يصر السيد “عبد الإله بنكيران” على القول بأنه مجرد معاون للملك. لقد قال هذا الكلام داخل الوطن وخارجه. وهو كلام غير مسؤول، وغير مقبول، لا دستوريا ولا مؤسساتيا؛ إذ فيه تنصل واضح من المسؤولية وجهل أو تجاهل للدستور. وبما أن الأمر يتعلق بالرجل الثاني في الدولة، والذي أُسندت له هذه المهمة وخُوٍّلت له هذه الرتبة طبقا للنص الدستوري، فإن في الأمر ما يدعو إلى الحيرة والقلق والخوف على مستقبل البناء الديمقراطي ببلادنا.
إن الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين، فكرا وممارسة. و”بنكيران” يعطي الدليل تلو الآخر بأنه أبعد ما يكون عن الديمقراطية، فكرا وممارسة. وصدق من قال: “من شب على شيء شاب عليه”(ومن شاب على شيء مات عليه). إننا نعرف جيدا أن التنشئة السياسية لهذا الرجل كانت في حضن الاستبداد. فقد اختار، منذ خطواته الأولى في مجال السياسة (أي خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص)، أن يتتلمذ على أيدي رجال “الخزن العتيق”، ومن بينهم “البصري” و”الخطيب”.
فأن يبتدع “بنكيران” مهمة غير دستورية (معاون الملك) ويقحم فيها مؤسستين دستوريتين: المؤسسة الملكية ورئاسة الحكومة، لدليل على ثقافته السياسية غير الديمقراطية وغير الدستورية. لقد وضع المؤسستين معا خارج الدستور بقوله إنه مجرد معاون للملك، وعاد بنا إلى ما قبل دستور 2011، بل إلى ما قبل العهد الجديد. وهنا تكمن الخطورة؛ إذ بدل أن يتطور بناءنا الديمقراطي، كما كان منتظرا(بعد خطاب 9 مارس ودستور فاتح يوليوز 2011)، يعود بنا خطوات إلى الوراء.
وإن أخطر ما في كلام “بنكيران”، حتى وإن كان حمال أوجه، هو كونه يضرب المكتسبات الديمقراطية في العمق. وهي مكتسبات قدم من أجلها الشعب المغربي- بقيادة أحزابه الديمقراطية والتقدمية ومنظماته الجماهيرية والحقوقية وجمعيات المجتمع المدني- تضحيات جسام. وتقارير هيئة الإنصاف والمصالحة شاهدة على هذه التضحيات وجسامتها.
فالاختيار الديمقراطي الذي تبنته الدولة المغربية وأصبح، مع العهد الجديد، من الثوابت، ليس منة ولا منحة؛ بل هو وليد الصراع مع الاستبداد وأذنابه وثمرة من ثمرات هذا الصراع المرير الذي خلف عدة ضحايا وتسبب في كثير من المآسي الإنسانية، الفردية منها والجماعية. ومن المعلوم أن الأحزاب الديمقراطية، وفي طليعتها الاتحاد الاشتراكي، التي كانت تقاوم الاستبداد، لم تكن، خلال سنوات الجمر والرصاص، تعارض الحكومة، بل كانت تعارض، أساسا، النظام نظرا لطبيعته الاستبدادية، حتى وإن حاول أن يخفي هذه الطبيعة بتبنيه لديمقراطية الواجهة القائمة على صناعة الخرائط السياسية وفبركة “النخب” على المقاس.
وقد دخل”بنكيران” معمعة السياسة، في تلك الظروف المتميزة بالصراع حول أسلوب الحكم (في أواسط السبعينيات من القرن الماضي)، مستنجدا برجل المخزن القوي آنذاك، الراحل “إدريس البصري”؛ وبعد ذلك، ستُهيأ له ولأصحابه الظروف لولوج حزب من الأحزاب الإدارية، الذي أصبح هيكلا فارغا بعد أن انتهت المهمة التي أنشئ من أجلها ولم يعد له أي وجود في الواقع السياسي المغربي. إنه الحزب الذي أنشأه رجل المخزن الوفي المرحوم الدكتور “الخطيب”. ويتعلق الأمر بحزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية (المنشق عن حزب الحركة الشعبية الذي أنشأه “أحرضان” و”الخطيب” بإيعاز من أطراف في الدولة) الذي سيتحول، فيما بعد، إلى حزب العدالة والتنمية. ولذلك، اعتبر الخطيب المؤسس الفعلي لهذا الحزب. ولهذا الأمر دلالات سياسية وإيديولوجية وتاريخية عميقة (ليس أقلها أن الحزب ليس إلا واجهة للحركة الدعوية والسياسية المتمثلة في حركة التوحيد والإصلاح ذات الارتباطات “الإخوانية” العالمية)، لا مجال للخوض فيها الآن.
وبما أن الاختيار الديمقراطي قد أصبح من الثوابت، خاصة مع دستور 2011، وأصبح إسناد مهمة رئاسة الحكومة يتم على أساس نتائج صناديق الاقتراع وليس على أساس القرب من المخزن (والأصح من القصر)، فإن ملامح الصراع السياسي وعناصره قد تغيرت؛ إذ لم تعد المواجهة بين المعارضة والنظام (أو على الأقل، لم تعد مباشِرة)، بل بين المعارضة والأغلبية المسؤولة عن تدبير الشأن العام. وهذه “المواجهة” تؤطرها نصوص دستورية؛ وذلك من خلال تحديد اختصاصات كل مؤسسة. فالصراع الحالي بين الأغلبية والمعارضة، سببه عدم احترام هذه الاختصاصات من قبل الأغلبية وحكومتها، سواء تعلق الأمر بتنصل هذه الأخيرة من مسؤولياتها الدستورية أو تعلق بسعيها إلى الإجهاز على حقوق المعارضة. وبمعنى آخر، فإن الصراع قائم، حاليا، حول تفعيل الدستور الذي يصر “بنكيران” على وضعه جانبا.
لقد عرف المشهد السياسي المغربي تحولا كبيرا بفضل الحراك الديمقراطي المتمثل في حركة 20 فبراير التي سرَّعت الإصلاحات الدستورية والسياسية. وهكذا، وضع دستور فاتح يوليوز 2011 حدا للتلاعب الذي كان يحدث، عادة، عقب كل انتخابات عامة. فبتنصيصه على منع الترحال السياسي وعلى ضرورة احترام المنهجية الديمقراطية، كفل الحماية لنتائج الاقتراع المنبثقة من الصناديق؛ مما يقطع مع ما عشناه عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2002 من خروج على المنهجية الديمقراطية، أو ما عرفته الساحة السياسية من موجة ترحال غير مسبوقة، عقب الانتخابات التشريعية لسنة 2007.
وفي إطار احترام المنهجية الديمقراطية التي نص عليها دستور 2011، عين الملك محمد السادس “عبد الإله بنكيران” رئيسا للحكومة. غير أن هذا الأخير يضع نفسه، كما أسلفنا، خارج الدستور، حين يصرح بأنه مجرد معاون للملك. وفي مثل هذا التصريح، نفي للدستور ولكل المبادئ التي يقوم عليها، وفي مقدمها الاختيار الديمقراطي ومبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
فالمسؤولية تقتضي من رئيس الحكومة أن يستوعب اختصاصاته (وهي واسعة في دستور 2011) ويعمل على تفعيلها، لا أن يخرج علينا، كلما طُلب منه أن يمارس هذه الاختصاصات، بكلام لا معنى له إلا التهرب من المسؤولية: إنهم يريدون أن يخاصمونني مع الملك، يقول “بنكيران”؛ وكأن الملك ينازعه في ممارسة صلاحياته الدستورية، أو كأن ممارسة هذه الصلاحيات تضر بصلاحيات الملك أو تسيء إليه. إن كلام “بنكيران” كلام غير مسؤول وغير ناضج وغير لبق.
ومع ذلك، تَفكَّر الدستور – يوم انتفضت المعارضة، حين اتهمها بالسفاهة، وطالبته بسحب هذه الكلمة – وأعلن بأنه محمي دستوريا، وكأن الحصانة الدستورية تنحصر في حماية التفاهة والتعالي و”تخسار الهضرة” الحامل للعدوانية والعنف اللفظي؛ إذ ما معنى أن يرفض “بنكيران” سحب كلمة السفاهة التي استعملها في حق ممثلي مؤسسة دستورية، لها مكانة خاصة في دستور 2011؟ هل هو العناد؟ إنه لا يليق بالمهمة التي يتحملها. هل هي العجرفة؟ إنها لا تليق بمسلم (“إن الله لا يحب المتكبرين”). هل هو عجز؟ بكل تأكيد؛ إذ لو كان لرئيس الحكومة ما يدافع به عن نفسه وعن سياسته، لما لجأ إلى “الْمَعْيارْ والسْفاهة” (بالمعنى الدارجي المغربي)، بغية إسكات المعارضة.
وبما أن المناسبة شرط، كما يقال، فإن انعقاد الجلسة الشهرية الدستورية عشية عيد العمال العالمي، كانت تقتضي طرح سؤال (أو أسئلة) حول نتائج الحوار الاجتماعي. وبما أن”بنكيران” ليس في جعبته ما يقدمه في هذا الباب، فقد اختار، للتهرب من مواجهة الأسئلة التي كانت ستطرح في المحور الثاني للجلسة المذكورة، والتي لا يملك لها جوابا، أن يستفز المعارضة بلغة لا تليق لا بالمؤسسة التي يتحدث من منبرها ولا بالمؤسسة التي يمثلها، ليفتعل بذلك أزمة، يغادر على إثرها قاعة البرلمان، في تجاوز خطير للمؤسسة التشريعية. وهو سلوك يتنافى والأعراف الدستورية والأخلاق السياسية.
لكن احتماءه بالدستور، في هذه النازلة بالضبط ، يؤكد أن ما يهمه من هذا الدستور هو، فقط، ما يستفيد منه شخصيا أو حزبيا (تذكروا أن أول قانون تنظيمي سارعت حكومة بنكيران إلى تقديمه، كان هو القانون المتعلق بالتعيين في المناصب السامية، بينما القوانين المؤسسة والمكملة للدستور، تم تناسيها…) ولا شيء غير ذلك. فأن يردد تحت قبة البرلمان: “أنا رئيس حكومة محمي بالدستور”، يؤشر إلى شيء أساسي، هو كون الرجل يشعر بأنه مهزوز ويحتاج إلى حماية؛ وهنا، يلجأ إلى الدستور- رغم أنه يخرقه باستمرار- ليستمد منه هذه الحماية. وهو ما يذكرني ببعض المواقف المحرجة التي يجد فيها بعض الأشخاص أنفسهم (وغالبا ما يكونون هم السبب في ذلك)، فيحتمون بسلطة وهمية، علَّهم يحولون الحرج (أو الورطة) إلى مصدر قوة: “اعرف مع من كتْكَلَّمْ”؛ دابا نورِّيك شكون أنا” وغيرها من العبارات التافهة.
وإذا أضفنا إلى كل ما سبق، كون الرجل، نادرا ما يتحدث كرئيس للحكومة، وإنما يتحدث، عادة، كرئيس حزب (حتى وإن كان المقام لا يحتمل ذلك)، سواء تحدث إلى الصحافة أو في البرلمان أو غيرهما، ندرك ما أضاعته البلاد وما تُضيِّعه مع هذا الرجل الذي ليس له من صفات رجل الدولة إلا النزر اليسير واليسير جدا، جدا. وقد سبق لي أن بيَّنت هذا في مقالات سابقة.
أتذكر أنني تمنيت (في مقال بعنوان”ملاحظات أولية حول التشكيلة الحكومية الجديدة”، جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، 5 يناير 2012) لحكومة بنكيران، في نسختها الأولى، “النجاح في مهامها، لأن في نجاحها خير للبلاد كلها، وفي فشلها، ضرر للبلاد كلها”. لكن، وبعد ثلاث سنوات ونصف من التدبير للشأن العام، يمكن أن أؤكد أن مخاوفي من تكريس التراجع والإخفاقات، بدل تعزيز التوجه الديمقراطي للدولة، قد أصبحت تتأكد يوما بعد يوم. وبالتالي، فالقول بأن “بنكيران” يسير بالبلاد إلى المجهول، ليس مجرد كلام، بل هو استقراء للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي…ببلادنا.
فالحصيلة كارثية (أو تكاد)، على كل المستويات. ولن تخفي هذه الحقيقة لا استطلاعات الرأي المخدومة ولا البلطجة “البيجيدية” الإليكترونية ولا التهريج الذي يمارسه “بنكيران” ولا المقالات التي يدبجها أمثال “بوعشرين” ولا غير ذلك.
إن بلادنا في حاجة إلى رئيس حكومة يمارس صلاحياته الدستورية، بدل التنصل منها بحجج واهية؛ وفي حاجة إلى رئيس حكومة يعمل على تطوير الممارسات الديمقراطية القمينة بتشجيع الشباب (وغير الشباب) على الانخراط في العمل السياسي والمساهمة في الانتخابات، ترشيحا وتصويتا؛ وفي حاجة إلى رئيس حكومة لا يركب الحلول السهلة التي لا تكلفه مجهودا فكريا، لكنها تكلف البلاد غاليا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي (إضعاف القدرة الشرائية للمواطنين يؤثر سلبا على الدورة الاقتصادية)، بل يبدع أساليب تساهم في تحسين الأوضاع الاجتماعية وليس في تأزيمها…
وفي انتظار أن يكون لنا رئيس حكومة بهذه المواصفات (أو على الأقل، البعض منها)، أعيد التذكير بأن فاقد الشيء لا يعطيه وبأن إسناد الأمور إلى غير أهلها(وهذه مسؤولية يتحملها، بالتساوي، كل من انخدع بشعارات حزب العدالة والتنمية وصوت على مرشحيه، وكل من قاطع الانتخابات، مهما كانت الذرائع)، هو إنذار بقيام الساعة (ولا أقصد، هنا، الساعة التي بشر بها رسولنا الكريم، وإنما الساعة الدنيوية، أي القلاقل التي غالبا ما يتسبب فيها خبراء البنك الدولي بنصائحهم التي لا تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاجتماعية للبلدان المعنية؛ والأمثلة على ذلك كثيرة). ويجتهد “بنكيران” لتوفير كل الشروط والظروف لقيام هذه الساعة، بدءا من تكليف شخص كـ”الوفا” بالشؤون العامة والحكامة (تلميذ “بنكيران” المجتهد في زيادة الأسعار)، مرورا بانصياعه لإملاءات المؤسسات المالية الدولية وإغراق البلاد بالديون الخارجية، وصولا إلى الإجهاز على مكتسبات 2011 في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان…
* الجمعة 5 يونيو 2015