«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها، فقيل أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل». وبالفعل فإن ما نشاهده اليوم على امتداد الوطن، هو عودة للفتنة الكبرى التي شقت صفوف المسلمين، وتنازعهم في حروب بدأت منذ منتصف القرن الهجري الأول وهي مستمرة حتى اليوم.

أعتقد، وأنا أجتهد هنا، أن ما نشهده اليوم من إعصار طائفي وهوس تكفيري، وصل إلى أن يكون للتكفيريين دولتهم الداعشية التي بسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من العراق وسورية، ولها ولاياتها وتنظيماتها وقواتها في أكثر من بلد عربي، هو تتويج لتاريخ عربي إسلامي طويل من الفرقة والانقسامات، منذ أن اختلف المسلمون مباشرة بعد وفاة النبي محمد (ص). ومن الواضح أن عشر سنين من الحكم الإسلامي في عهد الرسول (ص) وعنوانه دولة المدينة، لم تحفر عميقاً في فكر وثقافة وسلوك العرب، فسرعان ما عادوا إلى تحزّباتهم القبلية، وجرّت الصراعات السياسية إلى بروز مذاهب، واستخدام الدين الإسلامي غطاءً للمصالح السياسية، وعادت العصبيات القبلية والقومية ونسي المسلمون أهم ركائز العقيدة الإسلامية «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، (الحجرات، 13)، والركيزة الثانية «لا إكراه في الدين» (البقرة، 256).

إن المتفكر في الاختلافات والخلافات الإسلامية، في الفقه والمعاملات والصلوات والعبادات وغيرها، يتساءل ماذا كان عليه حال المسلمين في عهد الرسول (ص) والخلافة الراشدة؟ ألم يكونوا متوحدين في فهمهم للإسلام فقهاً وعبادات ومعاملات؟ فكيف اختلفوا إذاً، بل ودخلوا في حروب أولها حروب الردة مروراً بحروب الخلافات الإسلامية المتصارعة، والخضوع للقوى الغازية والمحتلة وأولها دولة المغول، وانتهاء بسيطرة الدول الاستعمارية مع وجود طبقة من رجال الدين تبرّر هذا الخضوع وطبقة الوجهاء المتعاونة مع المحتل أو المستعمر أو المستبد المحلي، إلى أن وصلنا إلى وضعنا الراهن الذي يحمل كل أمراض المجتمع العربي الإسلامي وأسوأ ما في تراثنا العربي والإسلامي؟

في اعتقادي أن الانقسامات المذهبية هي أخطر ما نواجهه حالياً، وهي ليست نبتة شيطانية وإنما برزت وتفرعت وتعمقت في بيئة الصراعات على السلطة في ظل الدولة الإسلامية. فالإسلام كغيره من الديانات سيواجه بتحديات جديدة وظروف جديدة ومتطلبات جديدة، تستوجب الاجتهاد والتأويل.

ورغم أن الدين الإسلامي اعترف بالديانات السماوية المعروفة من مسيحية ويهودية، وبالكتب السماوية كالزبور والتوراة والإنجيل، إلا أن المسلمين وفي سياق فتوحاتهم للبلدان واجهوا العديد من الديانات السماوية وغير السماوية ومنها المجوسية والبوذية والهندوسية والأيزيدية والصابئية وغيرها واعترفوا بها، بل وسمحوا بوجود الكنائس والمعابد، وممارسة أتباع هذه الديانات لعقائدهم وعباداتهم. مع التباين في سماحة هذه المعاملات من خلافة لأخرى ومن خليفة لآخر. ويمكن القول إن الدولة الأموية في الأندلس، ولبعدها عن بلاد العرب التقليدية بما فيها من إرث سلبي، وتمركزها في أوروبا، وتركيبتها المختلطة جسّدت أفضل ما في الإسلام من تسامح ومن الحضارة الإسلامية من انفتاح، لكن ذلك تبدد بعودة الصراعات على الحكم وما عُرف بحروب الطوائف.

وبالنسبة للإسلام نفسه، فكان من الطبيعي مع الظروف المستجدة أن تظهر مدارس فقهية ومنها فقه الإمام الصادق (ع) والإمام الشافعي (ر) والإمام أبي حنيفة (ر) والإمام مالك (ر) والإمام أحمد بن حنبل (ر) وغيرهم، والأهم هو أنهم لا يجدون غضاضةً في تعدد المدارس الفقهية، بل إن علاقات الود بين الإمام الصادق والشافعي، معروفة جيداً. وإلى جانب ما يعرف بالإسلام التقليدي ظهرت اتجاهات أخرى مثل المعتزلة والأشعرية والصوفية والدهرية والقرمطية، ومثّلث ذخيرة للتكتلات السياسية.

وهكذا فإن الطموحات والدعوات والصراعات السياسية في ظل الدولة العباسية، دفعت إلى تحوّل المدارس الفقهية المتعايشة إلى مذاهب تجاوز عددها 15 مذهباً، ومنها المذهب الشيعي والمذاهب الأربعة والزيدية والأباضية والموحدون (الدرزية) والعلوية وغيرها، بل إن انقسام الدولة العباسية وتشرذمها إلى عدة خلافات لاحقاً كالفاطمية والحمدانية والأيوبية ودويلات ذات طابع مذهبي مثل الأباضية في عمان والجزائر، والزيدية في اليمن، والأدارسة والأغالبة وغيرهم في المغرب العربي، قد طبع الدويلات الإسلامية بطابع مذهبي، حيث تبنى الفاطميون التشيع وتبنى خلفاؤهم الأيوبيون التسنن، وشهد العالم العربي والإسلامي صراعات مدمرة بين مختلف الدويلات الإسلامية، وكلما ساد حكم فرض مذهبه على كل الشعب بالإكراه، كما فرض الأيوبيون التسنن على أهل مصر الشيعة حينها، وكما فرض الصفويون التشيع لاحقاً على سنّة إيران، بالإكراه أو الإغراء.

وعندما بسطت الدولة العثمانية سلطتها على معظم البلاد العربية، فقد تعاملت مع غير السنّة كأصحاب ملل ونحل، يديرون أمورهم العقائدية إلى حدٍّ ما بأنفسهم، ولكن لا يتمتعون بذات حقوق الأغلبية السنية، سواء من أتباع المذاهب الإسلامية أو من غير المسلمين.

إن أكبر فشل لدولة الاستقلال العربية، أنها لم تؤسس للمواطنة المتساوية، ولم تنجح في دمج مواطنيها، بحيث ظلت الانقسامات والانتماءات القبلية والدينية والمذهبية والمناطقية قائمةً في كل بلد، وتعمّقت الفروقات والنزاعات والهويات فيما بين مختلف الدول العربية، بحيث أصحبنا اليوم نواجه فسيفساء من الهويات المحلية والدينية والطائفية والإثنية، تتصارع فيما بينها، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تيار التكفير والتعصب والتمييز الجارف.

باعتقادي فإن من أهم المنطلقات لمعالجة وضعنا الراهن، هو وضع المؤسسات الدينية وفكرها وسلطتها، إسلامية أو غير إسلامية، في حيز محدود وهو العبادات والمعاملات العائلية فقط، وأن يكون الفضاء الأكبر هو الفضاء المدني السياسي والمجتمعي والاقتصادي. كما يجب إعمال الفكر والفعل الثقافي على التخلّي عن الانتماء المذهبي والطائفي المغلق، تجاه المدارس الفقهية الأخرى والاجتهاد المفتوح.

أعرف أن الكثيرين سيسوقون لي أقذع الاتهامات ولكن هو اجتهاد… فإن «أصبت فلي أجران وإن أخطأت فلي أجر واحد». والله من وراء القصد.

* عن موقع التجديد العربي

  نشر بها يوم 8 يوليوز 2015

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…