قلما تحظى قضية جوهرية ذات صلة بالتنمية الوطنية، كقضية الدور المرتقب للمدن، في خضم مناقشة الطبقة السياسية للقانون المنظم لمجالس المدن وهندسة سياساتها وخريطتها التدبيرية بالاهتمام.
والحال أن الأرقام والمعطيات المتوفرة تظهر أن المدينة كوحدة اقتصادية جغرافية أصبحت تلعب دورا محوريا داخل الاقتصاد إلى جانب الفاعلين التقليديين. كل الاقتصاديات المتقدمة تراهن على مدنها لرفع الإنتاج وجلب الاستثمارات، وخلق مناصب الشغل وتحسين تنافسيتها. المدن تحولت لحلبة جديدة للصراع الاقتصادي بالأمس واليوم وغدا. مفهوم المدن الذكية والمدن الرائدة أصبح أساسيا وجد متداول اليوم. إشعاع الدول من إشعاع مدنها الرائدة، وقوة اقتصادها تعكسه ريادة مدنها. تدفقات الاستثمارات العالمية تبحث لها اليوم عن مدن مزدهرة قبل البحث عن المقاولات والبورصات. كما أن المقاولات أصبحت تبحث لها عن مدن رائدة لتضع أوتادها.
النسيج الحضري في المغرب يتكون من أكثر من 351 مدينة، وهو نسيج غزير يشمل أصنافا متعددة من المدن، عدد محدود منها فقط يتوفر حقيقة على مقومات المدينة المتكاملة. أكثر من 70 في المائة من الناتج الداخلي الخام يتم داخل المدن التي يسهر على تدبيرها عدد من المتدخلين.
بعض المؤشرات الاقتصادية المتوفرة تظهر أن المدن مثقلة ديموغرافيا، ولا تنتج من الثروة ما يكفي لساكنتها وهو ما تعكسه مؤشرات الحركية الديموغرافية بين المدن ومؤشر البطالة الحضرية وحجم الاستثمارات التي تستقطبها، مما ينعكس سلبا بشكل عام على أداء الاقتصاد الوطني. من جهة أخرى نجد أن الدار البيضاء التي تشكل قاطرة الاقتصاد المغربي، تحتل فقط المرتبة 84 على سلم ترتيب المدن العالمية على أساس دورها الاقتصادي العالمي.
ما يثير الاهتمام هو أن جل المدن، بما فيها الكبرى، لا تتوفر على مخططات استراتيجية للنمو على المدى البعيد تحدد شكلها الذي ستصبح عليه خلال العشر إلى العشرين سنة المقبلة وتموقعها وطنيا ودوليا. كما أن النسيج الحضري الذي يشكل العمق الترابي للاقتصاد لا يتوفر على خطة شاملة لتطويره، وهو ما يطرح سؤالا محوريا حول الآثار السلبية لتأجيل فتح ورش تطوير المدن المغربية.
تحليل الوضع الحالي يظهر أن المدن لا تتوفر على نظام قانوني يؤطرها ولا على نظام معلوماتي خاص بها، ولا على نظام حكامة موحد مبني على قواعد اقتصادية واضحة للتدبير والتتبع والتقييم والمحاسبة. المحدد الأساسي لتطور المدن المغربية يبقى، بالأساس، وظيفتها السكنية في إطار التصورات التي تضعها وثائق التعمير المحدودة الرؤية والأهداف. كل المدن مطوقة بأحزمة من الأحياء السكنية التي تأتي الواحدة تلو الأخرى، مما يعطي الانطباع بأن المدن تتطور من أجل السكن لا لوظيفتها الاقتصادية وخلق الثروة التي تبقى جد ثانوية. كما أن البرامج المحدودة للتطوير الحضري تقتصر جلها على تحسين البنيات التحتية، وتوسيع الطرقات والإنارة والمداخل على أبعد الحدود في غياب منظور يتعاطى مع المدينة في بعدها الاقتصادي. وهي الإجراءات التي لن تسمح بتطوير المدن المغربية لتلعب أدوارا اقتصادية رائدة.
الوضع الحالي هو نتيجة لمسار مسترسل من التدبير الذي أشرفت عليه وزارة الداخلية لعقود، والذي أصبح من الضروري مراجعته بعد أن أظهر محدوديته. المدن المغربية تحتاج اليوم لمخطط شامل للنهوض بها وكل مدينة تحتاج لاستراتيجية خاصة لتطويرها بحسب خصوصياتها. هذا الأمر يتطلب أولا إصلاحا مؤسساتيا يحدد الجهة أو الجهات التي ستشرف على وضع وتنفيذ هذا المخطط الشامل وعلى تمويله. إنه الجيل الجديد من الإصلاحات الكبرى التي يحتاجها المغرب والتي من شأنها الرفع من فعالية الاقتصاد، وإعطائه نقلة نوعية تسمح له بالتموقع السريع بين الدول الصاعدة. كما أن مخطط النهوض بالمدن يمكن أن يشكل نافذة جديدة لجلب المزيد من الاستثمارات الخارجية، ومكملا لمختلف الاستراتيجيات القطاعية التي يجب أن تصبح لها ترجمة على مستوى كل مدينة، تبعا للأدوار الاقتصادية المنوطة بها.

* عن  جريدة الاتحاد الاشتراكي

      الخميس 21 ماي 2015

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…