لن أشغل نفسي بالبحث إن كانت عبارة “الدين المعاملة” حديثا نبويا شريفا أو مقولة فقهية أو مثلا من الأمثال أو مجرد قول شائع. وسواء كانت هذا أو ذاك، فإنها تدل على الأهمية البالغة للأخلاق في حياة المسلم. فالإيمان يجسده حسن الخلق؛ أي حسن المعاملة. وهذا ما تؤكد عليه نصوص كثيرة (ومعلومة) من القرءان والسنة.

وبما أن رئيس حكومتنا لا يفتأ يذكرنا بمرجعية حزبه الإسلامية، وكأن باقي المغاربة المسلمين لهم مرجعية أخرى غير تلك التي يتبناها “بنكيران”، فإننا، وانطلاقا من هذه المرجعية، نود أن ننظر إن كانت أقواله وأفعاله وأحواله تنسجم، بالفعل، مع مرجعيته الدينية، وتجسد، بالتالي، مقولة “الدين المعاملة”، أو أن في الأمر ما يريب.

وما يعطي الشرعية لهذا الطرح، هو غرور الرجل الذي يجعل من نفسه أحد أهم حماة الدين الإسلامي في هذا البلد؛ إذ وصل به الأمر إلى القول في مهرجان حزبه بمدينة الرشيدية بأنه قضى 40 سنة في “التمارة”، دافع خلالها عن دين المغاربة؛ وكأن البلاد كانت في حرب دينية، لم ينجح في إخماد نيرانها إلا “الفارس المغوار” و”القائد الملهم ” “الشيخ عبد الإله بنكيران” (وقانا الله من تبعات قراراته المجحفة وعواقبها الوخيمة). وبما أن الغرور قد وصل به إلى هذا الحد، فدعونا ننظر كيف يجسد هذا “البطل” الخرافي الدين الإسلامي في معاملاته، حتى نرى إن كان زعيم حزب العدالة والتنمية يتمثل الأخلاق الإسلامية الرفيعة أو يعمل بعكس ذلك.

وإذا كان لنا في رسولنا الكريم (ص) الأسوة الحسنة، فإن ما نراه وما نسمعه من رئيس حكومتنا وزعيم الحزب الإسلامي (باحساره !)، لا يمت بصلة لهذه الأسوة الحسنة. ففي الوقت الذي يحث فيه المبعوث بالرحمة إلى البشرية كافة على الحكمة وسمو الأخلاق، كقوله (ص): “مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ”، نلاحظ أن السيد “بنكيران” لا يصوم عن اللغو والقول “الفاحش” إلا مكرها.

ومما يزيد الأمر استغرابا، هو إصراره على الحضور، وبشكل ملفت، في وسائل الإعلام بكل أصنافها وفي التجمعات الحزبية الاستعراضية (أقصد استعراض القوة)؛ ناهيك عن تدخلاته المستفزة والمسيئة إلى المؤسسة التشريعية، التي حولها عن هدفها الدستوري وجعل من قبة البرلمان مكانا “للفرجة” غير المسلية وفضاء للتنابز بالألقاب وتبادل الكلام السوقي. وهي كلها أشياء مذمومة شرعا وعُرفا.

وحضور “بنكيران” الإعلامي ليس، بالضرورة، بحكم المهام السياسية والتدبيرية التي يتولاها. فكم من وزير أول ( رئيس حكومة) مر قبله، لم نكن نسمعه يتحدث إلا لماما. وكم من زعيم حزب (جدير بهذه التسمية) لم يكن يرتاد الساحات العمومية إلا بما تقتضيه المناسبة. وهذا ليس لا ضعفا ولا تكبرا ولا بُخلا ولا…ولا… وإنما تقديرا واحتراما للمقامات. وهذا ما ينقص “بنكيران” الذي يلحق، بتهوره ولسانه الطويل، ضررا بليغا بصورة بلادنا.

ومن تبعات الإكثار من الكلام (ألا يسمى المكثر في الكلام ثرثارا؟) السقوط في الزلات والأخطاء السياسية والأخلاقية، ومنها الفادحة؛ ذلك أن من يَكْثُر كلامه، يكثر سقطه، كما جاء في الحديث الموقوف: “مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ ، وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ… “. فهل نحتاج إلى جهد حتى نكتشف في خطابات “بنكيران” ما يجسد هذا الحديث؟ لا نعتقد ذلك. فسواء تطرقنا إلى سلوكه كزعيم حزب يدعي المرجعية الإسلامية أو كرئيس حكومة في دولة رئيسها أمير للمؤمنين، سوف نكتشف أو نتأكد بأن الرجل لا يملك لا صفات رجل الدولة- الذي يمكن الاعتماد عليه في تدبير أمور البلاد بتعزيز المكتسبات وبناء المستقبل على أسس متينة- ولا صفات الداعية الورع- الذي ليس له من هدف سوى تجسيد القيم الإسلامية على أرض الواقع من خلال قَرْن الأقوال بالأفعال وجعل العبادات الشعائرية والعبادات التعاملية في تكامل وليس في تنافر وتناقض. ويكفي القارئ أن يرجع إلى بعض ما يتفوه به في حق معارضيه، سواء خلال جلسات البرلمان أو في خطبه في الفضاءات العمومية، ليدرك أن الرجل بعيد كل البعد عن تمثل وتمثيل الأخلاق الإسلامية الرفيعة.

وإذا كان القرءان الكريم يحث على المجادلة بالحسنى، فإن السيد “بنكيران” لا يجادل، بل يخاصم ويعادي، ومن ثم يسقط في السب والشتم والقذف واستعمال الكلام النابي؛ كما يلجأ إلى الاتهام والافتراء والكذب… في حق خصومه (وهذا أمر مرفوض شرعا وقانونا وأخلاقا). وبهذا، يضع نفسه خارج “العبادات التعاملية” التي تتجسد في محاسن الأخلاق، والتي تعطي للعبادات الشعائرية معناها الحقيقي.

فإذا كان الدين يتمثل في العبادات الشعائرية والعبادات التعاملية، فإن المنطق (والشرع، أيضا) يقتضي أن لا تصح الأولى إلا بصحة الثانية. فالعبادات التعاملية هي التي تعطي للعبادات الشعائرية قيمتها؛ إذ ما قيمة العبادات الشعائرية إذا لم ينعكس أثرها على سلوك الفرد؟ أليس مطلوبا منا أن نكون صادقين وأمناء ومنصفين ورحماء ومتواضعين، وغير ذلك من الصفات التي تسمو بالإنسان أخلاقيا قبل أن تسمو به دينيا؟ وإذا كان مطلوبا من المؤمن أن يتواضع (من تواضع لله رفعه)، فهل نجد هذه الصفة عند الأستاذ “عبد الإله بنكيران”؟ ما ينضح (وهو “إناء بما فيه ينضح”) من كلامه هو التعالي والعجرفة والغرور والعنجهية…(وهذه الصفات يتقاسمونها في حزب العدالة والتنمية؛ ويكفي أن تسمع أحدهم يتحدث عن الشعب واختياره لهم، ليتأكد لك، حتى من نبرات صوته وقسمات وجهه وحركات يديه ورأسه، مدى الخيلاء والعُجْب في سلوكه)؛ وهو ما يتناقض وما تحمله مقولة “الدين المعاملة” من معنى: أي حسن المعاملة ومحاسن الأخلاق.

أما فيما يخص صفات الصدق والأمانة والإنصاف والرحمة…، فيكفي أن أحيل على بعض قرارات رئيس الحكومة، لنتبين وجود هذه الصفات من عدمها. فما ذا يعني أن يعد الناس ثم يتنكر لهم؟ وما ذا يعني أن يوهم الناس بأنه سيحسن مستواهم المعيشي وظروفهم الاجتماعية، ينما يعمل على عكس ذلك من خلال الضربات الموجعة التي يوجهها لقدرتهم الشرائية؟ وما ذا نسمي التضييق على الفقراء والمحتاجين في قوتهم اليومي بحجة الإصلاح؟ وما ذا يعني أن يعمل على توسيع دائرة الهشاشة بجعل من كان إلى الأمس القريب مصنفا ضمن الطبقة المتوسطة، يلتحق بعتبة الفقر؟ ما ذا يعني أن يعلن رئيس الحكومة العفو عمن نهبوا ثروات البلاد، بينما بنا حملته الانتخابية على محاربة الفساد؟ ما ذا يعني أن يتخذ قرارات تزيد في إغناء الغني وإفقار الفقير…؟ ما ذا يعني أن يغرق البلاد في الدين الخارجي؟ ما ذا يعني انصياعه لإملاءات المؤسسات المالية الدولية؟ هل هذا عدل؟ هل هذا إنصاف؟ هل هذه رحمة؟ هل هذه أمانة؟ وهل…؟ وهل…؟

خلاصة القول، هل يمكن أن نستأمن على نفوسنا وعلى حقوقنا وعلى مستقبلنا ومستقبل أولادنا…، وعلى ديننا، من لا يتورع عن توظيف هذا الدين لأهداف سياسية، منها المعلن ومنها غير المعلن؟ وهل من الأمانة والصدق في شيء أن يتحول العمل الإحساني إلى “رشوة” انتخابية؟ وهل من الرحمة في شيء أن يتم استغلال الفقر والحاجة لأغراض انتخابوية؟ وهل من العدل والإنصاف في شيء أن يتم رهن مستقبل الأجيال القادمة، إما عجزا وإما إرضاء للمؤسسات الدولية، أو هما معا؟…

لقد صدق من قال بأن “بنكيران” يقود البلاد إلى المجهول. فللهم قنا شر هذا المجهول (ولا نقصد، هنا، تمر “الشوباني”، الذي ليس لأصحاب الدخل المحدود من سبيل إليه)!!!

* 25 ماي 2015

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…