الدكتور عبد الله العروي (م 1933م)، مفكر وروائي مغربي، من أنصار القطيعة المعرفية مع التراث “العربي/الإسلامي”، وضرورة تبني قيم الحداثة “الغربية” باعتبارها قيم إنسانية، يدافع عن التوجه التاريخي باعتباره معبرا عن “وحدة” و”تقدم” الإنسانية، وعن الماركسية في صورتها الفلسفية الحداثية.
سيرته
ولد الدكتور عبد الله العروي بمدينة أزمور. تابع تعليمه بالرباط ثم بجامعة السوربون وبمعهد الدراسات السياسية بباريس. حصل على شهادة العلوم السياسية سنة 1956 وعلى شهادة الدراسات العليا في التاريخ سنة 1958 ثم على شهادة التبريز في الإسلاميات عام 1963. وفي سنة 1976 قدم أطروحة بعنوان “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية: 1830-1912” وذلك لنيل دكتوراه الدولة من السوربون. يشتغل حاليا أستاذا جامعيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
مساره الفكري
بدأ عبد الله العروي النشر سنة 1964 تحت اسم مستعار (عبد الله الرافضي) حيث نشر نصا مسرحيا تحت عنوان “رجل الذكرى” بالعدد الأول من مجلة أقلام. يضم إنتاجه الفكري والإبداعي دراسات في النقد الإيديولوجي وفي تاريخ الأفكار والأنظمة ونصوصا روائية. نشر أعماله في مجموعة من المجلات: أقلام (الرباط)، مواقف (بيروت)، دراسات عربية (بيروت)، Les temps modernes، ديوجين (باريس).
وتشكل سنة 1967 علامة فارقة في فكر العروي، وفي الفكر المغربي عموما. خلال تلك السنة، صدر كتاب “الأيديولوجية العربية المعاصرة” بالفرنسية (دار ماسبيرو)، معلنا ولادة المشروع الفكري لعبد الله العروي. (صدرت ترجمته العربية عام 1970عن دار الحقيقة في بيروت). وأصبح اسم عبد الله العروي ، منذئذ، أساسيا في المشهد الفلسفي العربي حيث أدرك المهتمون أن ثمة مشروعا مهما قيد التشكل. تركز مشروع العروي في الانخراط في صلب الواقع العربي، وفي كونه نقدا جذريا للفكر السائد واقتراح فكر بديل يسهم في توجيه الفعل، بغية تحقيق شروط النهوض.
كان العروي، في منتصف القرن الماضي، يدرس التاريخ في فرنسا. وقد أدرك، بحسه النقدي، أن مختبر الأسئلة الفكرية العربية موجود في مصر. لذلك انكب على دراسة ما أنتجه كبار مفكري القاهرة. من محمد عبده إلى علي عبد الرازق ومن رفاعة الطهطاوي إلى قاسم أمين ومن جمال الدين الأفغاني إلى لطفي السيد ومن سلامة موسى إلى طه حسين.
بعد مرحلة دراسة دقيقة للتجربة المصرية، غذاها إلمامه بأدبيات الحركة الوطنية المغربية، كما مثلتها كتابات علال الفاسي ومحمد حسن، جاء مشروع العروي نقديا شاملا. يحلل الواقع العربي في امتداداته الفكرية والسياسية والثقافية، ويعري مكامن الخلل مقترحا سبل الإقلاع. وستتضح أبعاد المشروع أكثر سنة 1973، مع صدور “العرب والفكر التاريخي” (دار الحقيقة في بيروت)، الذي تممه ب”أزمة المثقفين العرب”، الصادر باللغة الفرنسية عن دار ماسبيرو سنة 1974، ثم مع صدور الأجزاء المتتالية من سلسلة مفاهيم.
فلسفته
نقطة البدء في فكر الدكتور عبد الله العروي هي التاريخ. والتاريخ يرتبط بالناحية المنهجية، باعتباره علما، وبالناحية الواقعية باعتبار موضوعه. لذلك انعكست نقطة البدء هذه على فكر العروي وفلسفته. فالدكتور عبد الله العروي يطرح فلسفته في شكلين أدبيين هما الشكل النظري المنهجي والشكل الروائي القصصي. الأول يعبر عن الجانب المنهجي العلمي في فكره، والثاني يعبر عن الجانب الواقعي الموضوعي في فكره. كما يعبر اعتماده على هذين الشكلين الأدبيين عن التوجه الجدلي في فكره بين المثال والواقع، وأن المثال لا ينفصل ولا يستقل عن الواقع وإنما يتفاعل معه في جدلية متصاعدة. يطرح العروي موقفه هذا في إيجاز، على سبيل المثال، في حوار (مجلة آفاق) في الصورة التالية:
أقول إني أمارس القصة أو الرواية من جهة ومن جهة ثانية نقد المفاهيم. ننطلق من واقع بدون تحديد أو تعريف، وإلاّ طال بنا الكلام، أسميه أحياناً موصوفاً. هذا الموصوف أتناوله من زاويتين: الأولى هي الوصف الأدبي والثانية هي التحليل.
منهجه
فيما يخص الجانب النظري في فكره، يهتم الدكتور عبد الله العروي بشكل أساسي بمسألة المنهج عند معالجته لقضايا ومشكلات الفكر العربي. أي أن توجهه هو توجه معرفي (إبستيمولوجي) وليس وجودي (أنطولوجي). والمنهج المعرفي عند عبد الله العروي يرتكز على جانبين. الأول هو الجانب التاريخي (أو التاريخاني) “يستعمل بكيفية أوسع مواد التاريخ العربي”. في هذا الخصوص، في (مفهوم الإيديولوجيا: 122-125)، يقول:
صدر كتاب الإيديولوجيا العربية المعاصرة سنة 1967. وكان يعبر عن دوافع تماثل إلى حد كبير دوافع البيطار، إلا أنه عكس اهتماما أكبر بمسألة المنهج واستعمل بكيفية أوسع مواد التاريخ العربي… جاء في المقدمة توضيح لمفهوم الأدلوجة: “يستعمل هذا البحث كلمة أيديولوجية في معان ثلاث:
صورة ذهنية مفارقة (غير مسامتة) لأصلها الواقعي تبعا لأدوات إدراك غير ملائمة. نظام فكري يحجب الواقع لصعوبة أو استحالة تحليل ذلك الواقع. بنية نظرية مأخوذة من مجتمع آخر توظف كنموذج يقود الممارسة ويتحقق أثناءها“…
نقول إذن إن الأدلوجة في هذا الاستعمال هي الصورة الذهنية غير المطابقة للقاعدة المجتمعية المنوطة بها…يتميز هذا التحديد بربط الأدلوجة العامة بظرف تاريخي، وهذا الربط أصل التاريخانية التي اتضحت معالمها في كتاب العرب والفكر التاريخي. نجد في الكتاب الأول أوصافا لنماذج الأدلوجة العربية المعاصرة بالنظر إلى مضامينها، وفي الكتاب الثاني ارتقاء إلى مستوى أعم يحدد الأدلوجة بالنظر إلى الدور التاريخي الذي تظهر فيه.
يوجد هذا الدمج بين النقد الاجتماعي والنقد التاريخي للأدلوجات العربية عند جميع الكتاب العرب المعاصرين. بيد أني اتبعت منهجا أكثر وفاء للفكر التاريخي. لم أستخرج أدلوجة من تاريخ الغرب كما فعل البيطار لأقول: هذا قانون التاريخ الحتمي ولا مندوحة للعرب عنه. بل درست الأدلوجات الرائجة في عالم العروبة منذ قرن أو يزيد، فصنفتها واستخلصت من كل واحدة بنيتها. ثم أوضحت أن كل أدلوجة تستوحي دورا من أدوار التاريخ الغربي الحديث. إن تجزئة التراث الغربي واختيار جزء دون جزء حسب الظروف، هو سبب إخفاق السياسيات الإصلاحية على الساحة العربية. ثم تخلصت إلى ضرورة الشمول في نظرتنا إلى الغرب، مهما كان الغرض من استيحاء تجربته.
والجانب الآخر لمنهج الدكتور عبد الله العروي هو جانب تأسيسي “Foundational“، فالفكر العقلي يتأسس على مفاهيم محددة واضحة يمكن البناء عليها لإنشاء باقي البناء العقلي. وهو موقف يعود إلى ديكارت الذي يذكر عادة أنه أول التأسيسيين. ويظهر ذلك واضحا في سلسلة مفاهيم (مفهوم الإيديولوجيا، مفهوم الحرية، مفهوم الدولة، مفهوم التاريخ، مفهوم العقل). يوضح الدكتور العروي الجانب التأسيسي في منهجه، في مقدمة (مفهوم الحرية: 5)، كما يلي:
إننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير وحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروطة بتلك الدقة وذلك الصفاء. لهذا السبب نحرص على البدء بوصف الواقع المجتمعي: آخذين المفاهيم أولا كشعارات تحدد الأهداف وتنير مسار النشاط القومي. وانطلاقا من تلك الشعارات نتوخى الوصول إلى مفاهيم معقولة صافية من جهة ونلتمس من جهة ثانية حقيقة المجتمع العربي الراهن. رافضين البدء بمفاهيم مسبقة نحكم بها على صحة الشعارات إلى جانب تخلينا عن لعبة تصور واقع خيالي نعتبره مثلا أعلى نقيس عليه الشعارات، لأننا نعتقد أن أيسر مدخل إلى روح أي مجتمع هو مجموع شعارات ذلك المجتمع.
ويضيف في (مفهوم العقل: 14)،
قلت إن المفهوم، بالمعنى الذي أتناوله، ليس مجرد عنوان، كاسم اللغويين أو فرضية كالتي ينطلق منها الرياضيون، بل هو ملخص نظيمة فكرية، بل هو تلك النظيمة في شكل محجر.
موقفه الفلسفي
يعتنق الدكتور العروي التصورات النظرية لفكر الحداثة على العموم. والحداثة هنا هي بالمعنى الذي عرفته أوروبا في مرحلة التحول الأوروبي إلى الحداثة أي ما بين القرنين السادس والثامن عشر. ويعتنق على الخصوص فكر كارل ماركس باعتباره منظرا وناقدا للحداثة ومصححا لمشكلاتها، في القرن التاسع عشر. يذكر ذلك بوضوح في مواضع متعددة، ففي (مفهوم الأيديولوجيا: 125) يقول:
لا مبرر لهذه الدعوة إلا فرضية واحدة، مستخرجة من واقع التاريخ ذاته، وهي أن الدور التاريخي الغربي الممتد من عصر النهضة إلى الثورة الصناعية هو المرجع الوحيد للمفاهيم التي تشيد على ضوئها السياسيات الثورية الرامية إلى إخراج البلاد غير الأوروبية من أوضاع وسطوية مترهلة إلى أوضاع صناعية حديثة. ليست هذه الفرضية فكرة مسبقة بل نتيجة استطلاع التاريخ الواقع. وهي المبرر الوحيد لحكمنا على السلفية والليبرالية والتقنوقراطية بالسطحية وعلى الماركسية بأنها النظرية النقدية للغرب الحديث، النظرية المعقولة الواضحة النافعة لنا في الدور التاريخي الذي نحياه.
وفي حوار (مجلة آفاق) يقول:
كان الكثيرون يستشهدون بماركس، ولكن لأهداف سياسية فقط، فقلت إن ماركس النافع هو ملخّص ومؤول ومنظَّر الفكر الأوروبي العامّ، الذي يمثّل الحداثة بكل مظاهرها. الأفضل لنا، نحن العرب، في وضعنا الثقافي الحالي، أن نأخذ من ماركس معلماً ومرشداً نحو العلم والثقافة من أن نأخذه كزعيم سياسي.
وتأسيسا على هذا الموقف الفلسفي يتعامل العروي مع مشكلات النهضة العربية ويحكم على التراث العربي/الإسلامي. وهو يفعل ذلك وهو واع بأنه يحكم على التراث باستخدام مفاهيم خارجة عنه، ولكنه يرى أن هذا هو الموقف الصحيح، وذلك بطبيعة الحال تأسيسا على مقولة وحدة الإنسانية ومفهوم “التقدم” الحداثي. يوضح موقفه هذا في (مفهوم العقل:17) كما يلي:
إني أحكم على التراث انطلاقا من مفاهيم غير نابعة من صلبه. وأدعي أن كل من يعيش في زماننا هذا، من يعتبر نفسه ابن هذا الزمان، لا يستطيع أن يفعل غير هذا. ومن عكس القضية خرج من زمانه إلى زمان آخر. إني أنطلق من مفهوم هو وليد تطور تاريخي وأطبقه على مادة افترض أنها سائرة إلى التطابق معه. أفعل ذلك وأنا واع بالصعوبات المترتبة على هذا الإجراء، إلا أنني أدعي أن لا إجراء غيره، للسبب المذكور سابقا. أعي أني أجعل من سيرورة غير مؤكدة دليل صحة تطبيق المفهوم. هذا دور ولكنه سليم غير عقيم. أعي كذلك أن المفهوم المكتمل يدعوني إلى إنارة أشياء وإخفاء أشياء أخرى، فأبقي بالضرورة داخل ضوء المفهوم، وأدعي أن هذه حال كل مفهوم، مكتملا كان أو غير مكتمل، وأن المفهوم المستعمل هنا هو مفروض علينا بالتزامنا إزاء الإنسانية الحاضرة. هذه الضوابط هي في الحقيقة لوازم لموقف محدد من التاريخ ومن المجتمع. تقبل أو ترفض جملة. لا جبر فيها ولا تعليل. ومن قال العكس فعن تسرع ومكابرة.
تصوره النظري لمستقبل النهضة العربية
فيما يخص المستقبل يطرح الدكتور العروي تصورا عاما بخصوص النهضة يتلخص في أن النهضة العربية مرهونة بتحول المجتمعات العربية إلى حالة الحداثة. والتحول إلى الحداثة هو بمعنى اعتناق الفكر الغربي الحديث بمقولاته الأساسية وهي العقلانية والتقدم والنقد ومسئولية الإنسان عن نفسه، على المستوى النظري، والعلمانية والنظام الماركسي والدولة المركزية، على المستوى العملي.
والآلية النظرية الضرورية لتحقيق هذا التحول هي مفهوم “القطيعة المعرفية” مع التراث. والقطيعة المعرفية هنا هي بمعنى القطع مع الأساليب والمناهج العقلية للبحث الفكري التي استخدمت في التراث (أي التراث العربي/الإسلامي)، واستبدالها بالأساليب والمناهج العقلية الحديثة والمعاصرة. وهذا المفهوم هو مفهوم مركزي في فكر العروي مطروح في كل أعماله تقريبا. في (مفهوم العقل: 9-12) يقول:
حاولت في كل ما كتبت أن أوضح أن الوضعية التاريخية التي نعيشها، والتي لا نستطيع أن ننفيها، تجعل من كل أحكامنا على حالات خاصة أقوالا هادفة، مصلحية تبريرية. لا فائدة في الحكم عليها بأنها حق أو باطل. بالنسبة لأي مقياس؟ فهي إما مساوقة لأهدافها المعلنة وإما معاكسة لها، فتصبح المسألة متعلقة فقط بالتماسك في المنهج والانطباق على الواقع…
إذا اتضح أن عهد التقرير (اعلم أن..) قد انتهى بانحلال قاعدته المادية والاجتماعية والفكرية، وكذلك عهد منطق المناظرة (إذا أورد فالجواب..)، يتضح عندئذ أنه لم يعد هناك بداهة جاهزة، ضرورة منطقية، يركن إليها الجميع تلقائيا وتتماسك بها الأفكار. لا بد إذن من امتلاك بداهة جديد. وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي، حاجز تراكم المعلومات التقليدية، لا يفيد فيها أبدا النقد الجزئي، بل ما يفيد هو طي الصفحة.. وهذا ما أسميته ولا أزال أسميه بالقطيعة المنهجية (استعملت العبارة قبل أن تصبح متداولة بين دارسي منطق العلوم)…
أما المنهج موضوع سلسلة مفاهيم، فهو شيء آخر، بعيد عن الاصطلاح والتواضع. تتعلق مسائله بالوضع الذي نعيشه منذ قرنين، حيث انقطعت الصلة بيننا وبين إنجازات ومنطق تراثنا الثقافي. المشكل الذي نواجهه هنا هو هل يضع الدارس نفسه قبل أو بعد هذه القطيعة مع التراث، وهي قطيعة قد حصلت وتكرست. هل يشعر بها، يعترف بها، أم لا؟ ولا يحق لنا أن نخلط بين المنهج والأسلوب. نستطيع مثلا أن نختار بين أسلوب هذه المدرسة الاقتصادية أو تلك، ولكن هناك منهج أساسي واحد هو الأصل في علم الاقتصاد، وعلى هذا المستوى لا يوجد خيار: إما العلم وإما الرأي. عندما أتكلم على المنهج أعني في الواقع منطق الفكر الحديث بعد أن انفصل عن الفكر القديم.
وعلى المستوى العملي تتمثل الآلية الأساسية التي يجب أن يتم من خلالها التحول إلى الحداثة في المجتمعات العربية هي البدء بإنشاء الدولة الحديثة. ولا معنى، بالنسبة للعروي، لمحاولة تحقيق تحولات جزئية في مبادئ الحداثة الأخرى (الديمقراطية، الليبرالية، المجتمع المدني..الخ) إلا بعد إقامة الدولة الحديثة، وهذا هو الموضوع المركزي في (مفهوم الدولة).
عوائق التحديث
بالنسبة للعروي هناك عدة عوائق نحو تحديث المجتمعات العربية. أولها هو التمسك بالأصالة، بمعنى التمسك بأسلوب التفكير المتوارث في الفكر العربي الذي يؤدي إلى الثبات وعدم التطور، والذي ينعكس على اللغة المستخدم وأولوية الاسم على الفعل. يوضح ذلك المقتطف التالي من (مفهوم العقل:359-360)، حيث يقول:
خلاصة القسم الأول هي أن عقل المطلق، رغم اختلاف المشارب والمسالك، يؤدي حتما إلى عدم التمييز بين المفهومين. العقل فعال بطبعه: يقول ذلك بعبارات متباينة غير متناقضة الحكيم والمتكلم والمتصوف والفقيه والمحدث. تحارب هؤلاء فيما بينهم حروبا عنيفة لكن على الأطراف والتخوم لا على المعاقل والحصون. اختلفوا حول العبارات والأحكام، أما التصورات والتوجهات فكانت واحدة، مما مهد الطريق للانتقاء كما أوضحنا ذلك في محله. العقل عندهم جميعا تأويل، تطلع إلى الأول والأولي، فهو عقل الأمر والاسم والعلم هو فقه الأوامر. ما سمي الواقع واقعا إلا لأنه وقع من أعلى وكان ثنيا على بدء…واضح ما لهذا الموقف المعرفي من استتباعات على كل المستويات، أهمها خاص بحد المكان والزمن.
فلا عجب إذا راينا هذه الوضعية تنعكس في اللغة. الاسم سابق على الفعل يقول الزجاجي مع سائر النحاة: “والحدث المصدر وهو اسم الفعل والفعل مشتق منه”. اللغة نحو الكون: لا حركة إلا بعد سكون ولا فعل إلا مضارع لاسم. صدق النحاة: النحو منطق العربية كما أن المنطق الأرسطي نحو اليونانية، لكنهم لم يروا أن كل من النحو والمنطق انعكاس لعقل المطلق. البرهان الثلاثي برهان تام منغلق على نفسه لأنه يدور كله في نطاق الحد أي “الأمر”. ما كان له أن يتم وينغلق لو عقل الفعل المتجدد. لو فعل ذلك لانحل من جديد في القياس الثنائي المبني على المماثلة والمحاكاة. لكل هذا مقابل في اللغة: الجملة الاسمية هي الغالبة على التعبير والجملة الفعلية عائدة إليها إذ تؤدي بكيفية أو بأخرى معنى الثبوت والدوام: الماضي ثابت ولا فرق في لفظ الفعل بين الحال والمستقبل.
والعائق الثاني، من وجهة نظره، هو الاعتقاد بإمكان تجاوز الحداثة اعتمادا على تصور أن الغرب قد تجاوز الحداثة إلى ما بعد الحداثة أو إلى نقد الحداثة. ويرى أن المجتمعات العربية لا يمكنها القفز فوق مرحلة الحداثة، وإنما يجب أن تمر من خلالها وأنها قدر لا فكاك منه. يذكر هذا المعنى في مواضع عديدة. ففي (عوائق التحديث – محاضرة) يقول:
لست من الذين يقفون اليوم على قبر لينين وماو· لكني أرى اليوم أن تجربة القرنالعشرين تشير إلى أنه لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها، ولا يمكن تجاوزها إلاباستيعابها. قلت هذه الكلمة قبل سنين وهاجمني من أجلها من هاجمني، فأنا أعيدهااليوم وأتأسف لضرورة التكرار·..الحداثة موجة العوم ضدها مخاطرة، ماذا يبقى؟ إما الغوص حتى تمر الموجة فوق رؤوسنافنظل حثالة، وإما نعوم معها بكل ما لدينا من قوة فنكون مع الناجين في أية رتبة كان…
تسألون: ما هي العوائق؟ استخلصوها أنتم من عرضي هذا، وهذا هو المنهج القويم·العائق الأول – كما تبين – فكري، هو المعارضة الغبية الجاهلة أو التأييد الماكر· القول: إن الحداثة كانت مروقا، تنطعا، جهالة ندم عليها أصحابها فلزمت التوبة علىالقائمين عليها والقائلين بها والداعين إليها، هذا عائق لا سبيل إلى استئصاله،فأمره موكول إلى الحداثة ذاتها،إما تقهره وإما يتلفها، وإذا كان التلف فكلناخاسرون·
أما العوائق الأخرى فيمكن أن نساهم في معالجتها ولو بتشخيصها. هي تلكالتي تمت بسبب ما إلى إحدى مكونات الحداثة. كل ما يعوق تحرير الفرد من مختلفالتبعيات: السياسية، الاجتماعية، العائلية، العشائرية، الفكرية يعوق التحديث. كل مايعوق الحريات المدنية والسياسية يعوق التحديث. كل ما يعوق الديموقراطية في سيادةالشعب (شعب الأحياء لا شعب الأموات) يعوق التحديث. كل ما يعوق العقلانية العلمية (منطق التجربة والاستقراء) باللجوء إلى الغيبيات في حياتنا اليومية، في كل حركاتناوسكناتنا، في مأكلنا وملبسنا ودوائنا، في ما نقرأ ونشاهد، يعوق التحديث.
وفي (حوار–آفاق) يقول:
السؤال المخيف هو: أَوَلَمْ يفت الأوان على كل نوع من أنواع الترشيد والتوضيح بعد أن دخلنا عهداً من الفوضى الفكرية لا نرى له نهاية؟ نقرأ اليوم كتباً تنقد فكرة الحداثة ونعتمد عليها لنقول إن إشكالية الحداثة أصبحت كلها متجاوزة. هل هذا صحيح؟ هل يحق لنا أن نفعل كما لو كنا تجاوزنا الحداثة مثل الأوروبيين الذين عاشوا في أحضانها منذ ما يزيد على ثلاثة قرون، تزيد أو تنقص حسب البلدان؟
والعائق الثالث للتحديث، عند العروي، هو الظن بأن التطبيق الشكلي للأنظمة الحداثية يكفي للتحول إلى الحداثة. ويرى أن هذا خطأ لأنه يجب التحول إلى الحداثة في العمق وعلى مستوى تفكير المجتمع كله، وكذلك على مستوى الدولة. في حوار (صحيفة العالمية) يقول:
ندعو اليوم للحداثة منبوابات متعددة بوابة الدولة وبوابة المجتمع المدني وبوابة الأحزاب السياسية، إلي غيرذلك. هناك أصوات تتعالي من أجل المطالبة بالحداثة لكن السؤال الذي يحاصرنا هل فعلالنا شروط إنجاز هذه الحداثة ؟ الواقع أن هناك عملية التعريب. نطالب بكل شيء عليهامش الحداثة، لكن عمق الحداثة غائب.
ماذا يقول بعض المثقفين الآن. يتكلمون عليما بعد الحداثة، كما لو أننا كنا قد حققنا الحداثة والآن نعيش ما فوق الحداثة كمالو كانت الحداثة موضة. فلما تتكلم علي المينيجيب مثلا، تقول الآن مر زمن المينيجيب، وعندما تتحدث عن الحداثة، يقول الحداثة…. لا، الآن نحن ما بعد الحداثة، اين مابعد الحداثة، في أي بلد في أي سماء.
التنظير لمستقبل النهضة العربية
يطرح الدكتور العروي تصوراته النظرية لمستقبل النهضة العربية على مستويين عموميين. الأول هو نقد فكر التراث وتحقيق القطيعة المعرفية معه، والثاني هو استيعاب فكر الحداثة، وتحقيقه في أرض الواقع. وهذه التصورات النظرية هي تصورات عمومية تحتاج إلى تنزيل على الواقع الفكري.
والسؤال المطروح بالنسبة لفكر الدكتور العروي هو عن الآليات الفكرية اللازمة لتحقيق هذه التصورات. فالنظرة التاريخية (أو التاريخانية) التي يعتنقها العروي تقول بالارتباط بين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وبين الفكر الذي يطرحه ويعبر عنه المجتمع. لذلك لا بد من استكمال التصورات العمومية المطروحة بربطها بالواقع العربي الحي وبيان كيف يمكن أن تتحقق واقعيا هذه التصورات في ظل متغيرات الواقع.
ما هي الآليات الفكرية التي تحقق القطيعة المعرفية مع التراث (مثال: استبدال الحروف العربية بالحروف الغربية). وما هي الآليات الفكرية لتحقيق التحول الفكري في العمق إلى الحداثة (مثال: تبني قيم الحداثة والدعوة إلى إلغاء مظاهر الدين الإسلامي في الشارع والمجال العام). هذه هي بعض الآليات التي طرحت جديا خلال النصف الأول من القرن العشرين ولم تجد مردودا إيجابيا. فهل يمكن ابتكار آليات جديدة أكثر فاعلية تستطيع أن تحقق التواصل اللازم بين الواقع والمثال؟
كتابات الدكتور العروي لا تقدم إجابة على هذه الأسئلة، وتبقى في مستوى التصورات النظرية، لذلك هي كتابات، في الجوهر، نقدية. وتندرج كتابات العروي في إطار المرحلة النقدية التي يمر بها الفكر العربي المعاصر والتي تشكل التمهيد اللازم نحو ظهور إنتاج فكري نظري مرتبط بالواقع العربي مثلما يرتبط في نفس الوقت بتطور الإنسانية. من ذلك ما ذكره في حوار (آفاق) من دعوته لأهداف عامة وإلى تبني موقفه الفكري على العموم وإلى ضرورة الحسم والاختيار بين هذا وذاك :
لا حاجة لي للتذكير أني، كمثقف، لا أملك وسائل التنفيذ. كل ما أملك هو أن أختار في مسألة ما، أن استدلَّ على اختياري، أبين أنه خاضع لأهداف عامة لا لأغراض خاصة، وأن أدعو إلى تبنّي ذلك الموقف. من السهل الردّ: ماذا يُجدي التمنّي؟ وهو ردّ قائم على الجميع، حتى الذين يتظاهرون بامتلاك السلطة، لأن الإصلاحات الاجتماعية مرتبطة بتطور المجتمع وهذا التطور يتطلب وقتاً طويلاً. عندما أتكلم على ضرورة الحسم، أعني الاختيار بين هذا الحل وذاك، لا أعني الفرض والإجبار.
والموقف المستقبلي الواقعي الذي ينحاز إليه، بما يعبر ضمنا عن تصوره بانفصال المغرب ثقافيا عن الفكر العربي، وربما أيضا ارتباطه بأوروبا، هو تعبيره بأن المغرب بعيد بالنسبة للمشرق وبأنه جزيرة منفصلة، وذلك كما ذكر في نهاية حوار(العالمية):
وقلت بكلصراحة نحن مغاربة والمغرب بعيد عن الساحة، وهذا ليس سرا، هذا قلته وكررته ـ فلا يجبأن يطلب منا نحن المغاربة نعيش 3000 أو 4000 كلم بعيدا عن المشرق العربي، أن نشاركالمشارقة في مشاكلهم، عاطفيا نشاركهم ولكن نحن بعيدون.
-إذا نشارك من، نشاركافريقيا مثلا، أوروبا؟
أطلب أن نفكر في نقطة أساسية ويفكر فيها المفكرونالمغاربة، فالمغرب جزيرة لا تري ولكن انظري إلي خريطة المغرب، وسترين أن المغربجزيرة ويجب أن نستخرج من ذلك كل النتائج، قدرنا هو أننا جزيرة ويجب أن نتصرف كسكانجزيرة، جزيرة مطوقة.
أعماله
أولا: دراسات فلسفية
§الإيديولوجيا العربية المعاصرة، تعريب محمد عيتاني، وتقديم مكسيم رودنسون، بيروت، دار الحقيقة للطباعة والنشر، 1970.
§العرب والفكر التاريخي, بيروت, دار الحقيقة، 1973. (4ط)
§أزمة المثقفين العرب، 1974.
§أصول الوطنية المغربية، 1977.
§مفهوم الإيديولوجيا، بيروت، دار الفارابي، 1980.
§مفهوم الحرية, بيروت, دار الفارابي، 1981. (4ط)
§مفهوم الدولة, بيروت, دار الفارابي، 1981. (4ط)
§ثقافتنا في منظور التاريخ, بيروت, دار التنوير, 1983. (3ط)
§مجمل تاريخ العرب, الرباط, مطبعة المعرف الجديدة, 1984, 174 ص, (3ط) .
§ابن خلدون وماكيافيللي، دار الساقي، 1990.
§مقاربات تاريخية، 1992.
§مفهوم التاريخ, جزءان, الدار البيضاء, المركز الثقافي العربي, 1992.
§مفهوم العقل، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1996.
§بالفرنسية (IslamismeModernisme Liberalisme)، المركز الثقافي العربي، 1997.
§بالفرنسية (Le Maroc et Hassan II – un témoignage)، “المغرب والحسن الثاني”، المركز الثقافي العربي – المطبعة الجامعية، كندا، 2005.
§عوائق التحديث، محاضرة ألقيت في 15/12/2005، نشرت مع تعليقات، منشورات اتحاد كتاب المغرب، 2008.
ثانيا: أعمال أدبية
§الغربة: رواية, الدار البيضاء, دار النشر المغربية, 1971. (3 طبعات)
§اليتيم: رواية, الدار البيضاء, دار النشر المغربية, 1978. (3ط)
§الفريق: رواية, الدار البيضاء, المركز الثقافي العربي, 1986.
§غيلة: رواية, الدار البيضاء, المركز الثقافي العربي، 1998.
ثالثا: سيرة ذاتية
§أوراق: سيرة ذاتية, الدار البيضاء, المركز الثقافي العربي, 1989.
§خواطر الصباح – يوميات، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي،.2001 .
بقلم سمير ابو زيد …عن موقع فلاسفة العرب