إذا تركنا، جانباً، الأوصاف التي يُطلِقها الحزبيون على الذين ينشقّون عنهم – وهي تبدأ بمفردات منحرفين ومُنْدسِّين ولا تنتهي بمفردات عملاء وخونة- فإن ما يصادفنا من أوصاف يُطلقها المنشقّون على هؤلاء قد لا يكون أقلَّ حدةً وعنفاً لفظيّاً من أوصاف الأوّلين.
كلّ فريقٍ من الفريقيْن المتنازعيْن في الحزب الواحد، على خطّه السياسي، أو على المواقع والسلطة فيه، يقدّم روايتَه لما جرى من خلاف وأدّى إلى انقسام. والراوي دائماً بريءٌ في الرواية التي يقدّم، وضحيةٌ لسياسات الثاني و«مؤامراته». ويصعب، في مثل هذه الحال، أن يُصدِّق المرء أيّاً من روايتيْ الفريقين لأنهما، بكل بساطة، تصوِّران المعركة الحزبية الداخلية كما لو أنها جَرَتْ بين «ملائكة» و«شياطين»!
وليس الأمر كذلك، يمكننا أن نتّهم الماسكين بأَزِمَّةِ المؤسسة الحزبية بأن مواقعهم في مراكز القرار ترتّب عليهم، أكثر من غيرهم، مسؤولية الحرص على صوْن وحدة الحزب حتى وإنْ كان الثمنُ الواجبُ دفْعُهُ تنازلات لمعارضيهم. ولكننا لا نستطيع أن نجاريَ هؤلاء المعارضين في روايتهم عن أنفسهم بوصفهم «البديل الديمقراطي» لمجرّد أنهم حُرموا من الحق في التعبير، أو فُصِلوا من الحزب، أو دُفِعوا دفعاً إلى الانشقاق.
وكما من الصعب تصديقُ رواية بعينها – على الرغم من شرعية الاعتقاد أن الانشقاقات غالباً ما تعبّر عن انسدادٍ في الشرايين الحزبية وتأزم في الحياة الداخلية للأحزاب- فكذلك من الصعب أن نطمئن إلى كثيرٍ ممّا يذهب إليه نُقَّاد الظاهرة، من «المحايدين» غير الحزبيين، من استنتاجات أو من تصورات للخروج من أزمة الانشقاقات، يطيب لبعض هؤلاء أن يَقْدَحَ في الفريقيْن، الرسمي والمنشق، وأن يُشَنِّع – بالتالي- على الظاهرةِ الحزبية برمَّتها بزعم أنها مصدر فُرقة وتشرذُم في جسم المجتمع، متوسِّلاً ظاهرة الانشقاقات المتكرّرة دليلاً على ما يذهب إليه. ويطيب لبعض ثانٍ أن يرى في الانشقاقات مسلكاً طبيعياً لتطور الحياة الحزبية، فهي – في حسبانه- ترجمةٌ موضوعيةٌ لتدافُع الأجيال السياسية، حيث المنزِع العام أن يصطدم جِيل جديد بجيلٍ قديم وينفصل عنه. أما البعض الثالث فيرى في الانشقاقات مظهراً من مظاهر الإفساد المتعمَّد للسياسة من قِبل نخبٍ حاكمة تجد ألفَ طريقة للنفخ في جمر الخلافات داخل أحزاب خصومها، لا مخرج من الأزمة، عند البعض الأول سوى انتهاء الحالة الحزبية وزوال مؤسساتها لأنها غير قابلة للإصلاح. ولا مخرج منها، عند البعض الثاني، سوى بالاعتراف بمشروعية الانقسامات سوسيولوجياً وثقافياً. أما البعض الثالث فلا يرى من حلٍّ سوى حَمْل المعارضات المُنْشَقَّة على التنبُّه إلى ما يُرَادُ لها أن تَصِل إليه بانشقاقها.
يبدو الموقف الأوّل سلبيّاً وعَدَمِيّاً تجاه الظاهرة الحزبية و- أحياناً- يجنح للإفصاح عن معاداتها. ويبدو الثاني موقفاً ثقافوياً مهجوساً بالتحليل والتعليل لا بالوظائف السياسية التي يُفْتَرَض أن تنهض بها الأحزاب والمنظمات السياسية في مجتمعاتها، فيما يبرّر الموقف الثالث للقوى الماسكة بزمام المؤسسات نزْعاتها الكلاّنية والبيروقراطية، ورفضها إجراء الإصلاحات الديمقراطية في بُناها متِعِلّلة المؤامرة الخارجية (من الخصوم أو من السلطة). والمواقف الثلاثة السابقة تتضافر – على اختلافٍ بينها- لتعيد إنتاج أسباب تأزّم الحزبية السياسية، وعجزها عن مواجهة معضلة الانشقاقات فيها. ولنا على المواقف تلك جملةُ ملاحظات نقدية:
أولاها: أن «حيادَها»، في النظر إلى مسألة الانشقاقات، وانطلاقَها في النظر ذاك من مواقع خارج نطاق المنظورات الحزبية المتضاربة، حياد مزعوم؛ فهي – فيما تقوله- لا تفعل سوى ترديد مفردات فرقاء الصراع الحزبي وأطروحاتهم من هذا الجانب من الصراع أو ذاك. إنها تزكي الرواية الرسمية الحزبية أو الرواية المعارضة، أو تتخذهما معاً مَطِيَّةً للقول بنهاية الحزبية وفي الأحوال جميعاً لا تقدّم رؤيةً مفيدة، أو ناجعة، إلى الكيفيات التي يمكن بها تصويب مسار الحياة الحزبية، ومعالجة آفة الانشقاقات فيها، ما دام أفق تلك المواقف الثلاثة لا يخرج على أحد الاحتمالات الثلاثة: العزوف عن الحزبية، أو التحريض على وحدة الأحزاب باسم التدافع بين الأجيال، أو التحريض على الديمقراطية بدعوى أوّلية الوحدة التنظيمية المستهدَفة!
وثانيتها أن منطق المقالة الأولى (العدمية) المعادية للحزبية إنها مصيرُهُ إلى مجافاة الحداثة السياسية، بحسبان الحزبية والتعددية السياسية واحدةً من أظهر ظواهرها. يجرِّب هذا المنطق المتخلف أن يُخفيَ تهافُته من طريق امتشاق سلاح النقد للحزبية، في وجهيْها الرسمي والمعارض، بزعم أنها تَبْعَثُ مفاعيل الانقسام والتذرُّر في المجتمع غير أن السترة النقدية، التي يرتديها، لا تقيه من نقدٍ آخر مزدوج: لتهافُتِ الحالة الحزبية القائمة، من جهة، ولاستغلال ذلك التهافت لنقدها قصد الدفاع عمّا هو أسوأ من ذلك التهافت من جهة أخرى. قد تكون الأحزاب غيرَ مقنعة لأنْ تَكُون مؤسسات حقيقية للتمثيل الشعبي وللنضال السياسي، وقد تكون – أكثر من ذلك- فاسدة وشديدة التفسُّخ، ولكن ليس من المشروع – في وعي عاقل- أن نرمي الولد مع ثيابه الوسخة، كما يقول المثل الفرنسي، لمجرّد أن في تلك الأحزاب فساداً. منطلق الحداثة يقول إن على المجتمع أن يمارس حقّه في السياسة من خلال كيانات حزبية تمثيلية، وإن على هذه أن تكون جديرة بالنهوض بأدوارها في التمثيل والتوعية. وحين يدبّ إليها الفساد، عليها أن تصحّح أوضاعها، وعلى المجتمع أن يَحْملها على إتيان ذلك التصحيح خدمةً لها وله على حدٍّ سواء.
وثالثتها: أن التدافع بين الأجيال، عند من يقول به، ليس مبرّراً لتكون الانشقاقات سبيله الوحيد إلى التحقق؛ فالأحزاب ليست مؤسسات جِيلية بالضرورة، وإنما مؤسسات اجتماعية وطنية مستوعبة لأجيال المجتمع كافة، كما لفئاته المختلفة، وليس ثمة ما يمنع جيليْن أو ثلاثة من التعايُش داخل المؤسسة الحزبية الواحدة، كتعايُشها داخل مؤسسات مختلفة: من الأسرة إلى أجهزة الدولة. إن مثل هذا التفسير الاجتماعي لظاهرة الانشقاقات – الذاهب إلى تبريرها- لا يلْحظ أن الجيل، أيّ جيل، ليس وحدة عُمُرية مغلقة وعضوية موحَّدة، وإنما هو – شأن كلّ وحدة اجتماعية- ميدان فسيح للتناقضات ولاختراق تيارات الفكر والمصالح، وبالتالي – لا مكان لافتراضه نصاباً واحداً وموحَّداً. والأهمّ من ذلك أن من يلتمسون الذرائع للانشقاقات، بدعواهم تلك، لا يلْحظون الحاجة إلى وجود أحزاب قوية في المجتمع وحدتُها في مِنْعَه من نفسها، لأنهم – ببساطة شديدة- لا يؤمنون بمركزية السياسة في المجتمع والحياة العامة !
ورابعُتها: أن استرخاص النضال الديمقراطي للمعارضات الحزبية من أجل إصلاح الأوضاع الداخلية لأحزابها، واتهام تلك المعارضات – عند انشقاقها- بالتورط في تمكين السلطة من إفساد السياسة، ليس دائماً فعلاً من أفعال الحرص على الوحدة التنظيمية للأحزاب، وعلى تمتعها بقوّتها السياسية المستهدَفة من الخصوم، بقدر ما هو – في المعظم من وجوه التعبير عن نفسه- تبرئةٌ لتلك الأحزاب من مسؤولياتها عن إفساد الحياة الحزبية بأَدْواء الانغلاق، والكبت، والقمع، والتهميش، ودفع المعارضين إلى مبارحتها نهائياً بعد مديدِ يأس.
نتأدى من هذه الملاحظات النقدية السريعة إلى الاستنتاج التالي: إنّ نقد ظاهرة الانشقاقات لابدّ من أن يستوعب حاجتين مترابطتين: الحاجة إلى التشديد على مكانَةِ الحزبية في بناء أيّ مجالٍ سياسيّ حديث، والحاجة إلى اجتراح رؤية جديدة إلى حزبيةٍ متحررة من الأسباب التي تولِّد هذه الآفة الخطرة (الانشقاقات).
* عن التجديد العربي
نشر بها الاحد 7 يونيو 2015