يطرح «الإرهاب الدولي» تحديات وإشكالات كبرى أمام المجتمع الدولي برمته؛ بالنظر للتداعيات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي يفرزها؛ فالعمليات التي طالت عدداً من البلدان على امتداد مناطق مختلفة من العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة؛ أكدت أن مخاطر الظاهرة يمكن أن تتجاوز أحياناً مخاطر الحروب النظامية؛ بالنظر لجسامتها وفجائيتها واستهدافها لمنشآت استراتيجية ومصالح حيوية ولخسائرها البشرية الفادحة. فبعدما كانت العمليات «الإرهابية» تتم وفق أساليب تقليدية وتخلّف ضحايا وخسائر محدودة في الفئات والمنشآت المستهدفة؛ أصبحت تتم بطرق بالغة الدقة والتطور مستفيدة من التكنولوجيا الحديثة.
تستغل الجماعات «الإرهابية» كل ما من شأنه أن يساعدها في تنفيذ عملياتها، وقد تأكّد هذا الأمر مع أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 التي تم خلالها تحويل طائرات مدنية في الجو من وسائل لنقل ركاب عزّل؛ إلى ما يشبه صواريخ موجهة نحو أهداف حساسة؛ وما خلفه ذلك من ضحايا وخسائر اقتصادية ومالية فادحة؛ أصابت الولايات المتحدة وكل دول العالم؛ وخلّفت جوّاً من الهلع والترقب وعدم الطمأنينة في كل بقاع العالم.
استفادت هذه الجماعات من مختلف الإمكانات التي تتيحها التكنولوجيا الحديثة؛ وذلك باستثمارها؛ سواء على مستوى التواصل بين أعضائها والترويج لإيديولوجيتها وعملياتها وبرامجها من خلال شبكة الإنترنت.. أو في تنفيذ عملياتها.
وعلى الرغم من إقرار المجتمع الدولي برمّته بخطر الإرهاب، الذي أصبح يحتلّ مكانة بارزة على رأس قائمة الأولويات ضمن مختلف اللقاءات والمؤتمرات الدولية إلى جانب قضايا حيوية أخرى كالحدّ من الانتشار النووي، وتلوث البيئة والجريمة المنظمة، والأمراض الخطرة العابرة للحدود..، لم يمنع ذلك من تطور وتنامي الظاهرة خلال السنوات الأخيرة، ذلك أن التباين المطروح بصدد مفهومه الملتبس وبسبل مواجهته، شكّل عائقاً كبيراً أمام مقاربته بشمولية وفاعلية تسمح بوقف زحفه وانتشاره.
تتضارب الرؤى والمواقف إزاء هذه الظاهرة؛ تبعاً لتباين الخلفيات الإيديولوجية والثقافية والسياسية.. بل إن الأمم المتحدة نفسها لم تستطع بلورة مفهوم متفق بشأنها، وتتعدّد التعريفات بين مؤكد اختزال «الإرهاب» في كل أشكال العنف،ومن يميّز بين العنف المشروع والعنف المحرّم؛ وبين من يركز على «إرهاب» الأفراد؛ و من يميزه عن «إرهاب» الدولة.
أعادت الأحداث الأخيرة التي شهدتها فرنسا، والمتعلقة بالهجوم الذي تعرضت له صحيفة «شارلي إيبدو» بباريس مما أسفر عن مقتل عدد كبير من الضحايا إلى الأذهان ما شهدته الولايات المتحدة الأمريكية من أحداث بتاريخ 11 سبتمبر وما جرّته على المنطقة من ويلات خطرة، في علاقة ذلك بالتضييقات التي مست الجالية العربية والمسلمة في عدد من الأقطار الغربية؛ وتجريم الكثير من حركات التحرر الوطني والخلط المقصود بين الإسلام والإرهاب.
إن هذه الأعمال مرفوضة؛ بكل المعايير والضوابط القانونية والأخلاقية والدينية، والإسلام في غنى عن الجماعات المسلحة والمتطرفة التي تريد تبرير الدفاع عنه بسبل عنيفة.
وكما لا يمكن تبرير الاعتداء والإساءة للأديان بأي مبرر من قبيل حرية التعبير.. لا يمكن أيضاً للعنف والإرهاب أن يحملا رسالة ما؛ كما لا يمكن ربطهما بدين معين، فالأديان السماوية جاءت لأجل نشر السلام والتسامح والمودة بين الناس.
إن مثل هذه العمليات التي ترتكب باسم الدفاع عن الإسلام، هي بمثابة حطب يذكي نار الكراهية تجاه المسلمين والإسلام، وهو ما يجعل منها عاملاً منعشاً للتيارات اليمينية المتطرفة وخطاباتها في كامل أوروبا والغرب بشكل عام.
إن تنامي الإرهاب، هو خطر يواجه الإنسانية جمعاء، ويفرض اعتماد مداخل شمولية وعلى قدر من التنسيق والتعاون، وتجاوز المقاربات الانفرادية التي تأكد إفلاسها في هذا الصدد.
يعتبر الصّراع واختلاف الآراء والثقافات أموراً طبيعية في العلاقات بين الدول والمجتمعات، بل وحتى داخل المجتمع الواحد نفسه، وتقوم الديمقراطية في أحد جوانبها على تدبير الخلافات بصورة بنّاءة وسليمة بما يسمح بالتعايش والتسامح والقبول بالرأي والرأي الآخر.
ويعتبر الحوار المدخل المناسب والأنجع للتقريب بين وجهات النظر وتلطيف الأجواء، ويجد الحوار أساسه في التشريعات الدينية والقوانين المحلية والدولية التي تدعم التواصل بين الناس وتحفّز على السعي لحلّ مختلف المشاكل والقضايا الشائكة عبر التواصل والنقاش البناء بعيداً عن كل مظاهر التعصب والعنف والإقصاء.
إنه أسلوب حضاري يكسّر الحواجز النفسية والثقافية والسياسية القائمة بين الناس، سواء داخل المجتمع الواحد أو بين المجتمعات المختلفة.. ومدخل مناسب لتجاوز سوء الفهم المتبادل والأفكار المسبقة والمواقف العدوانية وتصحيح وتوضيح بعض الأفكار والمعلومات والمعطيات والآراء المتداولة عبر وسائط أو أطراف أخرى والتي تكون معرضة في كثير من الأحيان للتحريف بالزيادة أو النقصان.. ويسمح بتدبير الأزمات والمشاكل بسبل راقية؛ بعيدة عن التشنج والصدام والتّعالي؛ ذلك أن اللجوء إلى العنف والصدام في تدبير الخلافات هو في واقع الأمر إلغاء للعقل..
ويهدف الحوار البنّاء إلى التوصّل إلى نتائج وخلاصات تحظى بقدر من التوافق والقبول بين الطرفين أو الأطراف المتحاورة بصدد موضوع أو مشكلة أو قضية معينة؛ بما يجعله وسيلة للتفاهم وتبادل الأفكار وتجاوز الشك والحذر بين الأطراف المعنية به وبلورة حلول ناجعة وفعّالة للمشاكل والقضايا المطروحة.
وأمام الأصوات المتشنجة والمتطرفة التي تذكي الصراع والتوتر بين مختلف الشعوب والثقافات يتحمل العقلاء في هذا العالم من نخب سياسية وفكرية ودينية.. مسؤولية كبيرة في بلورة أسلوب حضاري للتواصل والحوار كسبيل لتضييق الخناق وعزل الخطابات المتطرفة والهدّامة بمختلف التحديات والمخاطر البيئية والصحية والعسكرية.. التي تواجه الإنسانية جمعاء.
إن تزايد الوعي بهذه المخاطر من إرهاب وأمراض عابرة للحدود وتلوث للبيئة.. والتي تلقي بظلالها القاتمة على مستقبل كوكب الأرض سيسهم بلا شك في تجاوز مختلف المشاكل التي تشوّش على هذا الحوار المفترض وتدعم تعزيز التواصل بين مختلف الشعوب وتوفّر الأجواء الداعمة للتعاطي البناء مع قضايا وأولويات مشتركة.
*عن موقع صحيفة الخليج
16 ماي 2015