تجربة الائتلاف الحكومي باتت على المحك و قابلة للتشريح والتقييم بعد مرور أربع سنوات .. صناع المرحلة يعرفون ماذا اقترفت يداهم .. صنائع المرحلة يعرفون حدود إمكانياتهم و مجال تحركهم .. ما يقع في حكومة العدالة و التنمية يستحق تحليلا هادئا شاملا و عميقا .. التجربة برمتها يجب أن توضع تحت المجهر، لاستخلاص ما يجب.. إذا حاولنا النظر من زاوية نقدية موضوعية لمكونات الحكومة أو الأغلبية التي «تحكم».. لابد من العودة إلى 2011 وما تلاها .. باختصار هذا ما تحاول هاته الورقة معالجته …
سئل يوما المفكر المغربي و العربي الراحل محمد عابد الجابري عن المغرب السياسي .. رد بمقولة غاية في العمق و التركيز .. «يحدث في المغرب أن يتغير كل شيء من أجل ألا يتغير أي شيء…» .. وهو بهذا الكلام ذي الدلالات الكبيرة كان يلخص تجربة و مرحلة سياسية قائمة كاملة .. إذا شئنا القول بصياغة أخرى لتلكم المقولة ، يمكن استدعاء التحليل الذي تختصره مقولة أخرى ذات أهمية في التحليل السياسي .. «التغيير من داخل الاستمرارية» .. أي دون المساس بالثوابت الكبرى و مداخل صناعة القرار على مستوى النظام السياسي المغربي ..
لنعد قليلا إلى الوراء …
قبل أربع سنوات خلت ، كان المشهد السياسي الوطني عرضة لنوع من «التجريبية» في الحقل الحزبي ، بشكل بات معه جل الفاعلين السياسيين يعتقدون بوجود أزمة سياسة و تأزيم للوضع القائم ، بروز نوع من الانحسار في المجال السياسي يؤطره الستاتيكو المعلوم و المعروف لدى الجميع .. فاعل مركزي رئيسي و فاعلون ثانويون ، احتكار لمدخلات السلطة و مداخل الثروة وحضور قوي وطاغ لمؤسسة دستورية وحيدة .. كل شيء كان ينبئ بتراجعات واضحة عما تم إنجازه سياسيا قبل حكومة التناوب و بعدها إلى حدود الخروج عما اصطلح عليه يومها بالمنهجية الديمقراطية ..
بدا و كأن الآليات و المداخل التي تعضد الانتقال الديمقراطي و تساعد على التحول نحو الديمقراطية و دولة المؤسسات، ظهر وكأن «ممسحة» سياسية تصر على محو مرحلة والبدء في بناء مرحلة ثانية تستلهم النموذج السلطوي الذي يؤجل كل إصلاح سياسي أو دستوري لصالح الخطاطة التي تعتني بالاقتصاد والتنمية وهذا ما أطلق عليه بعض الباحثين الذين لا يتمتعون ب «خفة دم» تحليلية..»التّوْنَسَة».. التي دشنت آنذاك معالم مشروعها بإطلاق حزب جديد سماه الاتحاديون بالوافد الجديد .. و بالنتيجة كان سيكون المغرب السياسي رهينة خطاطة سلطوية تدوس كل ما تحقق من تراكمات نضالية و سياسية و من تضحيات حقيقية و جسيمة أدى فيها اليسار المغربي الثمن غاليا .. و عندما نتحدث عن اليسار.. بكل الموضوعية الممكنة و بدون شوفينية .. نقصد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. و «شَلِّلوا بها» أفواهكم أيها الأدعياء الصغار ..
استدعاء الذاكرة التاريخية أو بعض منها في العقدين الأخيرين لابد منه لفهم سلوك الفاعلين الحكوميين اليوم الذين يقودهم الحزب الأغلبي صاحب المرجعية الإسلامية.. و بالعلاقة.. فإن مقولة الجابري السابقة الذكر تجد مكانها و وجاهتها في هذا السياق.. خصوصا إذا ربطناها بحضور فاعل سياسي محافظ.. فالمنطق و الخلاصة هي الوفاء للقراءة التقليدية القديمة لدى جزء من محللي و مبرري سلوك السلطة السياسية في تعاطيها مع الراهن المغربي..
حزب أغلبي بمرجعية دينية كل همه .. إيجاد موضع قدم في مربع السلطة و لا يهم طبيعة الأدوار التي سيقوم بها أو ستسند إليه، الأساسي هو الحضور السياسي و الحزبي.. التأويل الديمقراطي للوثيقة الدستورية و استبطان روحها و فلسفتها الحداثية والحقوقية لا توجد و لن توجد في عقل حزبي محافظ .. المحافظة عدوة الحداثة و التغيير. وكان من الوهم و حتى البلادة السياسية أن يتخيل أحد أن تنظيما يشبه العدالة و التنمية سيحدث الفارق ، أو سيسعى لتجاوز مقولة الجابري و تفنيدها على مستوى الممارسة .. الدمقرطة و التحديث لا توجد في أجندة بؤساء السياسة الذين قادتهم رياح ما سمي عسفا .. ربيعا عربيا ..
من جانب ثان .. وفي السياق ذاته ، أمام الحراك الذي وقع في الساحة المغربية ، خروج حركة شبابية فبرايرية تطالب بالإصلاح و التغيير و هيكلة الثروة الوطنية و ضغط المعطى الإقليمي الذي تتساقط فيه الأنظمة السلطوية و ينهار من داخله نموذج الحزب الوحيد ، حتم هذا على المشهد السياسي الوطني تقبل ما كان مرفوضا في السابق .. نظمت انتخابات سابقة لأوانها ، صودق على دستور جديد بعد جدل كبير.. جاءت صناديق الاقتراع بحزب العدالة و التنمية الذي كان بالكاد يجاهد من أجل البقاء السياسي..
ما الذي وقع..و تُقُبِّلَ على مضض ..
السياسة لا ترمي بالمفاجآت فقط.. بل تصنع الكوارث باسم الديمقراطية .. كان على الجميع التعايش مع نتائج انتخابية أعطت حزبا أغلبيا بمرجعية دينية كما يعلم الجميع، لم تنفع تخريجة «الثمانية» أو G8 في لجم و محاصرة هذا التنظيم الحزبي ذي الامتدادات الإسلاموية .. لقد استثمروا الضغط وربما الارتباك ليربحوا النقاط وحيازة رئاسة الحكومة واحترام ما بدا أنه نوع من العرف الدستوري الآخذ في التكريس .. اختيار رئيس الحزب المتصدر للانتخابات رئيسا للحكومة… ومن هنا بدأت الحكاية السمجة التي يعيشها المغاربة اليوم …
حكومة جمعت كل المتناقضات.. الشيوعي ، حلفاء السلطة و النظام القدامى ، صنائع الإدارة الذين لا يستطيعون مواجهة و معارضة أي خطاطة مخزنية ..أو ليس المخزن هو الذي صنعهم في نهاية المطاف .. يكفي أن يرى المرء حزبا شيوعيا و لنقل يساريا يجلس مع حزب أصولي .. مرجعية متناقضة مع مرجعية ، مع ذلك وجد لها سي عبد الإلاه و سي نبيل التخريجة المناسبة .. دخولنا هو استجابة للمصالح العليا للبلاد .. هكذا برر «زعيم» التقدم والاشتراكية مشاركته في حكومة بنكيران .. رجاء اشرحوا لنا ماهي المصالح العليا للبلاد .. هذا مفهوم فضفاض يشبه مصطلح الجهات العليا تريد ذلك ..التخفي وراء الكلام الغليظ و الذي يكاد يكون بلا معنى سياسي.. يظهر الانتهازية و التهافت على المواقع بدون التفكير في الكلفة.. رحم الله علي يعتة و عزيز بلال ..
البيجيدي لا يملك مشروعا مجتمعيا ، هو يتحرك من خلال منظومة الإسلام السياسي للحصول على موقع معين في إطار الإسلام الوسطي السني الذي تقوده و تؤطره مؤسسة إمارة المؤمنين .. ولا بأس من داخل هذه القراءة أن يعملوا على تحصيل مكاسب سياسية والتغلغل في مؤسسات الدولة وبنيات المجتمع، لمواصلة الزحف.. أما اليوم، فهم دراويش يريدون فقط التعايش مع الملكية و بناء الثقة .. التسويغ و الحسم بالتأكيد على أن جزءا من الإسلام السياسي يقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية.. ومستعد بأن يكون جزءا من استراتيجية دولتية .. تقبل فاعلا دينيا بلبوس سياسي و حزبي بدون أظافر ولا أنياب و مستعد لكل التنازلات .. أو ليس هذا هو مضمون جل الخرجات الإعلامية والتحليلات الخطابية التي يتقيأها بنكيران كلما أتيحت له فرصة مسك الميكروفون …
يتحدث الناس و المراقبون عن الفوضى الحكومية ، عن التناقضات التي تخترق جسم الأغلبية الحكومية ، بنكيران لم يتمثل أو يستوعب مفهوم و صفة رجل الدولة ، بقي وفيا لتفكيره الماضوي المحافظ يتصرف كقائد لحزب و ليس كرئيس لأغلبية حكومية.. يجيب على الانتقادات الموجهة لتجربته من جبة السياسي و الحزبي متخليا عن واجب التحفظ و الاحترام و بلع اللسان الذي تحتاجه وظيفة و مهمة رجل الدولة.. هذا الرجل يهين كل شيء ، بل يستهين بكل شيء .. لا يراعي بروتوكولا و لا يحترم إواليات و متطلبات المنصب .. من هنا سيفهم المتتبع .. لماذا التناقضات بهذا الحجم توجد داخل التركيبة الحكومية .. هل تبحثون عن التجانس وسط هذه الخيلوطة التي جمعت ما لا يجمع .. هل سيراهن المغاربة على حكومة لا تستطيع حل خلافاتها الداخلية و يستغل رئيسها ضعف أغلبيته ليلعب «العشرة» عليهم و فيهم.. و هذا بالضبط ما قاله الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي ادريس لشكر …
إذن..العدالة و التنمية ليست بديلا استراتيجيا .. هي أحد اللاعبين المتواضعين التي لا يعول عليها كثيرا، تضر سياسيا أكثر ما تنفع، لكنها قد تجيب عن حاجة لدى السلطة السياسية تريد تسويقها هنا و هناك..
العدالة و التنمية و تناقضاتها في الحكومة و خارج الحكومة لا يمكن أن تكون جزءا من مشروع الإصلاح .. المشروع الأصيل للإصلاح السياسي و الاجتماعي ينتمي لليسار و الدولة تعرف هذا الكلام بكل عمقه ، اليسار كقوة اقتراحية و كمرجعية تاريخية حقيقية .. يجب ألا نخطئ .. سوء التقدير في السياسة يكلف الفاعل عقودا و سنوات قد تكون وبالا على الجميع..
عندما احتجنا البديل عقب دستور 2011 وجدنا البدائل جد متواضعة.. و بنكيران و حزبه و حكومته و تناقضاته ثم تناقضاتها هو و هي تجسيد لهذا التواضع و لهذا البديل المتواضع جدا .. صرفنا الموقف بخريطة انتخابية لا علاقة لها بالروح التي أنتجها دستور 2011 .. تعومل مع المستجد السياسي بنفس البديل الذي لا يتوافق بتاتا مع المشروع الديمقراطي و الحداثي .. إذا سقطنا في السوق السياسية و تكسرت رقابنا.. فلأننا قررنا أن نخرج مائلين من الخيمة في الرباط … ( … ) ..
ستبقى التناقضات داخل حكومة بنكيران ، سيشرقون و سيغربون .. سيختلفون و يعارضون بعضهم البعض .. سيبهدلون مؤسسات الدولة أكثر من واقعة الشكلاطة و الحب و الكراطة و هلم فضائح .. هم صنائع مرحلة و ليسوا صناع مرحلة .. لنتكلم بصراحة .. الحياة السياسية اليوم لم تعد تتحمل الشعبوية والكلام المبتذل و التحليلات السطحية ..
مهندسو هذه التجربة كان رهانهم كله على ما يبدو خاصة عندما نجمع الصورة ونستنطق الوقائع و الأحداث و مجريات السياسة.. كان الرهان على هذه التشكيلة الحكومية و على هذا الاختلاف الحاكم .. هو على الأقل تنزيل المقتضيات الأساسية في هذا الدستور .. و حتى هذا الأمر عجزوا فيه و لم يتوفقوا ..
أولا .. هناك تعارض إيديولوجي يفرق أكثر ما يجمع بين مكونات الحكومة ..
ثانيا .. هناك تفاوت في الشرعية النضالية التاريخية بين هؤلاء ..
ثالثا .. هنالك غياب للكاريزما التي قد تحترمها «المؤسسة « وباقي الفاعلين .. هل يملك رئيس الحكومة ومن معه الكاريزما المطلوبة .. ذكر الله الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بخير .. آخر حسن نية سياسية في المغرب لحدود اليوم …
من يريد أن يفهم التناقضات .. داخل حكومة بنكيران عليه أن يمر من كل هذا .. الذاكرة السياسية تسعف كثيرا في فهم سر هاته التي نسميها اليوم بالتناقضات الحاكمة لمسار الحكومة الملتحية…
* عن جريدة ا.ش
السبت 6 يونيو 2015