عن…ZAMAN YENI LOGO son

ماذا تعني نتائج الانتخابات البرلمانية التركية التي جرت بالأمس؟ تعني في كلمات بسيطة انتصار الديمقراطية، تعني خسارة أردوغان الذي كانت هذه الانتخابات بالنسبة له تعني تحقيق مشروعه لتحويل تركيا عن مسارها الصحيح وتغيير هذا المسار إلى طريق آخر يجعل منها جمهورية خوف يتحكم فيها شخص واحد تحت زعم ما يسمى بـ “تركيا الجديدة”.. تعني صفعة قوية لأردوغان من الشعب الذي لم تنطل عليه الأكاذيب ولا المشروعات الخيالية ولا الحشود الوهمية في الميادين التي كان قوامها الموظفون والطلبة والنساء واستغلال إمكانيات الدولة.

حملت نتائج هذه الانتخابات دلالات عميقة، يجب أن تدرس بعناية من جانب الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها حزب العدالة والتنمية الذي خسر الحكم بعد أن بقي منفردا به ثلاث دورات متتالية، فاليوم ليس كالأمس بالنسبة للعدالة والتنمية فلم يعد هو الحزب الحاكم، رغم كل ما توفر له من موارد ضخمة ووسائل دعاية تبيع نفسها صباح مساء فضلا عن رئيس جمهورية خلع ثوب الدستور والحياد ونزل إلى الميادين ليدعم حزبه القديم ويوزع الإهانات على رؤساء الأحزاب الأخرى طمعا في أن يحظى، عبر فوز الحزب بالأغلبية، بنظام رئاسي بالنكهة التركية كما يصفه، ليصبح هو نفسه من أهم أسباب خسارة الحزب، إن لم يكن السبب الوحيد.

لم يعد من حق العدالة والتنمية أن يحتكر الحديث باسم الشعب التركي أو بالنيابة عنه لأن شعبيته تآكلت، وعزله الشعب ووضع عائقا أمام اندفاعات أردوغان نحو حكم فردي كان سيجر تركيا إلى مصير مجهول، وأصبح عليه الآن أن يتوقف عن النغمة التي تحدث بها رئيس الحزب أحمد داوداوغلو بعد إعلان النتائج الأولية الليلة الماضية، حيث تحدث عن احترام إرادة الشعب لكنه أتبع ذلك بتأكيد أن الحزب ماض في طريقه نحو إقامة” تركيا الجديدة” التي صوت الشعب ضدها في صناديق الاقتراع أمس، من جانب داوداوعلو يعد هذا نصرا له لأن هذه هي المرة الأولى التي يقود فيها الحزب، حتى على الورق، وقد تعهد بأن يأتي الحزب في المرتبة الأولى وبالاستقالة إن لم يحدث ذلك، لكنه كان يدرك في قراراة نفسه وهو يصرخ بصوت مشروخ من شرقة حزب العدالة والتنمية بأن هذا الفوز ماهو إلا هزيمة حقيقية.

وعلى حكماء الحزب من الجيل القديم الذي أبعد قسرا وغصبا إما عن طريق اللائحة الداخلية للحزب، أو عن طريق تجاهله، أن بنبهوا داوداوغلو ومن قبله أردوغان إلى ضرورة التمهل وإبطاء السير، وعدم اللجوء إلى خطط مدمرة، لأن نتيجة التصويت تعني باختصار أن الشعب يقول لأردوغان توقف، لانريد نظامك الرئاسي ولانريد تدخلك في شؤون الحكومة وفي كل صغيرة وكبيرة .

أحزاب المعارضة عليها أيضا أن تقرأ جيدا وبعناية نتائج الانتخابات، فعلى حزبي المعارضة التقليديين حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، وحزب الحركة القومية أن تكون لهما وقفة مع النفسأيضا، فلم يغير الحزبان مكانهما منذ عام 2002 لا في المناطق التي يحصلون منها على الأصوات ولا حتى في عدد مقاعدهما في البرلمان الذي يعلو تارة ويهبط أخرى في الحدود الآمنة، وإن كانت الانتخابات أظهرت خسارة الشعب الجمهورية لعدد من مقاعده القديمة ما يعني أنه يلي حزب العدالة والتنمية في الخسارة كذلك.

على هذين الحزبين تحديدا (الشعب الجمهوري والحركة القومية) أن يجددا من لغة خطابهما والأهم بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري، لأنه بذل الكثير من محاولات التجديد والتغيير، أن ينزل إلى شرائح أوسع من المجتمع التركي وألا يبقى حبيس غرب تركيا بعلمانييها وكمالييها.

بمنطق الأرقام، الخاسر الأكبر هو حزب العدالة والتنمية الذي حصل على ما يقرب 40.8% بالكاد وعجز حتى عن الحصول على الأغلبية المطلقة (276 مقعدا ليفوز بشق الأنفس بـ 258 مقعدا) أما الفائز الأكبر فهو حزب الشعوب الديمقراطية الكردي، الذي كان الحصان الأسود في هذه الانتخابات المصيرية، والصخرة التي تحطمت عليها أحلام أردوغان في النظام الرئاسي، الذي يكرس لديكتاتورية بغيضة ولحكم الفرد الذي يهدد ويتوعد ويقاضي ويشتم ويهين كل من يختلف معه، ولايرضى إلا بمن يقف في صفه مبايعا مؤيدا ومصدقا للكذب والافتراءات، بل ومقدسا لشخصه أيضا.

ربح حزب الشعوب الديمقراطية، وأصبح أول حزب صغير يضع أمامه هدف القفز على الحاجز النسبي والعتبة الانتخابية (10% من أصوات الناخبين) ويحققه، لأنه استطاع أن يقنع شريحة كبيرة من المجتمع التركي بأنه ليس حزبا عرقيا أو عنصريا أو حزبا للكفار، كما حاول قادة العدالة والتنمية وصمه في حملاتهم الانتخابية، واستطاع زعيمه الشاب صلاح الدين دميرطاش أن يقدم نفسه كنجم صاحب قبول في عالم السياسة، وليس مطرب حانات كما وصفه أردوغان، ليصبح هذا الحزب هو نقطة الضوء التي شاهدها الشعب التركي في نهاية النفق المظلم، الذي كانت تركيا تندفع فيه بكل قوتها، فيما يشبه حالة من حالات الجنون.

نعم نجح الحزب في دخول البرلمان متعهدا بمنع أردوغان من تحقيق طموحه في تحوبل تركيا إلى طريق الديكتاتورية، لكن عليه أيضا أن يدرس بعناية فائقة نتائج الانتخابات، وأن يبرهن من خلال أدائه في البرلمان على أنه حزب يعمل من أجل الديمقراطية ومن أجل السلام في تركيا، وأن تكون رسالته للأكراد الذين كانوا الكتلة التصويتية الحقيقة له هي رسالة أمل في مستقبل أفضل عبر آليات الديمقراطية التي هي أقوى من السلاح.

أما بطل هذه الانتخابات، الذي يستحق أن يصفق له الجميع فهو الشعب التركي، الذي برهن على أنه لا ينخدع بدعاوى التخويف والرعب التي كان يحاول أردوغان وحزب العدالة والتنمية بثها في نفسه، عبر تهديده بفقد الاستقرار إذا لم يكن العدالة والتنمية على رأس الحكم منفردا وإذا لم يكن أردوغان رئيس جمهورية بصلاحيات مطلقة.

لقد رأي الشعب التركي الفساد واكتوى بناره في شكل أزمة اقتصادية تضغط عليه بقوة، ورأى كبت الحريات وبث الخوف والهلع وتفاقم غول البطالة والتضخم وارتفاع الأسعار، نعم انخدع لبعض الوقت بآلة الدعاية الرهيبة وبتأثير أردوغان وصوته الزاعق في أنحاء تركيا، لكنه كان طوال الوقت منذ تفجر فضائح الفساد والرشوة في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013، والتي عرقل أردوغان وحكومته التحقيقات فيها، يدرس ويحلل ويقرأ الأحداث بعين ثاقبة، صحيح أن هذا الشعب لم يصدر حكمه مباشرة في الانتخابات المحلية في مارس / آذا 2014، ولا في الانتخابات الرئاسية في أغسطس/ آب الماضي، وتحلى بالصبر تجاه الافتراءات والظلم وتحميل كل ما يحدث في تركيا على ما يسميه أردوغان بالكيان الموازي، لكنه لم يضيع الفرصة للرد في اللحظة المناسبة ليعطيه جوابا مختلفا عن الجواب الذي طلبه في صناديق الاقتراع، جواب يقول: انتهى الدرس يا أردوغان.. وياله من رد قاس وصفعة قوية تعيد الأمور إلى نصابها وتعلن أن الشعب التركي لايقبل الاستقطاب وأساليب التخوين والإهانة.. وليؤكد أنه قادر على أن يوقف أوهام كل من يريد أن يجعل منه مطية لمغانم شخصية ..

وأيا كان ماسيقوله أردوغان، وأيا كانت الإجراءات التي سيحاول القيام بها لمحاولة إظهار أنه لم يهزم وأنه لايزال رجل تركيا القوي، فإن ذلك لن ينفي حقيقة أن هناك 60% من الشعب التركي قالوا له لا .. لا لأمشاريعك وأحلامك وأوهامك ولا لخططك في البقاء في السلطة منفردا ومعك حزبك حتى عام 2023 .. انتهى الدرس يا أردوغان!

* نشر  يوم 8 يونيو 2015

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…