يبرز في المرحلة الراهنة خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربي. وهذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي، وهذا الماضي المختار المتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب، وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها وبغير أن يعرف القوانين التى تحكمها. ومن سماته إلقاء مسئولية القصور والانحراف على القدر أو على الضعف البشري أو على الأعداء، وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية عن التاريخ، وهو أخيراً ينزع– في بعض صوره البارزة- إلى اختلاق عوامل مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغض النظر عن إمكانية التطبيق، أو بعدها عن الواقع.
أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلانى، يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر وللمجتمع وللعالم، وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة يأخذ منها بلا عقد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراءات نظرية المؤامرة التاريخية الكبرى، كما أنه يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، بالإضافة إلى أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري، ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه، ولا يدعو إلى استخدام القوة والعنف، ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري.
ويخطئ خطأً جسيما أنصار تيار الإسلام السياسي الذي يهدفون جميعاً– وبلا استثناء- إلى تقويض الدولة العلمانية الراهنة وإنشاء دولة دينية محلها، إذ ظنوا أننا داخلون في معركة فكرية معهم على وجه الخصوص. وذلك أن معركتنا الحقيقية التى تسعى إلى تحديث المجتمع ومجابهة مشكلاته الجسيمة موجهة في الواقع ضد الخطاب التقليدى بكل صوره وأنماطه، وأيا كانت طبيعته علمانيا كان أو دينياً.
أنماط الخطاب التقليدى
ويشهد على صدق ما قلناه مراجعة دراساتنا السابقة، والتي وجهنا فيها النقد الصارم للخطاب الماركسي التقليدي، الذي يراوغ في قبول الحقيقة التي مؤداها أن الممارسة الماركسية سقطت تاريخياً في إطار تجربة الاتحاد السوفييتي ودول الكتلة الشرقية. وقد استعان هذا الخطاب لتبرير ما حدث بآلية من آليات الخطاب التقليدى الشهيرة، وهى أن النص الماركسي صحيح غير أن الممارسة كانت خاطئة. وقلنا من قبل في أكثر من مرة، أنه لا يمكن الفصل بين النص والممارسة، وخصوصاً إذا أتيح للممارسة حقبة تاريخية كاملة لكي تطبق فيها. وتواتر الممارسة الخاطئة هو الدليل على أن النص في حد ذاته معيب. واستعان هذا الخطاب، بآليات أخرى، من أهمها نظرية المؤامرة التاريخية.
ويصدق ذلك تماماً على الخطاب القومي العربي التقليدي، الذي نزع عبر عقود طويلة، إلى إلقاء مسؤولية فشل الوحدة العربية على المؤامرات التاريخية للأعداء، أو على القيادات الملعونة التي رفضت الوحدة، وذلك بدلاً من النقد الشجاع للمنطلقات الفكرية الخاطئة لهذا الخطاب، وكشف الانحرافات، بل والجرائم التي ارتكبتها النخب السياسية الحاكمة العربية التي رفعت شعار الوحدة، في حق شعوبها، وفي حق الشعب العربي ككل، ولا نستثني من دائرة الخطاب التقليدي الخطاب الإسلامي السياسي المعاصر، لكونه أبرز مثال على الخطاب التقليدي بكل سلبياته التي ألمحنا إليها، بالإضافة إلى الإرهاب الفكري الذي يمارسه دعاته، والإرهاب المادي الذي تقوم به بعض الفصائل المنتسبة له.
وليس لدينا شك في أن الخطاب التقليدي يمر بمأزق حقيقي، لأنه عجز عجزاً تاماً عن الإجابة عن الأسئلة المطروحة عليه، أيا كان نمطه واتجاهه. وهذا الخطاب لابد له- في بعض الصور البارزة له- أن يدفع أصحابه ثمناً فادحاً لعدم مواجهة الواقع، بحكم أنهم منغمسون في تشكيل عالم مثالي من صنع خيالاتهم وأوهامهم. وهم في هذا السبيل لا يعنيهم خرق القواعد المستقرة لحقوق الإنسان، ولا حتى خراب البلاد والعباد.
وقد أحست بعض الأصوات المتنورة من أصحاب الخطاب التقليدي بأنماطه المختلفة، أن جمود هذا الخطاب قد يؤدي بهم إلى الانزواء بعيداً فى أحد أركان التاريخ المهملة، ولذلك نادوا بأهمية تجديد مقولات خطاباتهم التقليدية. وكانت الخطوة الأولى هي ممارسة النقد الذاتي. وهي خطوة نرحب بها ترحيباً شديداً، لأنها هي أساس أي حوار عقلاني بين الفصائل السياسية والتيارات الفكرية في الوطن العربي. ولم يتخلف عن هذه الممارسة سوى جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابية التي بعد أن هوت نتيجة الفشل السياسي والسقوط التاريخي بدأت الإرهاب ضد الشعب المصري نفسه التي تزعم أنها تريد الخير له!
غير أن النقد الذاتي هو مجرد خطوة أولى لتخليص الخطاب التقليدي من أزمته الخانقة. ولابد أن تتلو هذه الخطوة خطوة أخرى أكثر حسما، وهي التجديد في المنطلقات وفي الإطار، للتكيف مع حقائق العالم المعاصر، وللتفاعل الخلاق مع المتغيرات العالمية.
* عن التجديد العربي
الاحد 21 يونيو 2015