وأخيرا وقع ما كنا نحذر منه ونحن نطالب ـــ منذ سنين ــ بتخليق الخطاب السياسي وتجنب خطاب السفهاء؛ لأن السفيه يُحجرُ عليه التصرفُ في ماله، ولا يؤخذ كلامه بعين الاعتبار. ها عي كلمة “سفاهة” تحضر شخصيا لتفجر جلسة المساءلة الشهرية للبرلمان المغربي!
هذا المقال تعرية للسفاهة حتى تخجل من نفسها؛ ولأن الموقف عبثي بمعنى الكلمة، فلا بد أن تجد السخرية، باعتبارها آلية حجاجية، موطئ قدم فيه. يتكون من ثلاث خطوات: 1) سياق إنتاج السامفونية، 2) نص السامفونية، 3) تحليلها وبيان خطورتها. ثم خاتمة في “الحماية” و”الموت”.

1 ــ السياق

في إحدى جلسات البرلمان المغربي المخصصة لمساءلة رئيس الحكومة (شهر أبريل 2015) توتر الجو بسبب إصرار أحزاب المعارضة على المساءلة التفصيلية. كان هدفهم أن يمنعوا رئيس الحكومة من عادته في الخروج عن الموضوع إلى الدعاية الحزبية. ولذلك لم يطرحوا أسئلتهم دُمعةً واحدة مع أحزاب الأغلبية، كالعادة. وحين انتهى السيد رئيس الحكومة من الجواب عن أسئلة الموالاة متطرقا لكل النقط المتعلقة بالموضوع بدأت أحزاب المعارضة في “تقطير” أسئلتِـها، في نفس الموضوع، على الطريقة المعتادة في برلمانات الدول الديمقراطية الغربية. تَحَمَّـل السيدُ الرئيس هذه الطريقة المرهقة على مضض، وذهب إلى المنصة مرة أو مرتين؛ يصل إلى المنصة ويعلن بضَجِرٍ ظاهر أنه أجاب عن السؤال في العرض السابق، ثم يعود إلى مكانه طالبا من السائل التعليق إن شاء. وفي لحظة ما، وبطريقة غير متوقعة ولا مبررة، قال بالعامية المغربية ما صورته بالفصحى: “قولوا لي بربكم: ماذا تريدون…؟ تعيرون بدون داع، و”تقولون كلام السفاهة”، والكلام الخارج عن الطريق” (المحصور من لفظه).
رغمَ الإرهاق بالذهاب والإياب فليس في مجريات الجلسة ما يُبررُ هذه الاتهامات، خاصة وصمة السفاهة. ولذلك فُهم أن رئيس الحكومة يُحيل على النهاية الدرامية التي انتهتْ بها الجلسة السابقة حيث ختمها بتوجيه عبارة ذات إيحاء حنسي إلى إحدى البرلمانيات: “حتى أنا غادي نجاوبك: سمحي لي! ديالي هو اللي كبير عليك!” وانصرف. وقد بينا في مقال سابق المؤشرات القوية التي لا تدع مجالا للشك في قصده الجنسي، وذلك ما فهمه أنصاره الذين قهقهوا وصفقوا بدون حياء، وذلك أيضا ما فهمته المعنية بالخطاب، وجمهور المعلقين على الشابكة. ولا عبرة بإنكاره وإنكار من يدافع عنه، لأنهم في موضع الاتهام. ولو أُخِذ إنكار “الأظناء” بعين الإعتبار لأفلت 99 في المائة منهم من العقاب.
تَـأكَّـدَ من هذه الجلسة، ومما جاء بعدها، أن رئيس الحكومة سكتَ، على مضض، طيلة المدة الفاصلة بين الجلستين، عن التشريح، وعدم التمليح، الذي تعرضتْ له عبارته، وكان يبحث، في الجلسة الحالية، عن أدنى مناسبة لنفث ما في صدره، وتأخرت الفرصة إلى آخر الجلسة بسبب امتناع المعارضة عن التدخل في بدايتها. والذي لم يكن رئيس الحكومة واعيا به هو أن في نفوس معارضيه، من جهتهم، شعورا بالغبن لأنه لم يترك لهم فرصة للرد عليه في المكان والزمان؛ بسبب انصرافه تحت تصفيق الأنصار. التقَتِ الحُرقتان لقاءَ النار والبارود فانفجرت الجلسة! كيف جرى ذلك؟
لم يكن أمام البرلمانيين الثائرين غيرُ خياريْن “أحلاهُما مرُّ”: إما أن يَحْنُوا رُؤوسَهم للتقريع، فيكون ما نطق به الرئيس مقدمةً لسرد معجمه المعهود (وربما نزل من المنصة وعَرَكَ آذانهم، خاصة بعد تأكده من غياب شباط؛ الجن الأزرق)، وإما أن يطلبوا منه أن يسحب الكلمة لتعود المياه إلى مجاريها، حتى لا يقول مستقلا: كانتْ زلةَ لسان! أو افترضوا أنها زلة لسان! رفض الرئيس سحب الكلمة، أي أنه مطمئن إلىى أن المعارضين له سفهاء بقضهم وقضيضهم، لم يستثن أحدا، كما رأيت أو سمعت! بقيت “السفاهة” الخارجة من فم الرئيس معلقة في قبة البرلمان؛ كالهامة تنتظر الثأر لتستريح: المعارضة ترفض تسلمها، والرئيس يرفض استرجاعها/سحبها. ومعنى ذلك أنهم يقولون لسيادته: نحن لسنا سفهاء، وهو يرد: بل أنتم سفهاء. أمام هذا المأزق لا بد أن تسقط على أحدهما! فضلوا أن تسقط على رأس رئيس الحكومة قائلين بأصوات عدة: أنت سفيه، رئيس الحكومة سفيه! ورددوها بإصرار حتى سمعناه يهدد مخاطبيه بالقانون قائلا في جمل مبتورة متناقضة: “هل تتحمل مسؤولية هذا …؟!”. وسمعناه يحتمي بالدستور والقانون قائلا: “رئيس الحكومة يحميه الدستور والقانون!!”.
بعد أن سمع الرئيس ما سمع أحس بالمأزق الذي وضع فيه نفسه، فحاول، خلال ذلك اللغط والصياح، أن يُقلصَ منطقةَ انتشار زلته الخطابية، فقال لأحد أقوى المحتجين عليه: “لا أقصدك أنت!”، ثم عاد وقال له (أو لأحد غيره): “أنت سفيه، أكبر سفيه!”. وحاول إقناع منتقديه بأن ما تفوه به مُكافئٌ لما تفوَّه به الأمين العام لحزب الاستقلال في حقه من تدعيش وصهينة، وما داموا لم يحتجوا على تدعيشه فليس من حقهم أن يحتجوا على تسفيههم! قال لهم ما صورته: لا بد أن تدفعوا الثمن..!! (“لا بد تخلصوا”). وهذه حجج لا تصمد للنقد، بل كانت تعبيرا عن اضطراب الرجل أمام رد فعل قوي لم يكن يتوقعه. وعند هذا الحد اضطر رئيس الجلسة، وهو نفسه رئيس البرلمان، إلى رفع الجلسة. فرفع الرئيس يديه متضامنا مع أنصاره الذين أطلقوا مدفعية الانسحاب: التصفيق.

2 ـ نص السمفونية

غادر رئيس الحكومة قبة البرلمان تحت تصفيق نواب حزبه،كما وقع في الجلسة السابقة، وتوجه إلى أنصاره، في مكان آخر، بخطبة انفعاليه حاولَ فيها تبرير تلفظه بكلمة “سفاهة” في البرلمان. كان صوتُ السفاهة ومشتقاتها ما زال يرن في أذنيه، فولَّد منها نصا لا نظير له في اللغة العربية، أي النص الذي يضم أكبر عدد من كلمة سفاهة ومشتقاتها. قال، غفر الله له، وحفظ المغر ب من نتائج خطابه:

1) “السفهاءْ (1) مْشاوْا تَـيْـأوْلُوا [يتأولون] لَكلامْ دالي، على ما لا يمكن أن يخطر على بالـ[ي]، في البرلمان،
2) السفهاء؛ أصحابُ
3) السفاهة، والذين لا يمكن إلا أنهم يعيشون في
4) السفاهة، ويتكلمون بِـ
5) السفاهة، ويتعاملون فيما بينهم بِـ
6) السفاهة، أولئك
7) السفهاء… ساعتين [ساعتان] ديالْ اللقاء! ما لْقَاوْا ما يشدوا فيها [لم يجدوا ما يمسكون به]، أُ شدوا [فأمسكوا] فْواحدْ القشرَة ديالْ البنانْ خاوية، أُ زلقوا [وزلقوا] فيها. هذا الشي اللي كاين! [هذا كل ما في الأمر!]. “هادوك
8) السفهاء، ?ـالوا لي: الناس ناضوا ليهم [نهضوا لهم] فَ الفايسبوك… ماكَنعرفْ [لا أعرف] داك الفايسبوك،?ـالوا لي: المواطنين ناضوا لهم”.
ثم حسم بلغة صارمة منتصرة: “انتهى الكلام! … “انتهى الكلام! القضية شدات”. وصفق الحاضرون انتشاءً بخطابٍ لا شك أنه وافقَ أذواقهم ومستوى أخلاقهم وعقولهم!
شرب شرب الرئيس كأس ماء، ثم توقف مسترجعا أنفاسه، مغيرا لهجته، منتقلا من إدانة الخصم إلى طلب ظروف التخفيف لنفسه، قال: “لأنه لو كان الحياء(أ)، لو كان الحياء(ب): وَخَّا [أي: حتى ولو] يْجي للبال هذا التأويل تُعْرِضُ عنه! حشومة(ج)! تْشَدُّوا [تأخذهُ] وتْكبْروا! آش كدير [ماذا تصنع؟] آسي! [يا سيدي!]، ولاَّ ألَـــلاَّ [أو: ياسيدتي]؟ عيبْ… افترضْ أنها زلة لسان، افترض…!، تَمْشي تبدا تَاتْ [وحرك يديه بعصبية]… الناس تيحشموا (د)! حنا راه فينا الحياء(ه)! حنا كنا تانتكلموا على الأحزاب! ما علاقة الأحزاب بأشياء أخرى؟ !”.
وفجأة عاد إلى لغة السفاهة رابطا أول كلامه بآخره: “ما هذا الكلام، يا معشر
9) السفهاء(9)، المرتزقة، طلاب المناصب، شتان بينكم وبين المرأة المغربية الحقيقية… “.
(مصدر النص: https://www.youtube.com/watch?v=0RI1evlfO00)

3 ــ تحليل

3ــ1ــ ملاحظات مدخلية
3ــ1ــ1ــ تغيير الحجة
تخلى السيد الرئيس في هذا النص عن الحجة التي دَفَــعَ بها، ودابع، في البرلمان، فلم يشر إلى شباط من قريب أو بعيد. توجه مباشرة إلى الجرح الذي ظل يؤلمه: التنديد بعبارة: “سمحي لي! ديالي هو للِّي كبير عليك”!”. لا شك أنه انتبه، أو نُبِّه، إلى أن الاختباء وراء شباط لا يستر ضخامة زلته، من جهة، ولا يبرر تعميم الخطاب على الجميع من جهة ثانية. فأبسط دروس القيادة عدم تعميم اللوم والعقاب. وهذه هي الوصية التي يودع بها أساتذة التربية الخاصة وعلم النفس التربوي الطلبةَ الأساتذة قبل توجههم لممارسة المهنة.
وينبغي للقارئ غير المغربي أن ينتبه إلى أن السفاهة في الدارجة المغربية لا تطابق السفاهة المعروفة في الفقه (سوء التصرف في المال)، وإن كانت أختا لها، بل تتجه إلى أحد تجليات السفه وهو خرق قواعد الحياء والحشمة، وهذا سر الجرح الذي فتحه الرئيس وهو يؤكد على اتصافه (ومن والاه) بالحياء والحشمة، بعد كل تلك السفاهات!! وهذا مما يدخله القدماء في باب: “كاد المريب أن يقول خذوني”.

3ــ1ـ2 ـ ملاحظة في البنية النصية

عندما بلغ التلمظ بالسفاهة قمته، واحمر وجه الخطيب أشد ما يكون، صفق المنتشون بالوصلة الخطابية، وارتاح الرجل إلى ان “دَفْعَه” حقق هدفه، فتوقف عن الكلام وشرب كأس ماء، ونزل بالخطاب إلى مستوى طلب ظروف التخفيف إن لم تقتنع المحكمة. تحدث عن الحياء والحشمة التي وهبه الله هو وقومه. ولام خصومه على عدم التماس العذر له بافتراض أن ما صدر عنه زلة لسان!
وهذا أمر غريب من وجهين: الوجه الأول تسمية ما حدث زلة لسان، والثاني طلب التعفف! فالتعفف يتطلب أن يكون صاحب الزلة عَفَّ اللسانِ، مُتحفظا يراعي التخاطبَ بالحكمة والموعظة الحسنة. فلو كان عف اللسان أصلا، بعيدا عن المماحكات، لما أثار المتلقون زلته الخطابية إلا كنكتة تروى لتُضحك. ليس من حق الرجل أن يطلب من خصومه التعفف، لأنه لا يتعفف، والحجة هذا النص الذي يدل على أن للرجل معنى أخر للحياء والحشمة غير ما تواضع عليه الناس: فأي عفة، أو حشمة، أو حياء، عند من يقول لشركائه في تدبير الشأن العام (أحب أم كره): “حنا راه فينا الحياء … يا معشر السفهاء والمرتزقة”. لا ينعت الناس، على الإطلاق، بالسفاهة والارتزاق إلا من استرخص عرضه، وبعبارة القرآ الكريم “من سَفِهَ نَفْسَه”. لقد نسي الرئيس أنه إن استرخص نفسه نطق بفم واحد ورُد عليه بعشرات الأفواه، وضاعت حماية الدستور والقانون لصفته، لأنه هو من أهذرها.
3ــ1ــ3ــ إنجاز صوتي
أول ما يلاحظ هو البنية الصوتية الفضائية لهذا النص، فقد كرر الرئيس لفظ سفاهة ومشتقاته تسع مرات تأنيسا للسفاهة الأولى التي طُلب منه سحبها، وتأكيدا لها. وبذلك ارتفع عدد السفاهات إلى عدد الوصايا العشر. وكأنه يقول: من لم تكفه سفاهة أعطيته عشرة! “عطا الله الخير!”.
وهكذا يكون السيد رئيس حكومتنا قد حقق لنا، نحن بلاغيي المغرب، رقما قياسيا في حشر أكبر عدد من كلمة “سفاهة” ومشتقاتها في فضاء نصي ضيق، أي أنه سَفَّه الخطابَ السياسي أكثر مما سفهه أي خطيب عربي قبله، من العصر الجاهلي إلى الآن، والأعراب بالباب،كَذِّبُونا أيها المصفقون إن استطعتم. ومهما تحاملنا على الوزراء الأولين الذين احتلوا موقع رئيس الحكومة، من الاستقلال إلى الآن، ومهما اختلفنا من السياسات التي كلفوا بتنفيذها، فإننا لا نستطيع أن ندعي أن أحدهم سبق رئيس الحكومة إلى ما يقارب هذا الإنجاز الذي لا نطلب تسجيله في أي دفتر.
ومن الأكيد أن من سيوزع هذا النص موسيقيا سيستجيب لذوق المصفقين الذين سحرتهم لفظة “سفاهة”، فيكررها لهم عشرات المرات تجاوبا مع أذواقهم وحاستهم الفنية!! وبذلك سيصبح المغرب، لا قدر الله، مرجعا في هذه الموسيقى …

3ــ2ــ القيمة الحجاجية لسمفونية السفاهة

يعتبر هذا الخطاب الذي يسعى رئيس الحكومة في نشره بالمغرب، مُقتديا بوجدي غنيم وأمثاله من خطباء الإخوان المسلمين وشيوخهم، خطابا فاشلا من الناحية الحجاجية (المنطقية والأخلاقية). بل هو فاشلٌ حتى بالنسبة للهدف الذي توخاه هو نفسه منه! وحجتنا على ذلك أنه أوصله إلى نتيجة غير التي توخاها: ففي حين كان يتوخى من ذكر كلمة “سفاهة” (في الجلسة الثانية) شِفاءَ الغليل من حُرقة زلته في الجلسة الأولى (قصة الكبير) قام بنشرها على أوسع نطاق، فكبَّـرها من حيث يروم تصغيرها؛ فمن لم يسمعها في المرة الأولى سمعها في المرة الثانية! بل عمت أصداؤها ربوع العالم بعد أن أوقفت البرلمان:
ـــ لماذا توقف البرلمان المغربي؟
ـــ لأن رئيس الحكومة نعت المعارضة بالسفه، ورفض الاعتذار.
ـــ ولماذا نعتها بالسفه؟
ـــ لأنها نددت بعبارة جنسية غير لائقة ختم بها الجلسة السابقة.
ويبدأ البحث عن “الجملة الجنسية”، وتفسير سياقها وحيثياتها، ومجالها التداولي، والجهة الموجة إليها، وتلقي الجمهور لها. ثم السوابق المماثلة لها في لغة الخطيب، من قبيل قوله لفريق حزب الاستقلال: “حشيان الهضرة”. وما معنى الحشيان، ومن أي مجال تداولي…؟ وما هي ثقافة الخطيب؟ وما علاقة هذا الخطاب بالإسلام…؟ ومستواه الثقافي عامة؟
أما قول سيادته بلهجة انتصارية مفتعلة: “انتهى الكلام! شَدَّاتْ”! فمجرد استغفال لمخاطبيه، وضحك عليهم! حاول إيهامهم أنه كان يتوخى من تسفيه الخطاب إثارة الرأي العام على المعارضة، وقد تحققت الإثارة “حسب ما قيل له” عن الفايسبوك! إذا كان هذا هو المسعى فهو بئيس، وإن كان غيره فنود شرحه: ما هي تلك التي شدات؟! وكلمة “شدات” و”ارم الشبك على ربي” من الكلمات المستعملة في مجال لا نود الخوض فيه.
وأنا أرى في هذا الخطاب القائم على شق المجتمع والجري إلى الأمام، وإيهام الأتباع بتحقيق هدف لا يرونه… أراه سيرا بالعدالة والتنمية إلى النتيجة التي قادَ “الشاطرُ” المصري إخوانه إليها. وستعلمون ما أقول لكم، كما علمه من سبقكم، ولكن بعدَ فَوَاتِ الأوان!

شق المجتمع

كلام رئيس الحكومة ـــ في هذه السامفونية الإخوانية المتعالية ـــ فاشل كخطاب سياسي لأنه يخرج من مجال المشاورة والمحاورة (التي هي لب الخطاب السياسي) إلى المنافرة الموصلة إلى القطيعة. ولذلك فهذا النص ينتمي مضمونا إلى فن الهجاء والمنافرة والمفاخرة. فهو يقول صراحة: “أنتم” جميعا سفهاء مرتزقة وطالبو مناصب، و”نحن” أصحاب حياء وحشمة صراحة، وأصحاب قضية وزهاد (بالتقابل مع الارتزاق والطمع)! هكذا يشق رئيس الحكومة صف المواطنين، ويقسمهم إلىى أشرار وأخيار. وما على الأخيار، والحال هذه، إلا رفْعُ سيوفهم لتطهير الوطن من الأشرار! فأي معنى آخر يمكن أن يتصف به التطرف أكثر من هذا؟ ما هو حكم السفهاء؟ حكم السفهاء الحجر، وحكم المرتزقة السجن، أو القتل!

المرأة الحقيقية والمزورة

في إطار هذا الشرخ في البنية الوطنية تحدث رئيس الحكومة عن المرأة المغربية “الحقيقية”! ونحن نتسلءل: ما هو مقابل “المرأة الحقيقية”؟ مقابلها مفهوميا هو “المرأة المزورة”. فهل نطلب منه، بصفته رئيس الحكومة، أن يبحث عن الجهة التي تمنح البطاقات الوطنية لنساء غير مغربيات حقيقة؟ لن نفعل، بل نكتفي بتنبيهه إلى أن خطابه يفوح برائحة إدريس البصري الذي ألحق السرفاتي بالبرازيل. أما النسبة الحقيقية لهذا الخطاب الذي يقسم المغربيات إلى “حقيقية” و”مزورة” فهي الأفكار القطبية التكفيرية، أفكار الظلام والقتل.

خطاب جاهلي

هذا خطاب جاهلي أنتجته “أيام العرب” وأنتجها (أيام العرب = حروبها)، ثم جاء الإسلام فذبلت العصبيات بعد ازدهار موقت، وحولهُ شعراءُ النقائض إلى فن مسرحي للفرجة: أصبح الفرزدق وجرير صديقين يتهاجيان ثم ينصرفان على نفس الراحلة! يُعَيران بعضهما وتنتهي المهاجاة دون أن يُمتشق سيفٌ، أو يراق دم، إذ صار الناس يصفقون للصور الشعرية، وهذا ممكن في مقاماته.
ولعل البرلمانيين الموالين للرئيس الذين يصفقون لخطابه الهزلي والفاحش اعتقدوا أنهم عادوا إلى المربد، أو انتقلوا، على الأقل، إلى جامع الفناء حيث كان الفنانون الشعبيون يسخرون (بذكائهم الفطري) من العصبية العرقية: فيركب الشلح على العروبي ويُثبِّتُ على رأسه أذني حمار حتى يعتقه أصحابه الأعراب (بدفع قدر زهيد من الريالات)، ثم يركب العروبي على الشلح حتى يعتقه أصحابه، وتنتهي اللعبة بالتصفيق!
صح النوم! أيها البرلمانيون، أيها الأنصار المتحمسون لما لا يُتحمسُ له! لا تصفقوا للسفاهة والفحش، وكل صور العنف اللفظي، فالتصفيق طريق للعنف المادي! اتعظوا بمصير من سبقكم إلى هذا الخطاب العشائري البغيظ. لا تراهنوا على الجهل والأمية والفقر والحشد، فالذين يصفقون لكم اليوم هم أولُ من سيقذفكم بالحجارة عند المنعرج القادم.
خاتمة: الحماية والقتل!
ما معنى “رئيسُ الحكومة محمي بالدستور والقانون” ومهدد بالقتل؟

1) حين قال أحد النواب، أثناء الصخب المذكور: “رئيس الحكومة سفيه”!

رد عليه بالقول: “رئيس الحكومة محمي بالدستور، ومحمي بالقانون”.

هذا جواب حشوي، لا يفيد معنى يخدم المقام الذي قيل فيه. ولكنه يدل ـــ رغم خوائه الظاهر ـــ على جود عائق ذهني يحول دون تواصل رئيس الحكومة مع: أنت نائب فقط، أنت صحفي فقط…الخ. فما يضمنه الدستور والقانون لصفة “رئيس الحكومة” هو نفسه ما يضمنه لكل موظفي الدولة، من أول السلم إلى آخره: يضمن له أجرا مقابل عمل (وبعض الموظفين يقاضون أكثر من أجره)، ويضمن له شروطا وإمكانيات تناسب الوظيفة التي يقوم بها، حسب الإمكان (ومما تضمنه الصفة لرئيس الحكومة السكن الوظيفي، أو التعويض عنه؛ عشرين ألف درهم. وليس من الرشد أن يعطل السكن الوظيفي ويتقاضى التعويض عنه! مثلا). فما هو الشرط الذي اختل في تلك الجلسة حتى احتاج الرئيس للتذكير بصفته؟ هل يعتقد سيادته أن من متطلبات وظيفته، وشروط تحقيقها، المسُّ بكرامة مخاطبيه؟

2) من حين لآخر يتحدث رئيس الحكومة عن الاستعداد للموت في سبيل الله. وهذا أمر غير مفهوم من ناحيتين:

أولاهما أننا نعلم من تاريخ الرجل أنه لم يطالب بهذه الشهادة عندما كان باب السماء مفتوحا لتلقي هذه الطلبات! بل إن تسجيل جماعته في لائحة الانتظار هو الذي نقله من صحبة وصحابة عبد الكريم مطيع إلى كنف عبد الكريم الخطيب، بعد إطلالة من شق الباب على ساحة حزب الاستقلال. وهذا يحمد له، على كل حال. لأنه أخف الضررين.
وثانيها أن الوضع المغربي الحالي يتطلب بذْلَ العقل والفهم والذكاء والإبداع وليس الأرواح. فإن أعوزته هذه الكفاءات فما عليه إلا أن يخلي المكان لمن مازال مبتهجا بالحياة، من حزبه. ولا يجر الحزب إلى مأزق لا مخرج منه.
أخشى أن يكون هذا الخطاب السوداوي الذي هيمن على فلول الإخوان في ربوع العالم بعد مأساة الفرع المصري الأم، خطاباً مجازيا تحريضيا للشباب: من قبيل قول عبد الله نهاري للشباب الجامعي بأكادير: “أنتما ما عندكم دويرة ولا وليدات”، أي لا شيء يمنعكم من الموت في سبيل الله، وذلك بعد أن قدم مقابلة بين هدف ظاهر (بشار الأسد) وهدف مضمر (x). أخشى أن يقوم الشباب بتخريج هذا المجاز على الشكل التالي: لو كنت في قوتكم وتخفُّفكم من المهام لطلبت الشهادة ، والهدف محدد سلفا (السفهاء، الفاسدون، النسوانيات [النساء غير الحقيقيات]، العفاريت والتماسيح…الخ).
حين يلطم الشيعة وجوههم، ويضربون صدورهم، ويشدخون جماجمهم متصايحين: يا لتارات الحسين! أسألهم: ممن ينوون أخذ هذه التارات، وقد مضى القاتل (يزيد) والمقتول (الحسين) إلى رحمة الله وعذابه؟ فيرفضون الجواب عن هذا السؤال، ولكنهم لا يكفون عن تلقين أبنائهم كراهية جهة معينة، هي كل من ليس شيعيا.
نفس الشيء يمارسه القطبيون الذين بنوا تصورهم على جاهلية القرن العشرين، معتمدين “الاستعلاء” و”العزلة الشعورية” مَدخَلا للانفصال عن المجتمعات. من هذا الشعور جاء نقل التكبير من ساحة القتال مع الكفار إلى التظاهرات المدنية. فحين يعلن زعيمهم الرغبة في الشهادة يغلي الدم في عروق الشباب غير الناضج فيصيح أحدهم: تكبييييير! فيرد عليهم الجمهور بانفعال متحرقا لسفك دماء الجهة الأخرى التي لا ترفع هذا الشعار…الخ. ضد من يكبر هؤلاء؟ ونحن جميعا نكبر عشرات المرات يوميا؟ (ومن حق من لا يريد أن يُكبِّرَ ألا يُكَبر، سواء كان له معتقد آخر أو بدون معتقد أصلا، سيظل مواطنا ما دام يؤدي التزاماته). فما معنى أن يرفع حزبٌ سياسيٌّ شعارا دينياً مكرساً تاريخياً للجهاد ضد الكفار؟ ما معنى “تكبيييير ” في مدرجات الجامعة في عيد العمال؟

اتقوا الله في المغرب، وفي أنفسكم.

محمد العمري. من السان بونوا في المحيط الهندي.

5/15/2015

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…