محمد عابد الجابري: العولمة ومسألة الهوية بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي. 1- تعريفات… ومقارنات

ليس صحيحا إذن أن العولمة تقوم على كون “الرأسمال لا وطن له”. ذلك أن الرأسمال له في جميع الأحوال “وطن”. قد لا يكون وطنا من أرض وجبال وحدود، ولكنه في جميع الأحوال محدود بحدود “المصالح القومية” حتى ولو كان الأمر يتعلق ب- “الشركات متعددة الجنسية”. ذلك لأن هذه الشركات إذا كانت تنتشر في العالم على صعيد التسويق والإنتاج فهي تحتفظ ب- الوطن” الأصل كمركز للقرار، وبالتالي كمرجعية قومية. ومن هنا يمكن القول ليست هناك مصالح جماعية خارج المصالح القومية، تعددت جنسية الشركات أم لم تتعدد.
والمصالح القومية للدول الكبرى تتسع اليوم، بفضل سرعة الاتصال وسهولته، لتعم كوكبنا الأرضي من أقصاه إلى أقصاه. قد لا تكون “المصالح القومية” اليوم قومية بالمعنى القديم للكلمة، ولكنها في جميع الأحوال مصالح فئات معينة تستعمل الاقتصاد ووسائل الإعلام للضغط على أصحاب القرار، بعد أن تكون قد لعبت دورا رئيسا في حملهم، حين الحملات الانتخابية، إلى مراكز القرار، أعني المراكز التي تصنع القرار وتنفذه باسم “الأمة” و”المصالح القومية”.
سيدور هذا القول حول الإشكالية التالية: إلى أي مدى يمكن التحرر من الإيديولوجيا، والبحث في موضوع العولمة ومسألة الهوية بحثا علميا؟سؤال ينشد الوضوح، باعتبار أن ذلك هو هدف البحث العلمي. ولكن هل عناصر هذا السؤال واضحة كلها؟ إن وضوح السؤال شرط في الوصول إلى نتائج واضحة على صعيد الجواب، هذا أمر بديهي. لنبدأ إذن بإضفاء أكبر قدر ممكن من الوضوح على السؤال، ولنبدأ بتحديد مجال السؤال وعناصره الأساسية.
لعل أول ما ينبغي البدء به هو استبعاد الفكرة الجاهزة التي تتبادر إلى الذهن لتضفي وضوحا زائفا على الموضوع، الفكرة التي تربط التقابل بين العولمة ومسألة الهوية بالتقابل بين الدول المصنعة المتقدمة داعية العولمة والمستفيد الأول منها وهي دول “الشمال”، وبين البلدان الفقيرة أو القريبة من الفقيرة والتي تصنف ضمن الجنوب.
إنها فكرة جاهزة مضللة ليس لأنها خاطئة كليا بل لأن مثل هذا الربط يجر الباحث إلى تركيز النظر على هذا “التقابل” وحده وقراءة الموضوع وكأنه مظهر من مظاهر التقابل أو الصراع بين الغرب والشرق، بين الغرب /الشمال وبين الشرق/الجنوب؛ هذا في حين أن مفعول العولمة سواء على مستوى الهوية أو غيرها يمكن رصده أيضا، وربما بوضوح أكثر داخل “الشمال” نفسه.
سنركز بحثنا إذن في الموضوع المطروح على مجال أوسع، خارج ضغط تلك الفكرة الجاهزة، معتمدين معطيات الواقع كما هي، منطلقين من توضيح المفاهيم الأساسية المستعملة في البحث.
***
يتكون عنوان هذا البحث من خمسة مفاهيم أو عناصر لابد من عقد اتفاق بيننا وبين القارئ بشأنها، أعني حول المعنى الذي نعطيه لها هنا. هذه العناصر هي : إشكالية، العولمة، الهوية، البحث العلمي، الخطاب الإيديولوجي.أ- لقد استعملنا لفظ “الإشكالية” ولم نستعمل “المشكلة” قصدا. والفرق بينهما، عندنا, يتلخص في كون المشكلة تتميز بكونها يمكن الوصول بشأنها إلى حل يلغيها. ف- “المشاكل” في الحساب تنتهي إلى حل، باستثناء بعض المعادلات الرياضية التي يكون حلها، أعني التخلص منها بعد البحث والمحاولة، بالإعلان عن كونها لا تقبل الحل.
أما المشاكل المالية والاقتصادية والاجتماعية عموما, والمشاكل التي يصادفها العلماء في العلوم الطبيعية بمختلف أنواعها, فهي جميعا تنتهي إلى نوع من الحل، آجلا أو عاجلا، ما دام المجال الذي تطرح فيه ينتمي إلى الواقع الموضوعي ويقبل نوعا ما من التجريب. وفي هذا الإطار يصدق قول ماركس: “إن الإنسانية لا تطرح من المشاكل إلا تلك التي تقدر على حلها”. لماذا؟ لأن “المشاكل”، بهذا المعنى، إنما تظهر من خلال تقدم البحث، فاكتساب مزيد من المعرفة بموضوع ما يفتح الطريق أمام اكتشاف مجاهيل جديدة، تكون مناسبة لطرح أسئلة جديدة.
هذا هو تصورنا لمعنى “المشكلة”، وأعتقد أنه من الممكن التعاقد مع القارئ على هذا المعنى. كما يمكن التعاقد على معنى أضيق أو أوسع؛ ففي هذا المجال، مجال الحدود والتعريفات، ليس هناك برهان، وإنما تعاقد واتفاق بين الباحث والمتلقي (وقد يكون المتلقي هو الباحث نفسه)، فبدون هذا لا يمكن الوصول إلى برهان، فالبرهان إنما يبنى، من جملة ما يبنى عليه، على الحدود والتعريفات.هذا عن لفظ “المشكلة” وأمرها لا يحتاج إلى مزيد بيان.
أما “الإشكالية”، فهي شيء آخر.فعلا، يستعمل كثير من الكتاب والقراء (عندنا في العالم العربي) –أو يفهمون- هذا اللفظ ونسيبه “المشكلة” من غير تدقيق، وكأنهما من الألفاظ التي يجوز أن ينوب بعضها مناب بعض (وهل هناك فعلا ألفاظ يجوز فيها ذلك بدون غرض ومبرر؟). ومهما يكن, فنحن نستعمل هنا لفظ “إشكالية” في معنى محدد –ولو أنه معقد- غير معنى “المشكلة”. وفيما يلي تفاصيل عقد (تعريف) نقترحه على القارئ. ولا يخطرن بالبال أن التعريفات والحدود تصاغ كيف اتفق. كلا.
ليس لأحد أن يقترح تعريفا إلا إذا كان هذا التعريف يزيدنا معرفة بالمعرف به ويفسح المجال أمامنا لمزيد من المعرفة بالموضوع الذي نبحث فيه. ولعل القارئ سيلاحظ هذا بوضوح فيما نحن يصدده.لقد سبق أن حددنا ما نعنيه بهذا المصطلح منذ أن بدأ يشيع ويذيع في خطابنا العربي المعاصر، (قبل عشرين عاما: نحن والتراث 1980). لقد كتبنا آنذاك في هذا الموضوع ما يلي: “على الرغم من أن كلمة إشكالية من الكلمات المولدة في اللغة العربية (وهي ترجمة موفقة لكلمة problématique ) فإن جذرها العربي يحمل جانبا أساسيا من معناها الاصطلاحي.
يقال: أشكل عليه الأمر بمعنى التبس واختلط. وهذا مظهر من مظاهر المعنى الاصطلاحي المعاصر للكلمة (ولكنه مظهر فقط). ذلك أن الإشكالية هي، في الاصطلاح المعاصر، منظومة من العلاقات التي تنسجها، داخل فكر معين (فكر فرد أو فكر جماعة), مشاكل عديدة مترابطة لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل، -من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعا. وبعبارة أخرى : إن الإشكالية هي النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري”.لم نعمد هنا إلى استرجاع هذا التعريف جزافا، بل نحن نعتبره خطوة أولى لابد منها في سعينا إلى الوضوح الذي ننشده.
وسنرى أن الموضوع الذي نحن بصدده، أعني العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية، سيغدو أوضح، بمجرد ما نقرأه بواسطة هذا التعريف. ذلك أن العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية ليست من العلائق البسيطة بل هي فعلا:- “منظومة من العلاقات”، وليس بعلاقة بسيطة وحيدة الاتجاه: العلاقة بين العولمة ومسألة الهوية قائمة في آن واحد: بين طرف وطرف آخر داخل الدول المصنعة، وداخل الدول النامية، وبين هذه الدول وتلك…- “تنسجها داخل فكر معين”: فكر فرد وفكر جماعة وفكر أمة الخ. هذه العلاقة علاقة موضوعية فعلا، لها وجود في الواقع، ولكنها لا تتشكل منها إشكالية إلا بعد نقلها إلى الذهن بوصفها تطرح إشكالا قد يتمثل في كون العولمة تقفز على الهوية أو تلغيها، فيترتب عن ذلك رد فعل معين… وقد يتمثل في شيء آخر!- مشاكل عديدة مترابطة”، منها ما يخص ظاهرة العولمة نفسها، ومنها ما يخص مسألة الهوية، ومنها ما يخص العلاقة بينهما: مشاكل اقتصادية وتكنولوجية ومعلوماتية وثقافية وحضارية عامة.- هذه المشاكل “لا تتوفر إمكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل، -من الناحية النظرية- إلا في إطار حل عام يشملها جميعا”.
وسنرى أنه سواء تعلق الأمر بالعالم “المتقدم” أو بالعالم “المتخلف” فلا يمكننا حل المشاكل التي تطرحها العولمة دون الاصطدام بمسألة الهوية، كما لا يمكن التفكير اليوم في مسألة الهوية بدون الاصطدام بظاهرة العولمة، وفي جميع الأحوال سيكون الحل الذي نتوصل إليه حلا على الصعيد النظري. أما الناحية العملية فشيء آخر.- ومن هنا تبدو إشكالية العولمة ومسألة الهوية بمثابة “النظرية التي لم تتوفر إمكانية صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النظرية، أي نحو الاستقرار الفكري”.والحق أننا هنا لا نطمع، ويجب أن لا نطمع، في حل نهائي لهذه الإشكالية.
كل ما يمكن أن نحصل عليه بعد البحث هو شيء من “الاستقرار الفكري”، شيء من المصالحة داخل وعينا بين عناصر متصارعة.لقد قلنا في الفرق بين المشكلة والإشكالية، فلننتقل إلى الفرق بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي.ب- – يقوم البحث العلمي على مناهج متعددة. والغالب ما يرجع تعددها إلى اختلاف موضوع البحث، لأن طبيعة الموضوع هي التي تحدد نوعية المنهج. منهج البحث في الرياضيات غيرُه في العلوم الطبيعية, غيره في العلوم الإنسانية… وكذلك الشأن في الخطاب الإيديولوجي: فهو بطبيعته خطاب متعدد بتعدد الأغراض التي يريد إقرارها أو خدمتها، وهي أكثر من أن تحصى.
ومن أجل تجنب الخوض في مشاكل وإشكاليات جديدة سنعمد إلى المقارنة بين الحقيقة العلمية والحقيقة الإيديولوجية (بدل المقارنة بين البحث العلمي والخطاب الإيديولوجي). وهذا انتقال مبرر ومقبول، باعتبار أن غاية البحث العلمي هي الوصول إلى الحقيقة العلمية، كما أن الهدف الذي يرمي إليه الخطاب الإيديولوجي هو إثبات ما يريد إثباته كحقيقة. (على أن فيما قلناه في العبارة الأخيرة نوع من التحديد للفرق بينهما: البحث العلمي يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة، فهو لا يملكها ابتداء، أما الخطاب الإيديولوجي فهدفه إثبات ما يريد إثباته كحقيقة، فهو يتصرف وكأنه يملك “الحقيقة” ابتداء).
الحقيقة العلمية قوامها دعامتان. أولاهما الموضوعية والثانية إمكانية التحقق. والمقصود بالموضوعية هو التعامل مع موضوع البحث كما هو، أي في استقلال عن آرائنا وعواطفنا، وذلك إلى الدرجة التي يصبح معها بالإمكان الاتفاق بين الباحثين على ما هو إياه ذلك الموضوع. فإذا قام اتفاق بيننا على أن هذا الشيء الذي أمامنا هو الشيء الفلاني وليس غيره، هو قط وليس حجرا مثلا، قلنا إن علاقتنا المعرفية بهذا الموضوع علاقة موضوعية. والسؤال الآن هو: هل يمكن أن تقوم بيننا علاقة معرفية تربطنا جميعا بكل من العولمة ومسألة الهوية، من جنس العلاقة التي تربطنا بكل من القط والحجر مثلا؟هذا السؤال سؤال علمي: يطرح فقط في إطار البحث العلمي.
أما الخطاب الإيديولوجي فلا يتحمله!لماذا؟لأن الخطاب الإيديولوجي هو قبل كل شيء “خطاب”.ج – والخطاب رسالة من ذات إلى أخرى تنقل “حقيقة” يطلب من الذات المتلقية, ليس فقط أن تسلم بها, بل أيضا أن تعمل بها. وإذن فالخطاب الإيديولوجي في موضوع “العولمة ومسألة الهوية” خطاب ينقل إلى المتلقي وجهة نظر يعتبرها صاحبها صحيحة ويطلب من المتلقي أن يعمل بها. يمكن أن يقول مثلا: “يجب أن نأخذ بالعولمة وننخرط فيها ونعمل في إطارها إذا نحن أردنا أن نعيش في المستقبل”.
وقد يضيف: “أما الهوية فهي تنتمي إلى الماضي”. وقد يقول آخر: “يجب أن نقف في وجه العولمة لأنها تنطوي على غزو يمارسه الآخر علينا”. وقد يضيف: “وهو غزو يتجاوز مستوى السلع والاقتصاد لأنه يستهدف الثقافة وبالتالي الهوية والكيان”.واضح أن هاتين الوجهتين من النظر تضعاننا أمام إشكال وليس فقط إزاء مشكلة. وما يجعلهما تعبران عن إشكالية هو أن ما تقررانه ليس من قبيل “هذا أبيض” و”هذا أسود”، أو هذا “حجر” وهذا “قط”.
هما تعبران عن رأيين مختلفين متعارضين فعلا، غير أنك إذا أخذت بأحدهما لا ترتاح راحة كاملة، بل يبقى الثاني يشوش عليك رؤيتك ويجرك إلى بحر من الشكوك الغامضة فتعيش حالة من التوتر الفكري. إن الأمر يبدو وكأن هذين الرأيين المتناقضين، على طول الخط، صحيحان معا في وقت واحد. ومن هنا كان التوتر الذي ينجم عنهما من نوع التوتر الذي يبعثه في النفس الجمع بين النقيضين.
1- ملاحظات منهجية
2- العولمة والمعاصرة … والمصالح القوميةد – أوضحنا في الصفحات الماضية المعنى الذي نعطيه للأدوات التي نتحدث بها عن “العولمة” و”مسألة الهوية”، في العنوان الذي وضعناه لهذا القول، وسنقول الآن ما يلقي بعض الأضواء على هذين العنصرين، أعني العولمة والهوية.
غني عن البيان القول إن موضوعنا –بل صلب موضوعنا- هو العلاقة بينهما، ولكن قد ينبغي قبل الخوض في هذه العلاقة القيام بنوع من التحديد المجمل لكل منهما، خصوصا، وقد قررنا أن نركز هذا القول على تحديد المفاهيم.سبق أن نشرنا منذ أزيد من سنتين سلسلة مقالات بعنوان “العولمة نظام وأيديولوجيا” جمعت مع مقالات أخرى في كتاب صدر بعنوان “قضايا في الفكر المعاصر” (مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. 1977).
لقد عرضنا في تلك المقالات عدة أطروحات عبرنا فيها عن وجهة نظرنا في هذه الظاهرة الجديدة: العولمة. وقد برهنت تجربة السنتين الماضيتين عن صحة وجهة النظر تلك، ونحن متمسكون بها ولا نرى ما يدعو إلى تعديلها. لقد بدأ الحديث اليوم في المنتديات العالمية الرسمية وشبه الرسمية عن ضرورة “ترشيد” العولمة لتصبح “عالمية مسئولة”، وليس “عولمة” مفروضة، لتغدو نشاطا تجاريا عالميا خاضعا لبعض القيود ويحترم مصالح الدول والخصوصيات الإقليمية والمحلية، الشيء الذي يعني نزع طابع الهيمنة الإمبريالية والليبرالية المتوحشة عن العولمة كما عرفتها السنون الأخيرة.هذا الجانب لا يهمنا هنا.
فالعولمة كنشاط اقتصادي “خالص” ليست من الظواهر التي تصطدم بمسألة الهوية. هذا من حيث المبدأ. ولكن هل هناك في عصرنا نشاط اقتصادي “خالص”؟ ثم أين تبتدئ “مسألة الهوية” وأين تنتهي؟هذان السؤالان هما من بين الأسئلة التي تجعل من العلاقة بين “العولمة” و”مسألة الهوية” علاقة إشكالية بالمعنى الذي حددناه في الحلقة السابقة.
ذلك أنه ما دمنا لا نستطيع أن نحدد بدقة حدود ظاهرة العولمة، حدودها الاقتصادية والثقافية والإعلامية الخ، ولا أن نرسم ل-“مسألة الهوية” إطارا محددا لا تتعداه، فإنه سيكون من الصعب وضع منحن أو منحنيات للعلاقة التي يمكن أن تقوم بينهما. كل شيء ممكن في مثل هذه الحالة. ومن هنا تلك الشحنة من التوتر التي قلنا إنها ترافق “الإشكالية” دوما.
بعبارة أخرى: نحن لا نستطيع الوصول إلى نتيجة نحس معها فعلا بالاستقرار الفكري، وإن حصل شيء من هذا فبسبب غفلة، سرعان ما تنقشع عن توتر أكبر.لقد عرف الفكر العربي الحديث إشكالية مماثلة لم يهتد بعد إلى حل بشأنها يمنحه ما هو في حاجة إليه من الاستقرار الفكري. هذه الإشكالية هي ما كان وما يزال يدعى ب-“إشكالية الأصالة والمعاصرة”.
ولقائل أن يقول: أليست إشكالية “العولمة ومسألة الهوية” سوى مظهر من مظاهرها، مظهرها الجديد الذي فرضه التطور علينا؟والجواب: هناك فعلا تشابه بين الإشكاليتين، ولكن في الظاهر فقط، أما المضمون فمختلف. والألفاظ نفسها، أعني صيغتها الصرفية، تشي بهذا الاختلاف: ف-“المعاصرة” مفاعلة، وهي صيغة تدل على المشاركة.
ف-“المعاصرة” صيغة تفيد أننا نحن الذين نطلب المعاصرة ونقوم بها لأنفسنا، أي نسعى إلى أن نرتفع إلى مستوى عصرنا في مجال الفكر والعلم والصناعة، وبالتالي الأخذ بأكبر قدر من التقدم والرقي. أما العولمة فصيغتها الصرفية فوعلة تفيد جعل الشيء على هيأة معينة: فقولبة الشيء معناها جعله في قالب. كما أن عولمته تعني جعله عالميا. وهذه الفروق اللغوية ليست خاصة باللغة العربية بل نلحظها في كثير من اللغات الأجنبية. ف-” العولمة” ترجمة لكلمة globalisation التي تفيد في معناها اللغوي التعميم: تعميم الشي وجعله شاملا.
وإذا لاحظنا أن كلمة globe تعني الكرة، وتستعمل علما لتدل بالتحديد على الكرة الأرضية، استطعنا أن نربط العولمة بهدفها الاستراتيجي: أعني تعميم نمط من الحياة على الكرة الأرضية كلها. ومن هنا الاسم المرادف ل- “العولمة” في الخطاب العولمي المعاصر، أعني لفظ planétarisation وهو ما يترجمه بعضهم ب-“الكوكبية”. والمقصود جعل كوكب الأرض كله مسرحا لنمط معين من التعامل المالي والتجاري، وبالتالي الحضاري، هو النمط الأمريكي.
هذا من جهة ومن جهة أخرى لابد من ملاحظة أنه لسنا نحن الذين نقوم بالعولمة والتعميم، بل العولمة عملية تتم خارج إرادتنا، على العكس تماما مما تدل عليه “المعاصرة” التي نفترض فيها أننا نحن الذين نقوم بها بإرادتنا أو على الأقل ندعو إليها. وقد نلمس هذا الفرق بوضوح أكبر لو أننا انتبهنا إلى الطريقة التي نعبر بها عن الموقف الإيجابي منهما، موقف القبول. ذلك أننا نقول: نحن ننشد المعاصرة ولا نقول “ننشد العولمة”، بل نقول: “ننخرط” في العولمة أو “نستعد في الدخول” في عصر العولمة.
د – بعبارة قصيرة، في “المعاصرة” نتعامل مع أنفسنا كذات، أما في “العولمة” فنشعر أننا موضوع لها. قد يكون هذا مجرد فرق سيكولوجي. ليكن. فالموقف السيكولوجي هنا من الأهمية بمكان: إن الأمر يتعلق ب-“الهوية”، والهوية مسألة وعي، فهي من ميدان السيكولوجيا. ولذلك سيكون رد الفعل من قبيل الاستفهام الاستنكاري التالي: وهل من يتعامل مع الظاهرة نفسها كذات فاعلة كمن يتعامل معها كموضوع منفعل؟ثم إن التقابل أو التعارض بين “الأصالة والمعاصرة” ليس من جنس التقابل والتعارض بين “العولمة والهوية”.
ذلك أن “المعاصرة” لا تهدد الهوية إلى درجة إلغائها ونفيها، بل بالعكس تعمل على إغنائها وتجديدها. والأصالة، بعد، ليست جزءا من الهوية، بل هي وصف يمكن أن توصف به. أما “العولمة” فبما أنها تعميم وقولبة فهي تهدد الهوية كما تهدد الأصالة، أو على الأقل نوعا من الهوية ونوعا من الأصالة.قد يعترض معترض ويقول: وما شأن “العولمة”، ومجالها التجارة ، وشأن الهوية والأصالة وهما أمور معنوية؟ والجواب: التجارة هي النشاط الحيوي للرأسمال، والرأسمال يقال فيه اليوم أكثر من أي وقت مضى إنه “لا وطن له”.
فالعولمة إذن نفي للوطن وإلغاء له. والوطن هو مجال الهوية والأصالة.يمكن لداعية العولمة أن يوافق على ذلك ويختاره: يمكن أن يقول: لقد انتهى عصر القوميات والهويات ونحن الآن في عصر الفضائيات وشبكة المعلومات!مثل هذه العبارة تتكرر هنا وهناك. وهي عبارة تحمل صدقا وكذبا في آن واحد, ويراد بالصدق فيها أن يغطي على الكذب! هي صادقة في القول: “نحن الآن في عصر الفضائيات وشبكة المعلومات”، فهذا واقع.
ولكنها غير صادقة في القول: “انتهى عصر القوميات والهويات”، لأن هذا حكم ذهني لا يستند إلى الواقع. والحكم الصحيح والعلمي في مثل هذه الدعاوى هو الواقع لا غيره. والواقع هو ما نشاهده. وما نشاهده هو انبعاث الروح القومية والانكفاء في إطار هويات ضيقة، في بلدان “الشمال” كما في بلدان “الجنوب”.سنقتصر هنا على ذكر شهادات تخص بلدان “الشمال”، حتى لا نربط التقابل بين البلدان التي تعتبر بصورة أو بأخرى “فاعلة” العولمة والبلدان “المنفعلة” بها وبين التقابل بين العولمة والهوية.
لا تتردد الولايات المتحدة الأمريكية داعية العولمة، والمبشرة بها كنظام عالمي جديد لابد من الأخذ به، أقول: لا تتردد في التهديد باتخاذ عقوبات اقتصادية انتقامية ضد الدول التي تمارس التجارة حسب مقتضيات العولمة نفسها، عندما ترى في تلك الممارسة ما يمس بما تسميه ب- “المصالح القومية” للولايات المتحدة. وقد شهدت الشهور الأخيرة نزاعا حادا بين الولايات المتحدة الأمريكية وكل من اليابان والمجموعة الأوربية بسبب ممارسة التجارة بموجب الاتفاقيات الدولية التي شرعت للعولمة بإشراف الولايات المتحدة وزعامتها.
وإذا كان الأمر قد وقف عند حد اتخاذ الإجراءات الحمائية أو التهديد بها فلأنه يتعلق بالأقوياء السبعة الكبار الذي يشكلون قوام ما يسمى ب-“المجتمع الدولي” الذي هو، في الحقيقة والواقع، “مجتمع” الفاعلين للعولمة المستفيد منها. أما عندما يتعلق الأمر بغير هؤلاء فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تتردد في استعمال الأسلحة المتطورة من صورايخ ومقنبلات وغيرها ل-“ردع” الضعفاء الطموحين إلى شيء من “الكبر”، أو الذين قد يمارسون حقهم في حماية ثرواتهم القومية.ليس صحيحا إذن أن العولمة تقوم على كون “الرأسمال لا وطن له”.
ذلك أن الرأسمال له في جميع الأحوال “وطن”. قد لا يكون وطنا من أرض وجبال وحدود، ولكنه في جميع الأحوال محدود بحدود “المصالح القومية” حتى ولو كان الأمر يتعلق ب-“الشركات متعددة الجنسية”. ذلك لأن هذه الشركات إذا كانت تنتشر في العالم على صعيد التسويق والإنتاج فهي تحتفظ ب-“الوطن” الأصل كمركز للقرار، وبالتالي كمرجعية قومية. ومن هنا يمكن القول ليست هناك مصالح جماعية خارج المصالح القومية، تعددت جنسية الشركات أم لم تتعدد.
والمصالح القومية للدول الكبرى تتسع اليوم، بفضل سرعة الاتصال وسهولته، لتعم كوكبنا الأرضي من أقصاه إلى أقصاه. قد لا تكون “المصالح القومية” اليوم قومية بالمعنى القديم للكلمة، ولكنها في جميع الأحوال مصالح فئات معينة تستعمل الاقتصاد ووسائل الإعلام للضغط على أصحاب القرار، بعد أن تكون قد لعبت دورا رئيسا في حملهم، حين الحملات الانتخابية، إلى مراكز القرار، أعني المراكز التي تصنع القرار وتنفذه باسم “الأمة” و”المصالح القومية”.لنترك الولايات المتحدة ولننتقل إلى بريطانيا.
هنا سنجد أنفسنا إزاء موقف من العولمة تحكمه المصالح القومية إلى درجة التناقض. فمن جهة يرفض معظم البريطانيين التنازل عن عملتهم الوطنية والانضمام إلى منطقة اليورو. وقد استمعت مؤخرا لريبورتاج أذاعته البيبيسي استجوبت فيه عددا من الأفراد البريطانيين نساء ورجالا حول احتمال انضمام بريطانيا لمنطقة اليورو، فكانت جميع الأجوبة ضد هذا الانضمام. والحجة المتكررة هي أن العملة رمز وطني وأن الوحدة الأوربية يجب أن لا تطال الرموز الوطنية لبريطانيا.
وفي استطلاع للرأي العام أجري هناك في الآونة الأخيرة عبر أزيد من خمسين في المائة عن معارضتهم للتخلي عن العملة البريطانية والانضمام إلى اليورو.هذا من جهة, ومن جهة أخرى يمكن للمرء أن يلاحظ تحالف الإنجليز مع أوربا ضد أمريكا عندما تتخذ هذه الأخيرة إجراءات حمائية في الميدان التجاري، أو عندما تتناقض السياسة الأمريكية مع المصالح “القومية” البريطانية التي تشمل –عند الحاجة- مصالح الكومونويلث, مع أن الإنجليز هم مع الأمريكان في السياسة الخارجية.
وعلى العموم يمكن القول إن ما يطبع العلاقات بين أوربا والولايات المتحدة الأمريكية في هذا المجال هو التحالف ضد الآخرين في إطار التناقض بين المصالح القومية لكل منهما.للحديث صلة

نشر في السند يوم 10 – 12 – 2010

‫شاهد أيضًا‬

الثقافة العالمية والثقافة المعولمة * عبد السلام بنعبد العالي

على عكس الرؤية الميتافيزيقية التي تفترض فكرًا كونيًّا يتعالى على الأحقاب التاريخية والفروق…