تعرف منطقة شمال إفريقيا و الصحراء الكبرى، وفي ليبيا بالخصوص” تحديات أمنية جديدة حيث رهان الجماعات الجهادية، و جماعات الجريمة العابرة للحدود، تحويل شمال إفريقيا إلى مجال للفوضى الخلاقة للعنف المدر للتقزز والقتل “على الهواء” ، وأن يساق بشر من لدن بشر آخر نحو المقصلة بسبب الهوية دينية أو الطائفية. إنها عمليات موجهة للرأي العام المحلي والدولي ورسائل رعب إلى دول المنطقة. لم تعد الأوطان أوطانا و تنكرت شعوب لهويتها، وأصبحت التقية ملاذا لمن لا يريد أن يذبح أمام الملأ.
في منطقة شمال إفريقيا والصحراء الكبرى تناسلت الجماعات الجهادية بشكل مهول، من أنصار القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، التي ولدت من رحم العشرية السوداء في الجزائر، إلى ولايات الدولة الإسلامية في مصر وبرقة وفزان وطرابلس والجزائر وتونس، مرورا بحركة التوحيد والجهاد والمرابطين وجند الخلافة. في المنطقة نفسها تعانق محوران عالميان لتجارة المخدرات ، محور أسيا عبر القرن الإفريقي ومحور أمريكا الاتينية عبر غرب إفريقيا، وحيث يتم تبادل الكوكايين والهيرويين بمدخرات السلاح في المستودعات التي تركها يتيمة نظام القذافي المنهار في العام 2011.
يساق من يريد الهجرة إلى ” العالم الآخر” كالقطيع، ويمارس عليه أقسى أنواع الإهانه والاستغلال الجنسي وعبودية القرن الواحد والعشرين، دون أن ننسى كيف تحولت بعض المناطق إلى قبر للنفايات السامة، وكيف تباع هناك كل الأدوية المنتهية صلاحيتها والمزورة، وأشياء أخرى كثيرة.
أين الحكومات والمؤسسات التشريعية والعسكرية والأمنية وغيرها مما يجري في المنطقة؟ تستعصي الإجابة عن هذا التساؤل عندما نلمس كيف انتشرت الجهادية الأممية في المنطقة، و خلقت جسورا وممرات بين مختلف التنظيمات الجهادية، وكيف أن هذه التنظيمات تملك مقاربة مشتركة ورؤية واضحة لتحركها من المحيط إلى البحرين الأحمر والمتوسط، مقابل تمسك حكومات المنطقة بالمقاربات الانفرادية والحسابات الإقليمية.
ما جرى ويجري في ليبيا يعطي لهذه التحولات الإقليمية بعدا جغرافيا للأزمة الأمنية بالخصوص، فبعد عجز النخب عن إنتاج مؤسسات للدولة الجديدة، وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية ولحسابات الجيران المتناقضة، وفي غياب الدولة ووظائفها ومع تخثر الأزمة السياسية الداخلية ولد تنظيم ” الدولة الإسلامية ” في ليبيا من درنة إلى راس اجدير، وتحول إلى ثقب أسود ابتلع كل التنظيمات الجهادية وغيرها، تنظيم يعرف من أين تأكل الكتف، فاستقر في سرت عاصمة، وهي ” مدينة القذافي ” التي أهينت بشكل كبير من لدن ” الثوار”، وتحول التنظيم إلى بقعة زيت تنتشر نحو اجدابيا شرقا ومصراتة غربا، ونحو الهون وأوباري وغات جنوبا، إنها تلف حبل المشنقة حول عنق الوحدة الترابية لليبيا، وتقترب كثيرا من حقول النفط والغاز بالجزائر. و تصبو إلى خلق ممر جهادي ولنشاط جماعات الجريمة العابرة للحدود يربط عمق الساحل والصحراء بحوض شرق المتوسط. والخطة واضحة أيضا، ضرب الجزائر في مقتل، ومن سوء حظ الدولة الجزائرية أن ثروتها النفطية والغازية تقع على الحدود مع ليبيا، وتزامن كل هذا مع انهيار أسعار النفط، علما أن أكثر من 95% من مداخيل الدولة تأتي من المحروقات.
الحديث عن تنظيم ” الدولة الإسلامية” يرعب، حيث وفق تقارير مؤسسات عديدة، بلغ تعداد ” الجهاديين ” في ليبيا الأربعين ألف منهم خمسة آلاف ” أجنبي”، تعددت جنسياتهم، لكن العمود الفقري مكون من الجزائريين والتونسيين، وربما هذا ما يفسر التوجه نحو الجنوب الغربي الليبي، إضافة إلى جنسيات أخرى منهم طبعا المغاربة حيث يقدر تعدادهم بالمائتين. والحديث يدور كذلك عن مائة مجموعة مسلحة ليبية ارتدت كل الأزياء.
تتغير إذن المعطيات الجيوأمنية في منطقة شمال إفريقيا، فهل يقتنع “الإخوة” في ليبيا أن الوضع في بلدهم يقود المنطقة نحو الهاوية، وأن عليهم أن يدهشوا العالم بقبول التوافق بينهم، كما فعلوا حين أسقطوا نظاما ما كان أحد يعتقد بزواله. وهل تقبل “الدولة العميقة” في الجزائر أن تهديد وجودها ليس غربا بل يوجد في الشرق و الجنوب، وأن ذلك يقتضي التخلي عن المقاربة الانفرادية والعدائية تجاه جميع الجيران، مع ولوج “سلك المقاربة التشاركية” مع دول المنطقة خاصة مع المغرب، وأن مقابل ذلك يجب إجراء تفاهمات سياسية؟ وهل تستطيع مصر أن تنسلخ من ” عقدة” الإخوان المسلمين” و أن الخطر القادم ليس ” مرسي ومن معه” بل هو الارتباط التنظيمي بين” ولايات الدولة الإسلامية في ليبيا ” و ” أنصار بيت المقدس” ، وأن خريطة التحالفات الجديدة في اليمن قدمت معادلات جديدة للخصوم والأعداء، وأن ” ” الإصلاح” في اليمن، وهو خيمة الإخوان هناك يؤيد قولا وفعلا السعودية في صراعها مع الحوثي ومن معه، والسعودية من الدول التي وقفت بصلابة مع مصر منذ منتصف العام 2013. وهل سيتحول ” الصراع المكتوم ” بين مصر والجزائر على ليبيا ، كما ورد في مراسلات هيلاري كلنتون، إلى بناء منظومة أمنية وسياسية مشتركة، كما يريدها وزير خارجية إيطاليا الذي تعب في جمع الطرفين الجزائري والمصري حول المائدة الليبية؟

*  يونيو 2015

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…