من المفروض في أي تفكر نظري- مهما بلغ من الصرامة شأنا- قبوله أن يكون معرضا للنقد، ولإعادة النظر، بما يقويه، ويضاعف من مشروعيته. وكل اطمئنان في التعامل مع الأفكار- بعيدا عن مراجعتها موضوعيا- يعد تعبيرا عن مأزق معرفي يؤول إلى الذات المعرفية، وسياقها التاريخي أكثر من أي شيء آخر؛ فالسياق التاريخي القائم على التبعية في العالم العربي، يجعلنا بمثابة ذوات ناقلة وناسخة تضاعف مصداقيتها بالتحصن وراء الآخر خوفا من الزلل والخطأ، بل درعا لكل نقد محتمل، وارتكانا إلى المألوف تلافيا لكل مجازفة. ولذلك نفتقر إلى الجرأة على الشك في الأفكار، وتقليب النظر فيها، ولا يتعدى تعاملنا معها حسن النية. فهذا هو حالنا مع الاصطلاحات والمفاهيم التي تفد علينا من الغرب، بل من التراث أيضا، ننقلها بلذة المكتشف، وتطبيقها كما هي، وأحيانا بتصرف يخل بمستواها الأصلي نتيجة قصور في الفهم، وعدم ضبط أصولها، والسياقات المعرفية التي أنتجتها. ومن هذه الاصطلاحات التي استأنس النقد العربي التعامل معها- في مجال نظرية الرواية- اصطلاح البوليفونية الذي يعود اصطناعه إلى المنظر الروائي ميخائيل باختين. فما محتواه النظري؟ وما أسسه المعرفية؟ وما المشكلات التي يتكفل بحلها على مستوى جمالية الرواية؟
نفضل ترجمة هذا الاصطلاح في اللغة العربية بـ«التعدد الصوتي»، وقد فهم القصد منه إجمالا- في النقد العربي استنادا إلى بعض الفهوم الغربية المنقول عنها- أن الكلمة الروائية تعد (بوصفها ملفوظا جماليا- وهي تسند إلى شخصية محددة( تعبيرا مستقلا عن فكرها الخاص، أو توجهها الإيديولوجي بمعزل عن كلمة الكاتب وسطوته؛ إذ تقف هذه الأخيرة على قدم المساواة مع كلمة الشخصية، كما أن كلمات الشخصيات الأخرى غير المحورية تتساوى في ما بينها، في القدر، لا من حيث الحجم أو الرتبة، وإنما من حيث الفرصة في التعبير عن استقلالها عن الكاتب. وقبل تمحيص هذا الفهم السائد الذي يطول الاصطلاح لا بد من التذكير بأن باختين يوزع الرواية إلى صنفين رئيسين هما: الرواية الحوارية (الديالوغية)، والرواية المناجاتية (المونولوجية). ويعد الصنف الأول الأكثر حظا في تظهير التعدد الصوتي، بخلاف الصنف الثاني، والحوارية ترتبط بزمن الحاضر الخالد، وبالأمكنة المفتوحة، لا الأمكنة البيوغرافية. كما ينبغي فهم الكلمة الروائية (الصوت) خارج المعنى المعتاد للمفردة؛ إذ المقصود منها الخطاب بوصفه حاملا للأفكار والرؤى؛ فاللغة الروسية لا تفصل بين الاثنين بوساطة تخصيص تسمية مستقلة لكل واحد منهما.
إذا كان من المقبول عدُّ هذا الفهم مصيبا، فهو لا يكاد يتعدى نصف التفاتة، ومرد ذلك إلى أن الاعتماد في ضبطه اقتصر في الغالب على كتاب م. باختين الشهير «بويطيقا دويستوفسكي». فلو رجعنا إلى كتابه الآخر «جمالية الملفوظ الروائي» لأدركنا بأننا في حاجة إلى إعادة النظر في ما استقر من فهم لدينا حول الموضوع. فهذا الفهم قد يوحي بوجهات نظر متعارضة فحسب، أو الوقوف بالأسلبة الروائية عند حدود تعدد في الأصوات. وهذا اليقين لم يترسخ في النقد الروائي وحده، بل تعداه إلى مجالات أخرى من قبيل نظرية الخطاب، كما هو الحال مع إ. ديكرو في كتابه «كلمات الخطاب». فلا بد في مراجعة هذا اليقين من فحص التعدد الصوتي- في ضوء الجمالية الروائية، كما يتصورها باختين- من الرؤية إليه من داخل الشكل المعماري، لا الشكل التأليفي؛ ومن ثمة ندرك أن المسألة لا صلة لها بالجانب المادي للسان الذي يتصل بالتعبيرات الخارجية التي تتكفل بحمل الأفكار، وإّنما بالموقف الأخلاقي الذي يعبر عما هو قيمي. وينبغي أن نأخذ- هنا- بعين المراعاة بعض المحددات الضرورية لفهم التعدد الصوتي، ونذكر منها: الوعي، والإدراك، والآخر، والتقويم. فقد فهم باختين الكلمة (بوصفها فكرة أو وعيا) انطلاقا من الإدراك، وحضور الآخر داخل مجاله (الإدراك)، وفائضه. ومن ثمة فالتعدد الصوتي لا يتعلق بإجراء أسلوبي مصطنع يتمثل في التعبيرات الخارجية (الحوارات)، والوقوف عند هذه التعبيرات من دون الأخذ بعين المراعاة البعد التجديلي بين الوعي، وفائض إدراكه للآخر. فالصوت الروائي محكوم بالصيرورة الداخلية لوعي الشخصية، وبتمرير هذا الوعي من خلال وعي الآخر المفارق. وهذا الوعي الأخير متعال، ويعد مجال التطابق مع وعي المؤلف- المبدع الذي يدرك فيه المؤلف- الشخص وعيه ووعي الشخصية. فهذا الفائض الإدراكي ضروري للأنا المُدرَكة كي تعي كلها الناقص. ومن ثمة فلا يعني التعدد الصوتي استقلالا تاما عن وعي المؤلف- المبدع (لا المؤلف- الشخص)، وإنما اكتمال وعيه في صداه، وفي إدراكه. ومن ثمة فكل من المؤلف- الشخص والشخصية يتكاملان بفعل تعدد صوتيهما داخل كل قيمي متعال ناتج عن التفاعل الإدراكي. وينبغي التأكيد- هنا- على أن الوعي المتعالي يعود إلى المؤلف- المبدع، كما أنه يعد محددا أساسا للموضوع الجمالي. وعليَّ أن أصحح- وفق هذا الفهم الجديد- الخلاصة التي انتهيت إليها في «علبة السرد»، والتي مفادها أن التعدد الصوتي لا يكون إلا في الرواية التي هي من دون حل.
إن الشخصية لا تعي- وهي تعبر عن صوتها- إلا الحالة (و/ أو الموقف) التي هي فيها اعتمادا على إدراكها الداخلي الخاص، ولا يمكن أن تدرك ذاتها كما هي مرئية (مُدرَكة) من قبل الآخر؛ ولهذا تحتاج- لكي يتحقق اكتمالها باكتمال وعيها- إلى فائض المؤلف- المبدع الإدراكي. فراسكولنيكوف (الشخصية المحورية في رواية الجريمة والعقاب) كان يجادل وجهات النظر الأخرى انطلاقا من داخله، وانطلاقا من إدراك الآخرين في الآن نفسه، كما كان هذا الجدال يدرك نفسه مكتملا بارتداد صداه إلى وعي المؤلف- المبدع؛ حيث المتعالي القيمي الذي يضمن وحدة العمل الأدبي. كيف ذلك؟ لقد كان الفكر العدمي (الذي يمثله راسكولنيكوف) يفحص ممكن وعيه في وعي المؤلف- الشخص، كما أن هذا الأخير كان يفحص وعيه في وعي الشخصية أيضا. بيد أن الوعييْن معا كانا يفحصان نفسيهما في الوعي المتعالي للمؤلف- المبدع الذي يقام على فكرة (الإنسان الخطاء)
ما الخلفيات التي دعتنا إلى إعادة تحديد التعدد الصوتي؟ يتعلق الأمر بمشكلات ثلاث رئيسية: ا- مشكلة عدم قبول أن يكون التعدد الصوتي شكليا فحسب،؛ لأننا إذا نظرنا إليه بوصفه مجرد تعارضات فكرية، أو وجهات نظر متعددة، فمن الصعب قبول أن تنتهي الرواية بحل ما؛ لأن ذلك يعني انتصارا لصوت ما على بقية الأصوات؛ وهذا ما يحدث في رواية «الجريمة والعقاب» لدويستوفسكي، إذ تقبل الشخصية العقاب، وتنتهي إلى قراءة الإنجيل في السجن، ومعنى هذا أن صوت سونيا هو الذي انتصر في النهاية. ب- مشكلة وحدة العمل الأدبي، فمن المتعذر تحققها من طريق أن تكون تجميعَ وجهات نظر متعددة؛ إذ يعد إجراء من هذا القبيل شكليا مصطنعا يفتقر إلى الخلفية الجمالية التي تكسبه تماسكه الفني. ولهذا فالوعي المتعالي (الذي يمثل من جهة المؤلف- المبدع، لا المؤلف- الشخص، ومن جهة ثانية الموضوع الجمالي) هو ما يضمن هاته الوحدة؛ ومن ثمة لن يكون التعدد الصوتي سوى تجلية لوحدة متعالية يمثلها البعد المتعالي القيمي. ج- مشكلة الانعكاس: فالإجراء الأسلوبي (المتعلق بالتعدد الصوتي في علاقته بالوعي المتعالي) يصحح مسألة عد النص الأدبي وثيقة تعكس آراء الكاتب أو حياة وعيه. فهذا الأخير يتجاوز نفسه في الوعي المتعالي ليقبض على روح العصر، وعلى صيرورته بفهم ما يتجاوز إدراكه الخاص، ولا يتحقق ذلك إلا بالفائض الإدراكي الذي ليس في نهاية المطاف إلا الموضوع الجمالي.
أكاديمي وأديب مغربي
عبد الرحيم جيران
عن القدس العربي