لقد كان لي دائما موقف واضح من تطبيق التصور، الذي أرساه باختين- في صدد تحديده الرواية بموجب اللسان، بما يعنيه من تعدد- على الرواية في العالم العربي، لسبب وجيه يتعلق بكون هذه الأخيرة تُنتج بوساطة اعتماد اللسان العربي الفصيح الذي لا يتوافر له إمكان حمل الأوعاء الإيديولوجية في تنافرها، ولا حمل رنين الأيام والساعات والدقائق. فهو لسان يتطور خارج الاستعمال اليومي، ويتخذ تطوره طابع تسويات؛ لأنه مرتبط في وجوده بالطبقات الوسطى التي تتوسل في التعبير عن نفسها بالكتابة. هذا إلى جانب رسمية اللغة الفصيحة، ومركزيتها، وعدم التصاقها بالهامشي المتحرر، وغير المركزي. فاللسان الشفهي الحي المعتمد على الصوت- بنبراته، وتلويناته البلاغية، وقدرته على تحويل رؤية ما إلى العالم إلى تعبيرات مجازية حافلة بالمعنى الفلسفي للحياة، كما هي في جريانها وتوقعاتها- هو وحده القادر على التفكير فينا، وعلى جعلنا ننبسط في عبارتنا، لا كما نحن في فرادتنا، ولكن كما نحن مستوعَبين من قِبَل وعي يفارقنا، لكنه يجعلنا ننتمي إليه بحكم انتمائنا إلى سياقه التاريخي. فاللسان الشفهي وحده القادر على التعبير عن الوعي الجماعي- الاجتماعي، وعن النزعات الإيديولوجية، والرؤية إلى العالم بوصفها مقولات ذهنية ترتبط بنسق من التوقعات التي ترتبط بالتطلعات (ما ينبغي أن يكون).
لا ترتبط مناسبة هذا التقديم الموجز بغاية متعلقة بظاهرة أدبية ما، وإنما برصد تحولات في الرؤية إلى العالم، وإلى الإنسان من خلال تعبيرات لسانية مستقاة من اللغة الجارية اليومية (الدراجة المغربية). وسنقتصر في هذا الأمر على أسلوب التوديع، الذي ارتبط في ظهوره، وإنتاج بنيته التعبيرية باستعمال وسائل الاتصال الحديث (الهاتف النقال). وسنتخذ هذا الأسلوب مجالا لفهم الكيفية التي يصاغ بها تمثل الآخر، وعلاقته بالزمن، وبمسألة الوجود في العالم، من حيث بعده القيمي الأخلاقي، ومن حيث بعده الدال على طبيعة الحضور في العالم. وسنقتصر في هذا الأمر على عبارتين سادتا مؤخرا في توديع الأشخاص بعضهم بعضا، وهما: «تلاح» و «يا الله.. حيد».
عبارة « تلاح..!»
ينبغي فهم هذه العبارة- على مستوى الظاهر- بوصفها أسلوبا في التوديع، دالا على التخلص من المخاطب، لكن طابعها الساخر يجعل منها مقبولة، ودالة على انتهاء لقاء ما، أو محادثة بنوع من المرح. وتترجم إلى اللسان الفصيح بـ»ارتم»؛ ومن ثمة يبدو أنها لا تتضمن في صلبها ما يفيد التوديع، ومع ذلك تفيده بحسب استعمالها. ولا يمكن فهمها من دون التذكير بالمعنى الذي حلت محله، ألا وهو «السلامة» الذي يعد كامنا خلف عبارة التوديع المتعارف عليها في اللغة الجارية «بالسْلامَة»، التي هي أقرب إلى العبارة المستعملة في اللسان العربي الفصيح «صاحبتك السلامة». ففي العادة نتمنى- وفق اللسان الجاري بالطبع- لمن نودعه هاتفيا أو مباشرة أن تصاحبه السلامة، لكن ما يُصاغ في هذا الشكل من التوديع «تلاح» فعل أمر يفيد معنيين: المعنى الأول يفيد مواجهة الكارثة؛ لأن فعل «ارتمي» الذات يتضمن- على نحو مباشر- السقوط من أعلى نحو أسفل؛ ومن ثمة فهو يتضمن المخاطرة بكل ما تعنيه من قابلية التعرض للسوء. والمعنى الثاني يفيد الارتماء مثل أي شيء يُرمى بعد أن اُستُنْفِد، أو اُسْتُعمِل. ومن البين أن هذا المعنى الثاني هو المرجح من دون إلغاء ورود المعنى الأول. ومن ثمة يصير الإنسان مشابها للأشياء التي تنتهي صلاحيتها بالانتهاء من الفائدة منها. فعبارة «تلاح» بوصفها أسلوب توديع تستخدم لا في أفق قيمي استعمالي، بمراعاة الحاجة الدائمة لمن تربطنا بهم تشابكات الحياة، وإنما في أفق قيمي تبادلي يصير بموجبه من نودعه ظرفيا منتميا إلى العابر. وأيضا ممررا من خلال فعل الإزاحة الذي يطبع علاقتنا بالعالم والزمن؛ ويتجلى ذلك في إنهاء اللقاء بإزاحة الإنسان من مجال الحضور بأقصى سرعة ممكنة تلافيا لهدر الزمن.
عبارة « يا الله.. حيد..!
شاعت أيضا عبارة « يا الله.. حيد..!» بوصفها أسلوبا في التوديع في اللغة الدارجة، ويمكن ترجمتها في اللغة الفصيحة بنوع من المرونة، لعدم قدرة هذه الأخيرة على حمل رنينها الدلالي والشعوري، بالعبارة الحرفية الآتية: «كفى.. لِتُزِلْ نفسك»، أما الترجمة التقريبية فتعني: «انتهى.. أفسح المجال». ومهما كانت الترجمة فإن ما يراد من دلالة في قولها التوديعُ فحسب. وتحل هذه العبارة أيضا محل عبارة التوديع المتعارف عليها التي تفيد تمني السلامة لمن نودعه. ومن لا يتعدى السطح واقفا عند المعنى المباشر يرى فيها نوعا من التعبير العادي الذي له صفة اللغو الدال على انتهاء اللقاء، بينما تدل- في الحقيقة- على أكثر من ذلك؛ أي على الرغبة في السرعة في إتمام اللقاء، واختزاله، كما تدل على العابر الذي ينبغي التعامل معه مؤقتا، ومن ثمة ينتهي بانتهاء حضوره الحيني في الزمن، والمقصود بذلك التعبير عن تحول في العلاقات التي لم تعد تتعدى زمان الحاجة إليها. ويمكن فهم ذلك بالمقارنة بين عبارة «بالسلامة» وعبارتي» تلاح» و» يالله.. حيد». فالعبارة الأولى تعني «إنني أتركك سالما، وأرجو أن تصل سالما، وأن أراك مستقبلا سالما»؛ ومن ثمة فهي تحمل في طياتها الشكل الأمثل للمواصلة في العلاقات، بما تعنيه من مراعاة أخلاقية تتمثل في الحرص على وصول من نودعه إلى الجهة التي يقصدها سالما، ومن بعد حميمي ماثل في الاعتناء بالآخر. لكن العبارتين الأخريين تدلان من جهة على لامبالاة بمصير الآخر، ومن جهة ثانية على كونه مزاحا بما هو أهمٍّ ماثلٍ في الانشغال بالزمن، والتفرغ لما هو آت يحل محل المودَّع ويزيحه من مجال الاهتمام.
إن العبارتين: «تلاح..!» و» يا الله.. حيِّد..!» تختلفان- وإن كانتا تشتركان في الإزاحة- من حيث تعبيرهما عن الوضع الأنطولوجي للإنسان في الحياة المعاصرة، لا الإنسان المغربي فحسب. فالعبارة الأولى تتضمن تصورا للإنسان يصير بموجبه مندرجا في خانة الأشياء، بما يعنيه ذلك من نزع للصفة الإنسانية عن العلاقات بين الأفراد، ومن نزعة اختزالية تقلص العالم والإنسان إلى نوع محدد من الفائدة التي يتحولان إليها، وإلى ما تفرضه المصلحة من فصل فادح بين الجوهر الكلي الذي يمثله الإنسان والعابر الجزئي الذي يتمثل في الاستخدام الظرفي له. وتتضمن العبارة الثانية «يا الله.. حيد..» التحول الجارف في نظرة الإنسان إلى نفسه، وإلى الغير، انطلاقا من علاقة بالزمن متصفة بالسرعة. فإلى جانب كونها تعبر أيضا عن تحول الإنسان إلى عابر كبقية الأشياء العابرة والظرفية، فهي تدل على وضع من نودعه في قياس حضوره بما نملكه من وقت نخصصه له في إطار انشغالات متعددة؛ ومن ثمة يصير الإنسان منحشرا في صيرورة من الإزاحة المستمرة للأشياء التي يوزن الوقت المخصص لها بقدر الأهمية التي تتضمنها من حيث الاستخدام.
إن العبارتين معا تعبران عن رؤية إلى العالم في درجة الصفر، ومعنى ذلك أنها لا تشكل تطلعا جماعيا، وإنما وعيا إيديولوجيا يظل عند حدود الكائن، ولكن مع ذلك تؤشر إلى تماثل صرف مع واقع متصف بالتفكك، وزمن متصف بالتسارع لا يحدث فيه التوازن من جهة بين ما نطمح إلى تحقيقه والوسائل المتوافرة لفعل ذلك، ومن جهة أخرى بين ما نطمح إليه والوقت غير المسعف لذلك. ويضاف إلى ذلك أن الرؤية في درجة الصفر هي نتاج غياب تصورات كلية (مرويات سردية كبرى ممكنة) ترسم للإنسان ما ينبغي أن يكون تجاه واقع يتجاوز الفرد، ويحيل الانتماء إلى روابط رخوة. وتنشأ من جراء هذه الرؤية الفردانية المستقطِبة، لا الفردانية المتحررة. فالفردانية الأولى تُبئِّر العالم انطلاقا وفق أناها الخاصة، وتتصوره بوصفه علاقات انطلاقا من تطلعها الخاص، لا التطلع الجماعي، بينما الفردانية الثانية تتأسس على النأي بنفسها عن العالم المفكك، باعتماد حريتها الخاصة، وتنتقي من العالم ما يتلاءم مع الطوية بوصفها حاضنة لقيم إيجابية. وبموجب هذا التحديد للرؤية في علاقتها بالفردانية المستقطبة يمكن فهم عبارتي التوديع المذكورتين بوصفهما قائمتين على الإزاحة التي تجعل من الفرد مزاحا باستمرار داخل العلاقات الاجتماعية ليترك المجال فارغا ليملأ بغيره، أو بأشياء أخرى، وينبغي أن يتقبل كونه شيئا، وكونه ظرفيا في علاقته بالآخر، وأن يكون زمانه مقيسا بمعيار النفع التبادلي، لا الاستعمالي. ومما لا شك فيه أن تحولا من هذا النوع في بنية التعبير التوديعي في الدارجة المغربية دال على هيمنة علاقات إنسانية جديدة طارئة تتمثل في انتفاء البعد الحميمي الذي يؤسس اللحمة بين أفراد المجتمع، وفي إفساح المجال واسعا أمام علاقات ظرفية متغيرة غير مستقرة. وحتى نفهم مسألة الإزاحة المشكلة لمثل هذين التعبيرين ينبغي ربط العلاقات الظرفية المؤسسة لها بالإحساس بفقدان الأمان والطمأنينة؛ الشيء الذي يدفع بالفرد إلى تدبير علاقاته بالآخرين انطلاقا من خاصية الاحتياط التي تجعله يزن كل شيء من زاوية الاستعداد للأسوأ، ومن ثمة لا يصير توقع المصير إلا من خلال التخلص من كل العوائق الممكنة أمام استثمار الوقت، بما فيها الفائض الإنساني غير الممرر من مصفاة الحاجة والنفع الشخصيي .
* 5 يونيو 2015