لا يبدو أن للعرب والمسلمين حظ من المهارة العسكرية الأميركية، عندما تجتهد، فهي عادة ما تقدم دروساً غاية في الصغر، في قضايا في منتهى الخطورة، فالدولة الكبرى، القوية، لا تعطي دروساً كبيرة، وقوية، أيضاً في القانون، لكي تسند أسطورتها المادية على جدار العدل.
لربما استنفذ العالم غضبه من العبث الأميركي، من شدة ما ألف قتل العسكرية الأميركية للشعوب في مخافرها وبيوتها وغاباتها، وفي أحياء المدن التي أسقطتها القنابل من خارطة العالم، قبل أن تسقط أمام المشاة. لهذا، لم يعد أحد يهتم بالتفاصيل الكبيرة. ويبدو من مكر القوة أنها تتعثر، أحياناً، في تلابيب الأشياء الصغيرة نفسها، كما لو أن العملاق كوليفير، في رواية جوناتان سويفت، يكتشف، بالعبث القاسي، أصل الحرب في بلاد الأقزام، ويسقط أرضاً. كذلك يقع للعملاق الأميركي، اليوم، في امتحان القوة على محك العقل، الآلة الأخرى التي تتلقى ضربات الإعلام الموجه، حتى يعلن نهاية صلاحيتها.
مرتين اثنتين، هللت الآلة الإعلامية، باعتبارها قاعدة متقدمة في القواعد العسكرية لمقتل زعيم متطرف قتلته المغاوير الأميركية. مرتين هللت الآلة الإعلامية للنصر، بدون أن تمنح العالم، ووسطه العالم العربي والإسلامي، فرصة لامتحان المهارة العسكرية على محك السؤال الأخلاقي الراهن. كيف تسوغ أميركا لنفسها أن تحكم على شخصٍ يعرفه العالم وتصدر الحكم سراً وتنفذه، بدون أن تنتبه إلى أن العملية قتل، وليست حكماً قضائياً؟
في المرة الأولى، لم ينفرد العالم الغربي وحده بالدهشة، وهو يطلع على خبر اغتيال أسامة بن لادن، بتلك الطريقة التي تجعل دولة عظمى، في تقدير التاريخ منذ عالم روما القديمة، وإلى حدود ميلاد العالم الافتراضي، تغتال شخصا، مهما كانت جرائمه، في بيت بعيد، وبدون أسلحة، وفي ظلمة من النص القانوني ومن الكاميرات، باستثناء الموجات ما تحت الحمراء التي يستعملها العسكر.
بدا بدهيا أن تقتل أميركا الرجل الذي قتل آلاف الأميركيين في «11 سبتمبر»، من دون الحاجة إلى حبال المنطق الذي صاغته شعوبها المتراكبة في تاريخ طويل، جعل رجل قانون معروف، اسمه مونتيسكيو، يعتبر أميركا أيقونة الديمقراطية ومستقبلها.
وفي المرة الثانية، ها هي تغتال أبو سياف، وفي ما بين جدران دولة تنهار بالكامل، وتقدم الدليل التصويري على قوتها الضاربة، بدون أن تستبق الضربة بإعلان حكم يبيح، في مراحل التنفيذ، اغتيال العدو الشخص، بدون حرب معلنة.
لم يعد العالم، اليوم، يقف مطولاً أمام الشكليات القانونية، لكي يتساءل إلى أي درجة يمكن أن تكون أميركا الكبيرة كبيرة في القانون الدولي، أو قانون إعدام الأشخاص بالمواصفات القانونية المفترضة؟ فالثأر، في القبيلة الدولية الجديدة مباح، بعنوان الحرب على الإرهاب، وإن تم استعمال المبدأ الإرهابي نفسه، في دخول تراب دولة حليفة، هي باكستان، في حالة بن لادن، ودولة مارقة، هي سورية، في حالة أبو سياف.
وربما يبدو فكهاً أن تطيل، كعربي أو كشرق أوسطي أو شمال إفريقي، النظر في حقوق الزعماء المتطرفين في الموت على سرير قضائي هادئ، وطريقة قتل زعيمين إرهابيين، في الوقت الذي تعلن فيه مواسم الحداد الرسمي، موت شعوب بكاملها. لكن، ما هو غير فكهٍ أن أميركا عندما تجد نفسها في وضعية اختيار سليمة بين أن تحترم العدل في القتل، أو تستسلم لغريزة القوة والثأر، فإنها تختار القتل، مع استعراض سينمائي للحق في الثأر؟ وتنفي ضميرها، كما يليق بأي قوي في الغاب، من حقيقة أخلاقها السياسية، عندما تكون في موقع قوة أمام شخص واحد، وشخص واحد فقط.
وعندما أطلقت أميركا على دول تعارضها الدول المارقة، يبدو أنها نسيت المرآة، وهي تقوم في فاضحة النهار بالقتل، على الرغم من القدرة على التوجه إلى القضاء الذي يفضي إلى النتيجة نفسها في حالة بن لادن وأبو سياف مثلا.
بما قدرت أميركا أن متحف غوانتانامو، المسرح الواسع لخللها القضائي والإنساني، يبرر عدم تكراره من جديد، وانتهت إلى الحل النهائي الذي لا يترك شهودا بعده، وعوّضت هوليوود ردهات المحاكم، وتركت للعماء الانفعالي الدور اللائق به، في تجييش رأيها العام، حتى يصفق أكثر وأقوى للقتل المباشر للأعداء. ولا فرق، حينئذ، بين قرنين من البروتستانتية الإمبريالية القادرة على تشييد دولة أخلاق المسؤولية وشهور قليلة من حياة فصائل داعش في الطرف الآخر من أراضي ليبيا المتوسطية.
ربما لن ينفرد العقل العربي بالاستسلام إلى بداهة القتل الصغير، لكنه سيكون العقل الوحيد في العالم الذي سينتظر، ببلاهةٍ لا توصف، أن تعبر أميركا عن أخلاقيتها في أحكام الإعدام التي تعبر العالم العربي، من أقصاه إلى أقصاه، وسيحتار، كعادته، في كونها لم تتجاوز سقف القلق، مثلا، من الحكم على مائة معارض مصري بالإعدام.
وربما هو قلق أن الإعدام يعلن أمام الناس، في حين كان من الدهاء أن يتم في ليل الكوماندوهات، مع إغلاق دكاكين الضمير الليلي.
نشر بـ «العربي الجديد»
*نقلته نشرة المحرر عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
الجمعة 29 مايو 2015