تطفو على السطح اليوم ظاهرة (النطق) فبعد أن أصيبت الأمة بالخرس لقرون بدأت تتعلم النطق بعد فالج طويل. وكما يحدث عند الذين يفقدون النطق لفترة طويلة أو يصابون بالشلل أمدا بعيدا فعندما يبدأون الكلام يتأتون مثل الأطفال وإن مشوا ترنحوا واحتاجوا العكازات. إنها ضريبة قاسية لأمة فقدت قدرة تقرير المصير واستباحها الطغاة.
واليوم يدور الحديث على ثبج البحر الأخضر الالكتروني من الملأ العلوي عبر الفضائيات إذ هم يختصمون. يقول البعض أن (النظام x ) ارتكب مجازرا ولكن هل يوجد نظام عربي لم يرتكب مجازر من (حلبجة) إلى سجن (تزرما مات) إلا من رحم ربك؟ ثم ما هي المجزرة؟ عندما يشكك (روجيه غاروديه) في عدد اليهود الذين ماتوا في معسكرات الاعتقال النازية أنهم لم يكونوا ستة ملايين، نقول له هل كانوا مثلاً ستمائة ألف؟ اليهود لا يحتاجون لمن يدافع عنهم فهوليوود تدافع عنهم كل يوم والألمان دفعوا جبلاً من الماركات كتعويضات، كما لا نريد إدانة نظام معين أو تبرئة اتجاه وحزب ولكن القتل يبقى قتلاً ولا يسمى المجرم بطلاً. عندما يُتهم نظام بأنه ارتكب المجازر تبقى الصورة غير مكتملة وغير معللة وغير مفهومة؟ فلماذا يرتكب نظام ما المجازر؟ هل له هوى بالدم والقتل مثل قصة (دراكولا) الخرافية مصاص الدماء؟ أم أن هناك مبرر للقتل مثل (الدفاع عن النفس) و(الحفاظ على الأمن).
إن جميع الاتجاهات السياسية آمنت بالعنف سبيلاً للتغيير واليوم يتحدث الجميع عن (اللاعنف) و (المجتمع المدني) و (التعددية) وهو أمر عليه الكثير من إشارات الاستفهام وإن كان مؤشرا جيدا أن الجميع ذاق العذاب الأليم ولكنها تبقى تجربة بغير وعي مكافيء. فالشيوعيون آمنوا (بالعنف الثوري) وسحلوا الناس في العراق وأعدم رئيسهم في السودان بعد فشله في محاولة انقلابية. ولكن هل يمكن للشيوعيين أن يتذكروا ما قاله لينين عن المراهقة السياسية؟ والأخوان المسلمون دعوا (للجهاد في سبيل الله) وبدأوا بالقتل الجماعي قبل أن تضمهم المقابر الجماعية وهم الذين سنوا هذه السنة السيئة بقتل الناس على الانتماء الطائفي كما حدث في المذبحة الجماعية في مدرسة المدفعية في حلب ليس لذنب جنوه سوى أن أحدهم ولد من رحم امرأة من طائفة أخرى.
وعندما حدثت مجزرة تدمر وهو عمل إجرامي وغير مبرر كانت قد فشلت قبلها محاولة اغتيال لرئيس الدولة فهو كما نرى لم يحدث من فراغ بل نشأ من نفس المستنقع الدموي من مسلسل العنف والعنف المضاد.
ولكن هل يمكن للأطراف المتنازعة أن تعيد النظر في موقفها وتمارس النقد الذاتي؟ والبعثيون مارسوا الانقلاب العسكري وعندما اختلف الرفاق صفوا بعضهم بعضا في موجات متلاحقة وفي إحدى حفلات الدم نشبت معركة في وسط العاصمة ومات مواطنون أبرياء برصاص طائش ثم قيل للناس هل أنتم مجتمعون ومرت طوابير الناس تتأمل حطام المعركة. وحُكِم مؤسسا الحزب بالإعدام فمات (عفلق) في المنفى واغتيل (البيطار) في فرنسا.
واليوم بعد تلك التجربة من (الأيام المرة) هل يمكن للرفاق أن يكرروا قول آدم فيقولوا (ربنا إننا ظلمنا أنفسنا) كي يتمكنوا من تجاوز الماضي؟ ومن أعجب الأمور تحالف (أحزاب إسلامية) مع أنظمة (قومية علمانية) في بلدين متجاورين متباغضين يحكمهما حزب واحد مثل التوائم السيامية. إن الإنسان لا يكاد يصدق كيف يختلف حزب إسلامي مع نظام قومي ثم يرتمي في أحضان نظام قومي توأم من نفس الرحم مثل الذي يهرب من المطر ليجلس تحت (المزراب).
إنها نكتة ولكن لا يضحك لها أحد. واغتال القوميون السوريون (عدنان المالكي) في وضح النهار في ملعب كرة القدم وقبله اغتالوا رياض الصلح في لبنان ليدفع (انطوان سعادة) مؤسس الحزب رأسه ثمناً للعنف، ومازال تمثال المالكي في دمشق يؤشر بأصبعه على مصير العنف ولكن هل استفاد أحد من الدرس؟ وفي مصر دفع (حسن البنا) مؤسس حركة الإخوان المسلمين دمه ثمناً لاغتيال (النقراشي) على يد الجناح العسكري للحركة (التنظيم الخاص) الذي صنعه على عينه، كما حدث للأعرابي الذي لم يحسن نفخ القربة ثم غرق حين عبر النهر فذهب المثل (يداك أوكتا وفوك نفخ).
إن من يقتل يجب أن يهيأ نفسه للقتل. هكذا جرت سنة الله في خلقه. وانقض (الناصريون) في مباركة من زعيمهم في 18 تموز عام 1963 م على الأركان في دمشق في وضح النهار وزحمة الناس خلافاً لموضة الانقلابات العسكرية على ظهور الدبابات في غبش الفجر لتغيير الأوضاع بالسيف وتم إعدام العشرات منهم في محاكمات ميدانية سريعة. وخطط (حزب التحرير الإسلامي) للانقلاب العسكري في الأردن وفشل.
إن الجميع كما نرى ينتسبون لملة واحدة هي الإيمان بالقوة و (الإكراه).وحتى (الخميني) لم ينجو من هذا المرض فلم تكن فكرة (اللاعنف) في التغيير قد استولت عليه (كاستراتيجية) بل رآها (تكتيكاً) ناجحاً في الثورة الإيرانية فاعتمد ثنائي (المظاهرات) و(الإضرابات) وعندما سئل هل ستعمدون إلى القوة المسلحة إذا تدخل الجيش؟ كان جوابه: إن هذا الخيار مفتوح. وهذا يفسر تورط الخميني في الحرب لاحقاً مع العراق أنه لم يكن ملقحاً تماماً ضد جدري العنف.
إن الغرب انجفل وارتعب عندما انفجرت الثورة الإسلامية في إيران سابقةً سقوط العروش الحمر في أوربا الشرقية بعقد من الزمن ولكن الغرب وضع قدميه في (ماء باردة) عندما دخل الخميني الحرب مع العراق لأنه دخل الحقل الذي تزل فيه قدم بعد ثبوتها في ثماني سنوات عجاف بما هو أطول من الحرب العالمية الثانية وموت مليون شاب وخسارة 400 مليار دولار وأحقاد لقرون. وعندما كانت أمريكا تختلف مع أوربا في شيء تهددها بإيقاف الحرب العراقية الإيرانية لأن خلف تغذية (ماكينة الحرب) ثلاثين دولة معظمها أوربي وهم يضحكون في سرهم أنهم يبيعون للمغفلين أصناما لا تضر ولا تنفع.
واليوم في فلسطين لا يستطيع (جالوت النووي) ضبط أطفال يرمونه بحجارة من سجيل. ومن أنهى حرب الخليج في النهاية كان الغرب أكثر من الخميني لأن مفاتيح النصر والهزيمة هي بيده أكثر من الطرفين المتقاتلين، وهو مستعد أن ينصر طرفاً على طرف ولمصلحته أكثر من مصلحة الطرفين المتنازعين كما جاء في قصة القرد المتظاهر بالتقوى والقطين المتنازعين على قطعة الجبن.
قد يستطيع أحمق أن يبدأ الحرب ولكن نهايتها ليست في يده بل في يد من يملك أسرار القوة، ومن يبدأ حمامات الدم كما حصل بين ارتيريا والحبشة يرتهن نفسه لمالكي التقنيات والأسلحة ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن الذي أسقط الشاه ومعه 600 من الجنرالات وأعتى جهاز استخباراتي في المنطقة (السافاك) بثورة (اللاعنف) كان يمكن أن يسقط (شياه) أصغر ولكن الخميني كان يعيش (ثقافة البطولة) ولم تكن فكرة (اللاعنف) قد تخمرت عنده الكفاية بمفاصل واضحة لاستراتيجية كاملة كما كانت مع غاندي. وكان يمكن (للخميني) أن يحقق ذلك لما تمتع به من هالة (كاريزمائية) فالناس لا تناقش قياداتها الناجحة في العادة وكان يمكن (للخميني) أن يغير تاريخ العالم كله بفكرة (انتصار الدم على السيف) ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ومازال الطريق طويلا أمام المسلمين حتى يستوعبوا درس محمد بن عبد الله (ص) في مكة حينما غير المجتمع (سلمياً) بخسارة شهيد واحد كانت امرأة.
وهكذا فنحن أمام ثقافة السيف الأموي منذ أن رفع معاوية السيف فقال: (من لم يبايع هذا) وأشار إلى يزيد (فله هذا) وأشار إلى السيف.
واليوم يكثر الحديث في المحطات الفضائية عن (الرأي الآخر) و (أكثر من رأي) و(الاتجاه المعاكس) ولكن هل الأمر تكتيك أم استراتيجية؟ هل هي (موضة) أم هو تغيير عميق في (بنية) العقل العربي؟ إنهم يتحدثون عن (المجازر) التي ارتكبها نظام ما ولكن هل حدثت من فراغ؟ هل نتوقع من أي نظام في العالم أن يقف مكتوف الأيدي ورجاله يغتالون؟ إن الرجل الذي تقتله أنت يستحق القتل أما الذي يقتله الآخر فيسمى جريمة؟ إن الوسط العربي مشبع بالعنف ولا يحتاج أكثر من عود ثقاب حتى يشتعل في حروب أهلية وشبه أهلية وما حديث لبنان والجزائر عنكم ببعيد، وليس هناك أي بلد عربي يملك حصانة ضد الانفجارات.
إن القضية ليست من بدأ فالقاتل والمقتول في النار والعنف يستجر العنف المضاد على نحو آلي يحكم إغلاق دائرة العنف التي تزداد اتساعاً ولهيبا مثل حريق الغابة. لذا فإن الاتهام لأي فريق لا يعني سوى رؤية نصف المساحة.
إن النظام حينما يبطش يفعل لأمرين: (الحفاظ على الأمن) و(الدفاع عن النفس) وبقدر لجوء المعارضة لآلة العنف تستفحل شراسة النظام وتحريض منعكسات (غريزة الغابة) عنده ولكن هذه الممارسة يمرض فيها ثلاثة: (الأمة) فتقع في قبضة الديكتاتورية وتختنق و (النظام) بغياب (دعسة الفرامل) الاجتماعية مع طحن المعارضة فتمشي سيارة المجتمع بدون كوابح. وأي سيارة تمشي لأمتار بدون فرامل يعني أنها جاهزة للكوارث، والأمة العربية دخلت ومازالت منحدر الكوارث حتى إشعار آخر، وحرب (صفين الأخيرة) مازالت طازجة في الذاكرة الجمعية. والمرض الثالث هو ظهور (الأعراض الجانبية) من ممارسة البطش حيث يستفيد الكثير من الطفيليين والفاشلين ومرضى النفوس من الصعود إلى مراكز القوة، ولأن النظام حريص على إدارة المعركة (ليحفظ نفسه) ويوفر (الأمن) للبلد فهو يسرف في تجنيد الناس لهذه المهمة فينخرط في صفوف (القبائل الأمنية) الضاربة الكثير من المنافقين والمنتفعين وقليلي الذمة والباحثين عن الحظ والمال. وتنمو (ديناصورات) من (الأجهزة الأمنية) تشكل خطراً على من أنشأها كما أشار إلى ذلك (فرانسيس فوكوياما) في كتابه (نهاية التاريخ) أن الأمر أصبح ملحاً لتفكيك أجهزة الرعب بعد موت الطاغية ستالين.
وهكذا فممارسة القوة والقمع والعنف تولد ثلاث أمراض دفعة واحدة: (الأمة) فتبتلى بالركوع والسجود للحاكم في وسط من الفقر والذل والفوضى والتفسخ و(النظام) بالتسلط وتحوله إلى آلة حديدية مدرعة جاهزة للضرب وانفكاكه عن الأمة وتحوله إلى لون جديد من الاستعمار الداخلي و(بروز الطفيليات) الضارة في مستنقع اجتماعي فاسد فيما يشبه السرطان وقد تموت الأمة إذا طال المرض واستحكم.
إن هذا يعني أن استخدام (العنف) واللجوء إلى آلته هو الزناد الذي يقدح لعمل هذه الآلة الجهنمية وولادة هذا (الغول) ودمار الأمة حتى حين. والسؤال لماذا ينخرط الجميع في هذا السلوك العدواني ولماذا لم تبرز اتجاهات أخرى إنسانية سلامية؟
والجواب أن الجميع يرضع من نفس ثقافة العنف فهو يرى السيف أصدق أنباء من الكتب، وأن (عين ما بتقاوم مخرز) كما روت ذلك لي طبيبة حزبية فارة من الوطن عندما سألتها عن سبب مغادرتها القطر كان جوابها: أنها اختلفت مع الرفاق وهي لا تستطيع أن تقاومهم وهم يملكون السلاح. فتعجبت من هذه الطبيبة المثقفة التقدمية التي لا تزيد في ثقافتها عن خرافات جداتنا.
*عن جسد الثقافة
الاحد 28 يونيو 2015