحرير أزواد، بل والنزاع المسلح بينهما فيما بعد، عن عدد من جوانب القصور في الرؤية التي تتبناها “القاعدة”، حيث تُنتقد بأنها مثالية، وغير عملية، وغير مقنعة للأتباع، ولا تجيب علي تساؤلاتهم.
2- الخلافة الإسلامية عند “داعش”:
علي النقيض تماما من “القاعدة”، ينطلق تنظيم “الدولة الإسلامية” في رؤيته لمشروع الخلافة الإسلامية من نظرية “قتال العدو القريب”. ويرجع ذلك إلي مجموعة من الأمور، أهمها أن نشأة التنظيم في العراق تداخل فيها “قتال العدو البعيد”، ممثلا في قوات الاحتلال الأمريكي، و”قتال العدو القريب”، ممثلا في كل من السلطة السياسية بالعراق المتهمة بأنها مجرد واجهة سياسية لقوات الاحتلال، وتخضع أيضا لإملاءات طهران، “ومجالس الصحوات” التي شكلتها القبائل العراقية، وحظيت بدعم أمريكي، بالإضافة إلي الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وعندما تمدد التنظيم لأول مرة خارج العراق، اتجه إلي سوريا بهدف قتال نظام سياسي محلي، والسعي لإسقاطه، وهو ما يندرج أيضا تحت بند “العدو القريب”.
اتساقا مع هذا المسلك، استغل التنظيم مجموعة من المتغيرات في عدد من دول المنطقة، وبدأ في تصدير نظرية “قتال العدو القريب”، بعد أن غلفها بانتصارات حققها علي الساحتين السورية والعراقية، صاحبها تحرك قوي لآلته الإعلامية، ركز خلاله علي إستدعاء بعض ممارسات القرون الأولي لدولة الإسلام دون مراعاة لاختلاف السياق التاريخي والحضاري، ثم تم تتويج ذلك كله بإعلان التنظيم قيام الخلافة، وبطلان شرعية جميع الجماعات والتنظيمات، وما تبع ذلك من تشكيل التحالف الأمريكي لمواجهة “داعش”.
ثانيا- “القاعدة” و”داعش” في الميدان:
مر تنظيم “الدولة الإسلامية”، منذ تأسيسه، بثلاث مراحل رئيسية، الأولي هي مرحلة العمل داخل العراق، ثم التمدد إلي سوريا في المرحلة الثانية، وأخيرا المرحلة الثالثة التي تمدد خلالها التنظيم بشكل عشوائي علي الرقعة الجغرافية لإقليم الشرق الأوسط. وخلال هذه المراحل الثلاث، تأرجحت العلاقة بين تنظيم الدولة و”القاعدة” من التبعية التامة في المرحلة الأولي، والنزاع في المرحلة الثانية، إلي أن وصلت العلاقة لحالة التمرد والعصيان الكامل في المرحلة الثالثة.
1- سوريا:
انعكست هذه الأطوار المختلفة علي العلاقة بين التنظيمين والأفرع التابعة لهما في ميادين النزاع العسكري، لاسيما أن “داعش” استند في سوريا – حيث الميدان الرئيسي للنزاع – إلي قوة الأمر الواقع لإقرار تمدده، من خلال السيطرة علي بعض المناطق وإخضاعها لحكم التنظيم، وهو أمر أدي إلي مواجهات مع باقي التنظيمات، وأبرزها جبهة النصرة، الفرع الرسمي لـ”القاعدة” هناك.
ومع تصاعد الصراع بينهما، تدخلت القيادة المركزية لـ “القاعدة” كطرف وسيط، ثم تحولت إلي خصم بسبب رفض قيادة “داعش” نتائج الوساطة. وهنا، لجأت قيادة “القاعدة” لأول مرة إلي الكشف عن مجموعة من الوثائق والمراسلات المتبادلة بين التنظيمين، بل والكشف أيضا عن هوية بعض الشخصيات التي لعبت دورا في نقل التعليمات والتفاصيل التنظيمية الدقيقة(5) بينهما لإثبات أن أبا بكر البغدادي وتنظيمه في أعناقهم بيعة لـ “القاعدة”، وأن أيمن الظواهري هو أميرهم المباشر، وأن البيعات التي جمعوها داخل وخارج سوريا باطلة.
مقابل هذا الارتباك الذي بدت عليه قيادة “القاعدة” المركزية، كان “داعش” قد تمكن من الاستحواذ علي مساحة كبيرة في سوريا، وأحاط المناطق الواقعة تحت سيطرته بنسق إداري موحد(6).
علي الصعيد الآخر، صدرت بعض الإشارات عن جبهة النصرة، أنبأت بأن هناك سعيا للفكاك من الارتباط التنظيمي بـ “القاعدة” من أجل الحصول علي دعم إقليمي ودولي يدفعها للعب دور محوري لإسقاط نظام بشار الأسد، علي أساس أن القوي الداعمة تتحرج من تقديم دعم علني لتنظيم يعلن ولاءه وتبعيته لـ “القاعدة”. فكان أن خاضت جبهة النصرة تجربة عسكرية ناجحة، تحت مظلة تحالف “جيش الفتح”، الذي يضم إلي جوارها بعض الفصائل الإسلامية، الموصوفة إقليميا وغربيا بـ “المعتدلة”، ومجموعات محلية.
وتمكن هذا التحالف من السيطرة علي إدلب، وجسر الشغور في شمال سوريا، وتحريرهما من سيطرة النظام السوري، وهي تعد من مناطق النزاع الرئيسية في سوريا. وبعدها، ظهر زعيمها أبو محمد الجولاني علي شاشة قناة الجزيرة القطرية في 31 مايو 2015. وكانت هناك حالة ترقب بأنه سيعلن خلال هذا اللقاء انفصال جبهة النصرة عن “القاعدة”، لكنه اختار أن يبعث برسائل طمأنة إلي أطراف محلية ودولية، مثل تأكيده أن جبهة النصرة تلقت تعليمات من القيادة المركزية للقاعدة بألا تتخذ من سوريا مركزا لشن هجمات ضد المصالح الغربية والأمريكية(7)، وتأكيده أن النصرة لا تقتل المسيحيين، ولا تفرض عليهم الجزية(8)، وكذلك تأكيده أن النصرة ستخلي سبيل أي عنصر يتبرأ من النظام في القري الشيعية المحيطة والموالية للنظام، حتي لو كان متورطا بقتل عناصر من النصرة(9).
هذه التطمينات وإن كانت تشير إلي أن النصرة تتجه لأن تخط لنفسها خطا مختلفا عن “القاعدة”، فإنها لم تكن علي المستوي الذي يلبي طموح الحلفاء العسكريين للجبهة في “جيش الفتح”، ولا القوي الإقليمية والدولية الداعمة لهذا الحلف، الذي يتم تسويقه الآن بوصفه المعارضة السورية المعتدلة في مواجهة النظام و”داعش”. لذا، فإنه من المتوقع أن تتعرض جبهة النصرة لحجم هائل من الضغوط من أجل فك الارتباط التنظيمي بينها وبين “القاعدة”، والحفاظ علي الصورة التي يراد تسويقها لذلك الحلف.
2- شمال إفريقيا:
أما خارج الميدان السوري فقد واجهت “القاعدة” تعثرات أخري مقابل حالة التمدد العشوائي التي تمكن “داعش” من تحقيقها لأسباب تتعلق بغياب تاريخي لـ “القاعدة” عن دول تمثل مراكز ثقل في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
تمكن “داعش” من استغلال الظرف السياسي في مصر وليبيا، لكن التنظيمات التي أعلنت مبايعتها للبغدادي “أنصار بيت المقدس- مجلس شوري شباب الاسلام” اتخذت مسار “التبعية العقدية الجامدة” لـ “داعش”، منذ إعلان بيعتها للبغدادي، فأصبحت تتبع المنهجية الإعلامية والميدانية نفسها التي ينفذها تنظيم الدولة في سوريا والعراق.
ومع الفارق بين الحضور الميداني لأنصار “داعش” في مصر، الذي ينحصر تقريبا في سيناء، وليبيا، حيث يتوزع فيها بين برقة، وطرابلس، وفزان، فإن حالة “اللا دولة” وفراغ المؤسسات التي تعيشها ليبيا، منذ سقوط نظام القذافي، مكنته من اجتذاب عناصر مهمة من تنظيمات محسوبة فكريا علي “القاعدة”، مثل أنصار الشريعة. وأصبح من المحتمل أن يعلن أنصار الشريعة عن مبايعته بالكامل لـ “داعش”، لاسيما بعد أن أصدر فقيهه الشرعي أبو عبدالله الليبي مؤلفا حمل عنوان “المبررات الشرعية والواقعية لبيعة الدولة الإسلامية”.
وفي دول المغرب العربي، نجح “داعش” بالفعل في تحويل دفة ولاء أنصار الشريعة بتونس إليه، بعد أن كان تابعا بشكل واضح للقاعدة. أما في الجزائر، فإن التنظيم أوجد له موطئ قدم له عبر انشقاق مجموعة من أفراد تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي الذي اكتفي بوصاية روحية علي مجموعة من التنظيمات في الدول الإفريقية المحيطة، واقتصر نشاطه العسكري علي تنفيذ هجمات من وقت لآخر ضد المصالح الغربية.
3- القرن الإفريقي:
لم يعلن كثير من حركات العنف في دول القرن الإفريقي عن مبايعتها بشكل صريح لـ “داعش”. إلا أن عددا من الشواهد تشير إلي حالة من التقارب معه.
بالنسبة لحركة شباب المجاهدين، فإنها لم تتحلل بعد من بيعتها لزعيم “القاعدة” حتي بعد التغييرات التي حدثت في رأس الحركة، إثر مقتل أحمد عبدي جودان، وتولي أحمد عمر أبو عبيدة القيادة بدلا منه. لكن هذا لا ينفي أن جودان نفسه كان قد أكد – في تسجيل مرئي بثه في سبتمبر 2014 – تأييده لمنهج “داعش” في مواجهة من سماهم بـ “غير المؤمنين” دون أن يبايعه أو يعلن الارتباط التنظيمي به.
لكن عددا من المؤشرات تؤكد وجود مصلحة مشتركة بين الطرفين في استهداف حركة الملاحة الدولية التي ستؤدي من جهة إلي تدعيم الموارد المالية لحركة شباب المجاهدين. وستؤدي من جهة أخري لتخفيف الضغوط الدولية عن مناطق تمركز “داعش” في سوريا والعراق.
في المقابل، فإن “بوكو حرام” في نيجيريا عدلت موقفها تجاه الصراع بين “داعش” و”القاعدة”، وأعلنت – في تسجيل صوتي منسوب لزعيمها أبوبكر شيكاو – مبايعة البغدادي. وأعلن أبو محمد العدناني، في تسجيل صوتي لاحق، قبول هذه البيعة، وتمدد “داعش” في غرب إفريقيا، لكن اللافت أن هذه الولاية الجديدة قدمت نموذجا مختلفا عن باقي ولايات “داعش”، حيث ركزت علي مواصلة الصراع ضد قوات التحالف الإفريقي، ولم تحتذ بمظاهر تطبيق الشريعة، ولم تحاك الأداء الإعلامي “الداعشي”.
ولذلك، تظل هناك حلقة مفقودة بشأن دوافع تخلي “بوكو حرام” عن موقفها الذي كان يفضل البقاء في المنتصف بين “داعش” و”القاعدة”، وعدم مبايعة أي منهما.
4- الجزيرة العربية:
لا يزال تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” أحد أهم أفرع “القاعدة” في العالم، ومع ذلك، فإن كثيرا من ملامح “الدعشنة” طرأت علي هذا التنظيم، خلال العام الماضي، فيما يمكن عدّه مستوي جديدا من العلاقة بين “القاعدة” و”داعش”، وهو التأثير المتبادل.
ملامح “الدعشنة” يمكن رصدها من خلال تأسيس حركة “أنصار الشريعة”، التي أعلنت محافظة أبين إمارة إسلامية، وإصدارها بيانات تحاكي البيانات الصادرة عن “داعش”، وولاياتها فيما يتعلق بتوزيع الإعانات الغذائية، وتطبيق وحث المواطنين علي الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، نهاية بعملية ذبح مجموعة من جنود الجيش اليمني بالنهج “الداعشي” نفسه.
هذا التأثير المتبادل أسفر عن حادث “شارلي إبدو” الذي يمكن عدّه أول عملية مشتركة بين “داعش” و”القاعدة” يتم تنفيذها في قلب أوروبا حتي وإن إن بدا هذا التعاون عشوائي وغير منظم.
بالإضافة إلي ماسبق، فإن “داعش” بدأ في الاعلان عن وجوده الصريح في جزيرة العرب عبر حوادث استهداف مساجد الشيعة في السعودية، وهو أمر سيضعف من وجود “القاعدة” هناك علي المستوي البعيد.
ثالثا- لماذا تراجعت “القاعدة” في مواجهة “داعش”؟
1- ثورات الربيع العربي:
تسببت ثورات الربيع العربي، بأطوارها المختلفة، في تآكل أطروحة “القاعدة” علي مختلف المستويات. فبعد نجاح الثورة المصرية، وجدت “القاعدة” نفسها في مأزق شديد، نظرا لأن الثورة قدمت نموذجا في إمكانية التغيير السلمي علي نحو يتعارض مع النموذج الذي تقدمه “القاعدة” منذ سنوات طويلة، لدرجة أنه استقر لدي كثير من الباحثين أن أسامة بن لادن دفن في ميدان التحرير، قبل أن يلقي القبض عليه في باكستان.
وبعد عسكرة الثورة الليبية، ثم الثورة السورية، تراجعت نظرية “قتال العدو البعيد” التي تتبناها “القاعدة”، وأصبحت المعارك الأساسية للجهاديين ضد أنظمة محلية لدول في المنطقة العربية.
وأدت مرحلة “الارتداد عن المسار الديمقراطي” في عدد من دول الربيع العربي إلي مزيد من التدعيم لنظرية قتال العدو القريب، التي يتبناها “داعش”.
2- تعاقب الأجيال في الحركة الجهادية:
ارتكز خطاب “القاعدة” في التسويق لنظرية “قتال العدو البعيد” علي مجموعة من التجارب التي تعرضت لها الحركة الإسلامية في دول مختلفة بالمنطقة، خلال الفترة من 1980 إلي 2001، وهي الفترة التي شهدت صعود وانكسار ما يسمي بـ “جيل الصحوة الإسلامية”. لكن بمرور الوقت، ظهرت أجيال جديدة بين عناصر الحركة الجهادية يتراوح عمرها بين الـ 20 وما دون الـ 40 عاما، لم تعاصر هذه التجارب، وأصبح “داعش” جاذبا لها.
3- تغيير القيادة:
خلال الفترة من 2010 إلي اليوم، قضي عدد من أبرز رموز تنظيم “القاعدة” علي مستوي العالم نحبهم في ظروف مختلفة، وأغلبهم كان يحمل حضورا قويا علي مستوي ساحة الجهاد العالمي.
وترتب علي ذلك ظهور أصوات داخل هذه التنظيمات، أثناء مرحلة إعادة ترتيب الأوضاع، تنادي بعدم تجديد البيعة للقاعدة والالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية.
الهوامش :
1- وثائق بن لادن، الوثيقة رقم:
SOCOM-2012-0000019 Orig
http://www.globalsecurity.org/security/library/report/2012/ctc-abbottabad_socom-2012-0000019_orig.pdf
2- الأخبار اللبنانية، من توصيات بن لادن، 22 مايو 2015:
http://www.al-akhbar.com/node/233744
3- الهيئة الإعلامية لولاية داغستان، بيان حول أحداث القوقاز الأخيرة، يناير 2015:
http://vd.ag/ar/archives/17138
4- نخبة الإعلام الجهادي، وثيقة توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي بأزواد، تنظيم “القاعدة” في بلاد المغرب الإسلامي، يوليو 2012.
5- مؤسسة السحاب، شهادة لحقن دماء المجاهدين بالشام، أيمن الظواهري:
https://ia.802706us.archive.org/26/items/Dwahari/.10pdf
6- المرصد السوري لحقوق الإنسان: “داعش” يسيطر علي أكثر من 50 من مساحة سوريا، مايو .2015
7- قناة الجزيرة، برنامج بلا حدود، لقاء أبي محمد الجولاني، مايو 2015:
https://www.youtube.com/watchv=F5WlpZhKmG0
8- المصدر السابق.
9- المصدر السابق.