تَمَيَّزَ تاريخ العمل السياسي، منذ قرنين من ظهور ظاهرة الأحزاب السياسية ورسوخها، بالانشقاقات. يتشكل حزبٌ ما على قاعدة فكرةٍ عليا ما (الوطنية، الجمهورية، الديمقراطية، الاشتراكية، التحرير، التنمية، المسيحية الديمقراطية، القومية، الإسلام …)، ثم لا تلبثِ الخلافاتُ أن تدبّ إلى داخله، فتوزِّع جسمَه الجامع إلى أجنحةٍ وتيارات متنازعة على الخيارات. وفي لحظةٍ من استفحال
الخلافات تلك، وعجز الحزب عن توفير أجوبة سياسية عن حال التأزّم الداخلي، تنتهي تناقضاتُه إلى انقسامٍ فيه،أو انشقاق تيارٍ – أو تيارات – منه، يعقُبها تأسيسُ حزبٍ أو أحزاب جديدة: تُنَازِعه في
التسمية، أو تستدرك عليها بسِمةٍ مميِّزة، أو تختار الاستبدال تمييزًا قاطعاً.
لم يكد حزبٌ من أحزاب العالم أن يَعْرى من هذه «اللوثة»، حتى لكأنّها قدرُه الذي لا مهرب له منه. ولقد كانت ظاهرة الانشقاقات في الحياة الحزبية – وما برحت – موضوع جدلٍ فكريٍّ وسياسيّ دار، في المعظم منه، على السؤال التالي: هل هذه الحال(الانشقاقات) ظاهرة مَرَضية في العمل الحزبي قابلةٌ للمعالجة السياسية و-بالتالي-للكفّ أو الإنهاء، أم إنها من مُسْتَتْبَعات السياسة وطقوسها العادية التي لا سبيل إلى حدّها الحدَّ النهائي القاطع ؟ ولقد تبادَلَ المجادلون في المسألة الحجَّةَ وما يُضادّها، على نحوٍ بَدَا فيه كلُّ رأيٍ قويَّ الأسانيد، صحيحَ الاستدلال، عند من يقرأ معطياته، إلى حدّ الاعتقاد أنْه قد تحقَّق في ذلك الجدل مبدأُ تكافؤ الأدلة : كما يذهب إلى القول به بعضُ فقهاء الإسلام في مثل هذه الحال.
لا يشبه ظاهرة الانشقاق في الأحزاب سوى ظاهرة الانشقاقات في الأديان. درسنا هذه الظاهرة حين تناولنا المذهبية في الأديان (الإسلام خاصة)، وذهبنا إلى الزعم بوجود اقترانٍ مَاهَويّ بين التديُّن – التوحيدي وغير التوحيدي- والتمذهب، وإلى أنّ أيَّ نظرةٍ معيارية إلى الدين تصطدم بحقيقة أنّ التاريخ – بما فيه تاريخ الجماعات المؤمنة وطرائقُ تديُّنها وتمثُّلها النصَّ والتعاليم وطَقْسَنَتُها عباداتها – لا يطابق، دائماً، بل في الأغلب – تلك النظرة المعيارية. ولعلّ ذلك ما كان في أساس فكرة الاعتراف بتعدُّد التمثُّلات داخل الدين الواحد (المسيحية أساساً)، والاعتراف بتعدّّد الاجتهادات (في الإسلام)، ومما فتح الباب في أوروبا المسيحية – بعد الحروب الدينية – للقول بالتسامح قاعدةً للعلاقة بين المذاهب المختلفة. ولكن، هل تصدُق قواعد التحليل هذه – لظاهرة الانشقاقات في الأديان – على ظاهرة الانشقاقات في الأحزاب؟
يتوقف الجواب عن هذا السؤال على نوع الأحزاب التي يشملها (ذلك السؤال)، إذْ من النافل القول إن الأحزاب ليست سواء في شخصيتها، وإنما تتخالف في الطبيعة وتتباعد، بحيث قد يتعذّر الجمعُ بينهما تحت تسميةٍ واحدة. نقول هذا على الرغم من عِلْمِنا أن الحزب مؤسّسة اجتماعية (سياسية) تؤسِّسها مصلحةٌ مشتركة جامعة، تنعقد إرادةُ المنتسبين إليها – اختيارياً – على تحصيلها، أو على صوْنها وحمايتها، أو على تعظيمها. والغالب على تلك المصلحة أنها لا تتحقق إلاّ من طريق السلطة، من طريق حيازتها (بالاقتراع أو بالثورة)، أو من طريق المشاركة في إدارتها. ولذلك كانت السلطة، دائمًا مطلبَ الأحزاب السياسية وبُغيتَها، ومرْبِطَ فرسها، حتى وإن هي ادَّعتِ العِفَّةَ والغَنَاء، فالأحزاب – في المطاف الأخير – ليست جمعيات خيرية تنصرف رِسالتُها «الإنسانية» إلى الفَناء في خدمة الناس من دون مقابلٍ أو مطلبِ مَغْنَم!
مع عِلمنا أن هذا التعريف هو، على التحقيق، تعريفُ الحزب السياسي، وهو وضْعُهُ الاعتباري في النسق الاجتماعي، إلاّ أنّ الواقع أن الأحزاب السياسية لم تستقم هيآتُها، جميعُها، على هذا المقتضى، فلقد ظلّ قسمٌ كبيرٌ منها، عندنا في البلاد العربية كما في العالم، أشبه ما يكون بمؤسسات عقائدية مغلقة تتنزّل فيها العقيدةُ الأيديولوجية اللاحمة منزلةَ الرابطة السياسية التي تؤسسها المصلحة في الأحزاب التي يُطابِق كيانُها معنى الحزب في مفهومه كما في واقعه التاريخي. وحين يكون حزبٌ ما من هذا الجنس، فإنّ مفهومه- عند مَن يقومون عليه – يختلف تماماً عن مفهوم الحزب لدى من يعرفون وظيفته في المنازعات الاجتماعية بما هو أداةٌ يتوسّلها الناس للتعبير عن المواقف والمصالح. الحزب عند الأخيرين (البراغماتيين) جماعةٌ اجتماعية تربط بينها مصالح لا يتطلب الاجتماعُ على تحصيلها تماهياً في التفكير أو في العقيدة، أما عند الأوّلين (العقائديين) فالحزب جماعةٌ تَلْحمُها أيديولوجيا (عقيدة)، والاجتماعُ عليها يفرض التزامَها الالتزام الكامل، وعدم الخروج عنها باسم حرية الرأي أو ما شاكل.
نحن، إذاً، أمام نمطيْن من الأحزاب مختلفيْن: أحزاب قريبةٌ من معنى الحزبية، كانتظامٍ سياسي في أطر مؤسّسيّة وظيفية في معركة المصالح الاجتماعية، وأحزاب عقائدية يؤلّف بينها الإيمان بأيديولوجيا تتحدد المصالح انطلقاً منها. ما يَجمع بين المنتمين إلى الأحزاب التي من النمط الأول هو البرنامج السياسي، المتوافَق عليه، الذي يسطّر مراحل العمل لتحقيق المصالح الممكنة أو المرغوبة، والأدوات والمؤسسات والواجهات التي يمكن العمل بها، ومنها، قصد تحصيل تلك المصالح كلاًّ أو بعضًا. وليس من موجِبٍ، في الحياة الداخلية لهذه الأحزاب، أن يظل هذا البرنامج ثابتاً، أو أن يُحَاط بالحُرم ؛ فقد تدعو المصلحة إلى تعديله أو حتى إلى تغييره. يختلف الأمر في أحزاب النمط الثاني: البرنامج السياسي، هنا، ليس مشدوداً إلى المصالح وإنما إلى الأيديولوجيا التي تضع هندسةً عليا تقع منها البرامِجُ موقع التصريف المادي (للفكرة العليا). لذلك ليس من مجالٍ للتوافق على شيءٍ قرّرتْه «النظرية» (الأيديولوجيا) سلفاً، ولا من مجالٍ للتعديل والتغيير حتى وإن اقتضت ضروراتُ الواقع والمصالح ومتغيراتُهما ذلك! كلمة السرّ في أحزاب النمط الأول: المصلحة والتوافق، أما في أحزاب النمط الثاني فكلمة السرّ هي العقيدة الجامعة ومطابقة الممارسة للنظرية، العمل للفكر. مبدأ الأولى الواقع ومبدأ الثانية الوعي (النصّ ) يُترجِم هذا الاختلاف نفسَه في الحياة الداخلية لكلِّ حزبٍ من أحزاب النموذجيْن المومأ إليهما، في الداخل التنظيمي وعلاقات أطرافه، وعلاقة العضو بالمؤسسة، كما في النقاش السياسي. في الأحزاب السياسية، القائمة على مبدأ المصلحة والمشتَرَك السياسي الجامع، ما وَقَع التوافق عليه هو المرجع الذي يُحْتَكَم إليه وتتحدد المسؤوليات تَبَعًا له. التوافق ليس الإجماع، لأنّ مبدأَه التنازلات المتبادلة لتوليد المشتَرَك. ولأنه كذلك، أو شيءٌ بهذه المثابة، فإن الحقّ في الاختلاف وحرية الرأي مكفول في المسائل المصلحية التي لا تَعْقِلُها عقيدةٌ عليا من خارج السياسة. عقيدةُ السياسة هي المصلحة، وهذه تُقْرأ من طالبيها قراءات مختلفةً لا قراءةً وأَوْحَدِيّة. لذلك تزدحم الحياة الداخلية لهذه الأحزاب بحيويةٍ سياسية وفكريةٍ مثيرة. وقد تصل إلى حدود التشريع للمنابر والتيارات داخل الحزب الواحد. لكن الصورة تختلف، تماماً، في الأحزاب العقائدية، فهذه لا تعرف التوافق وإنما الإجماع، والإجماع يلغي الفردية وحرية الرأي، ولا ينظر إليها إلاّ بوصفها خروجًا عن الحزب وتحريفًا. لذلك ليس في هذه الأحزاب حيوية أو نقاش سياسي، ولا مكان فيها لرأيٍ معارض أو لحقٍّ في تأويل النصِّ. الحقّ الوحيد المتاح هو تفسير برنامج الحزب للجمهور قصد كسبه. وحتى هذا الحقّ يُقَيَّد، في بعض تلك الأحزاب، بحيث لا ينهض بأمره سوى مَن هُم مأذونون للقيام بذلك!
من الواضح، إذاً، أن الجواب عن سؤال إمكان مغالبةِ ظاهرة الانشقاق أو استحالة ذلك، متوقف على تبيُّن خريطة الحزبية، وهي متنوعة، ومعرفة مَن منها تنطبق عليه أدوات معالجة هذا الداء العضال، ومَن لا يقع منها تحت حكم هذا الإمكان.
* عن موقع التجديد العربي
18 مايو 2015