مما يصادفني- في تفكر الأدب- تياراتٌ فكرية تعتمد المؤسسة مفهوما مركزيا في فهم فعالية الممارسة الأدبية، وما كنت لأقلق، لو أن هذا الاعتماد الفكري والمنهجي نظر إلى المفهوم من زاويته الإشكالية غير المحسومة، بيد أنني أجدني في موقف المستغرب حين يصير اعتماد هذا المفهوم مؤسسا على يقين قطعي. وينبغي- هنا- عدم إلحاق استغرابي هذا بالتيارات الفكرية التي تناهض المؤسسة أينما تجلى حضورها، وإنما عدّه نوعا من الحوار الهادف إلى إبراز الإشكال، والتبعات النظرية التي تترتب على عدم تبين مزالقه. ففي نظري يعد القول بكون الأدب مؤسسة داخلا في باب القياس الفاسد، والإسناد غير المقبول، فهو يجمع بين ما لا يقبل الجمع أصلا.
أعرف أن هناك العديد من الدراسات الغربية التي تناولت موضوع المؤسسة الأدبية، التي أكدت على صلاحية التفكير فيه، وإمكان اتخاذه سبيلا لمعالجة بعض الإشكالات المتعلقة بعلاقة الأدب بالتنظيم الاجتماعي بوصفه إنتاجا رمزيا.
وقد فعَلتْ ذلك ظنا منها أن كل ممارسة – مهما اختلفت طبيعتها- لا بد لها من أن تمرر من خلال اتصاف التقنيين، بما يقتضيه من استضمار لمفهومي: السلطة بعدِّها موجهة وآمرة (الإجبار- الإرغام- الامتثال)، والهيمنة الرمزية بصفتها تنميطا فكريا (التماهي- التبني- التمثل).
كما أنني أعرف معرفة يقين أن أصول هذا الربط تعود إلى بدايات النقد الثقافي مع أقطاب مدرسة فرانكفورت من أمثال هوركهايمر، وأدرنو، وماركوز، والتطورات التي لحقت أعمالهم في ما بعد، خاصة في القارة الأمريكية الشمالية.
لكن ما يثير الالتباس هو الربط الآلي بين المؤسساتي والأدبي، من دون تفكر الإشكالات التي تترتب عليه، ولا أستثني في هذا الأمر كل تفكير مرن، بما في ذلك تصور رينيه وليك الذي يطبق مفهوم المؤسسة على الجنس الأدبي، أو تلك التصورات التي ترى في كون الأدب يخضع في إنتاجه لبنيات سوسيولوجية، أو يترجم علاقات القوة، بما يعنيه ذلك من استضمار للسمت (بورديو). ربما كان الأمر مقبولا إذا ما فحص في مجال الثقافة، أما أن يتم ذلك في مجال الأدب فأمر يدعو إلى التريث. وكل افتراض عكسي يدخل صاحبه في التمحل، أو يجعله متنطعا متجنيا.
أكيد أن الكثير من الدراسات الغربية – كما قلت سابقا – تذهب هذا المذهب، غير أن ذلك لا يعد مدعاة للتقاعس عن تقليب النظر في الإشكال؛ فالخطأ في التصور لا جنسية له، وكذاك الصواب.
ولنبدأ أولا بالحديث عن قبول الثقافي لأن يكون مؤسساتيا، فهو غالبا ما يعود في إنتاجه إلى العامة، ويرتبط بالاستجابة إلى ما تمليه الكتلة من إرغامات، ومن دوكسا، وتقاليد، بما يفيده ذلك من تداخل مع التحريف أو الاستخدام من قبل السلطة بتوسط من قبَل محافل مسؤولة عن الإنتاج الرمزي وموجهة له بفعل ما تتمتع به من هيمنة رمزية تُشرعِنُ أحكامها.
يضاف إلى ذلك علاقة السلطة بالتحكم في وسائل الإنتاج الجماهيرية وتوظيفها على النحو الذي يجعلها خادمة أهدافها الإيديولوجية.
هنا فقط وفقط يبرز إمكان البعد المؤسساتي، وفعاليته في استيعاب الإنتاج الرمزي وتوجيهه.
لكن تصير المشكلة أكثر بروزا حين يحدث الخلط بين مخصوصية الإنتاج الأدبي وما له صبغة ثقافية عامة جماهيرية.
قد يُعترض على هذا الأمر بالقول إن الممارسة الأدبية تنتمي بدورها إلى الثقافة، ولا أظن أنني جاحدٌ لهذا؛ فالأدب لا يمكن أن يكون إلا إنتاجا رمزيا، بيد أننا ينبغي أن نميز هنا بين نوعين من الإنتاج الرمزي: ما له طابع كتلوي جماهيري، وما له طابع شخصي فرداني؛ ومن ثم نكون أمام نوعين من الثقافة: نوع عام، ونوع خاص. وكل نوع من الثقافتين له صلة مختلفة بالمؤسساتي.
فإذا كانت الثقافة العامة تتتسم بنوع من التصادي معه، فإن الأدب يبني علاقة تتصف بالتعارض الجذري مع المؤسسة لماذا؟ لأنه نتاجٌ فرداني، بما يعنيه ذلك من جنوح نحو المغايرة. ولا تتحقق هذه المغايرة إلا بخرق القواعد التي هي من سمات كل ما هو مؤسساتي.
صحيح أن الأدب ممارسة اجتماعية، لكنه يختلف- من حيث فعاليته- عما هو ثقافي جماهيري مُنتَج في حضن الفلكلور، وعلة ذلك انقلابه على علاقات القوة، وعلى رمزية الممارسة الاجتماعية، بل لا يكون الأدب أدبا إلا لأنه يتخذ تجاه هذه الممارسة مسافة نقدية.
وبفعل انقلابه هذا يعمل على التمسك بحريته، بل بخلقها على هواه، وبخلق قواعده الخاصة به (شلير)، ويجددها باستمرار. وبفعله هذا يكون مضادا لكل تنظيم مؤسساتي يتضمن خاصية الامتثال، وعلينا أن نتذكر أن الشعراء لاحقتهم اللعنة بسبب م كونهم لا يمتثلون لما يمليه عليهم المجتمع، كما علينا أن نتذكر رفض غولدمان أن تعكس الرواية رؤية ما إلى العالم بسبب من كون الوعي فيها يظل فردانيا مضادا لما هو رؤية جماعية. كما ينبغي أن نفهم أن الهدف الأسمى لكل مؤسسة يتمثل في التثبيت،والصرامةِ غير المتساهلة التي تضمن بقاءها.
وهدف من هذا القبيل يجعل الممارسة الأدبية على النقيض منه، مما يضعها دوما خارج مدار الامتثال لما هو مؤسساتي؛ فمن طبيعة فعل الكتابة تنافيه كليا مع كل تكرار (دولوز)، ومع كل تطابق مع أي منظومة قائمة على التصنيفات الجامدة، ومع أي توجيهات آمرة.
وتعليل ذلك مرده إلى سبب جذري يتعلق بتكوين الأدب تاريخيا؛ فمن محدداته التكوينية أنه لا يقام على احتذائه نموذجا سابقا على الفعل الحيني الخاص للكتابة، وإنما يقام على الحرية، بل على إبداعها في أشكالها الخاصة والجذرية (ماريو يوسا باركاس: دفاتر دون ريغو بيرتو)، وبما يجعلها مناقضة للكيتش (ميلان كونديرا: كائن لا تحتمل خفته)، هذا إلى جانب قيام الأدب على إعادة تصنيف ذاته قياسا إلى تراكمه الخاص (ألبرتو مورافيا: الانتباه)، واستئناف رمزيته (غابرييل ماركيز: استئناف رواية «ليس للكولونيل من يكاتبه» لرواية «في ساعة نحس»).
غير أن هذه الحجج التي يمكن ترتيبها داخل خانة الحرية الجذرية قد تصطدم بحجة كون الأدب يخضع لتنظيمات الكتاب، ودور النشر، والتنصيبات الرمزية من قبيل الجوائز، ومنح الشواهد الفخرية. .. الخ، بيد أن هذه الحجة نعدها حقا أريد به باطلا مريبا؛ فالأمر هنا له صلة بما نصطلح عليه بالمحفل لا بالمؤسسة.
ولا بد من أن نفتح- هنا- قوسا حتى نميز بين الاثنين؛ فالمؤسسة تجريدية وذات صبغة معنوية، ولا تقبل التشخيص، فهي تتصف على الدوام بكونها ظلا من دون اسم، ولا يتجلى منها إلا فعلها في هيئة تعليمات، وهذه التعليمات لا تعود إلى أحد، كما أنها تتميز بكونها لا تسمح بالتعارض في ما تعممه من امتثال، ولا بالتنافر في العلاقات بين فواعلها المنفذة، التي تتخذ دوما صفة ظل.
أما المحفل فهو مشخص وله طبيعة ملموسة، ولا يستغنى فيه مطلقا عن الاسم المميز؛ فحتى تنظيمات الكتاب لا مناص لها من أن تمرر فعلها من خلال الاسم ورمزيته.
وإذا ما تعلق الأمر بالحضور في المجتمع فمن خلال تقاطع- لا تبعية- بين المحفل المشخص (الكتّاب) والمؤسسة (مثلا دور النشر)، وهذا التقاطع قائم على الرضا، لا الإجبار، أو التماثل أو الإرغام، وقائم أيضا على الاختيارات الشخصية التي قد تستند إلى المواقف أو الميول (المؤسسات الحكومية).
كما أن المحفل الأدبي يظل شديد الصلة بالمجتمع النصي (إدانة الأدب) ولطبيعة الصراع فيه حول الهيمنة الرمزية التي تتكفل بها داخله جماعة التكريس التي تتحكم في خاصيتي الانتماء إلى الحقل الأدبي والتتويج، ومن ثمة يتوسط المحفل بصفته هاته المؤسسةَ، والإنتاجَ الفردي، وتمثل فعالية توسطه هاته في توزيعه فضائل التثمين انطلاقا من التوسط بين المؤسسة والكاتب، ويظهر ذلك في التحكيم في الجوائز الأدبية بما تعنيه من تنصيب رمزي قد لا يعكس بالضرورة قيمة المنتَج الأدبي. ومما يدخل في باب تمييز الممارسة الأدبية من كل ممارسة مؤسساتية معاير الزمن.
فمن الأكيد أن زمن المؤسسة يستغرق نفسه في الحاضر، لأن فعلها لا يكون محققا جدارته إلا بما يحققه من فائدة آنية، ومن مراقبة مباشرة أو غير مباشرة لسريان الامتثال عبر الجاري الراهن.
فالماضي لا يهمها (وإن اكتسب طابعا تاريخيا)؛ إذ ما رأت إليه فلتجعله شاهدا على صلاحيتها هي في الحاضر، لا لتثبيت صلاحيته هو بينما الممارسة الأدبية لا تلغي الماضي، صحيح أنها ترتبط بالحاضر، وتجعل منه رهانها في تمثيل فعلها، وإكسابه هويته الأساس، لكنها إذ تفعل ذلك لا تلغي تاريخها، فهي تستحضره على الدوام، ولا تلغيه، من حيث هو تراكم لا بد منه، ومن حيث أنه دليل على عدم تثبيت نماذج معيارية بعينها، فكل النصوص القديمة والحديثة تتقاسم فضاء المكتبة، وتحدد هوية فضائها.
ومن دون هذا التاريخ يفقد الأدب أحد شروطه المهمة ألا وهو الحوار بين النصوص، واستعادة المنصرم منها من أجل بناء المسافة تجاه الماضي، أو بناء الحاضر (ج. جويس: عوليس).
كما أن الممارسة الأدبية لا تؤمن- كما هي الممارسة المؤسساتية- بالحضور الحيني بوساطة تدبير العابر أو العارض، وتحدد فعلها بنجاعة تصرفها تجاه حاضرها، بل تسعى إلى النقيض من ذلك إلى تأبيد فعلها، والمقصود بذلك مواجهة الموت والزوال بالرغبة في الخلود؛ أي أن تنتمي إلى المقبرة الحية، ألا وهي المكتبة التي تهب الحياة على الدوام إلى النصوص الخالدة.
وإذا كانت الممارسة الأدبية تختلف عن المؤسسة في تمثيل العلاقة بالزمن، فإنها تختلف عنها في أمرين آخرين هما التراتب والرمز؛ فالممارسة تقوم في المؤسسة على فعالية التراتب بما يقتضيه من توجيه من أعلى إلى أسفل، بينما الممارسة الأدبية لا تفترض التراتب بين فواعلها، وانتقاءَها وفق معايير الصلاحية.
كما ينبغي في هذا الشأن التنبه إلى أن المؤسسة لا تسمح بالمساواة بين فواعلها احتراما لخاصية التراتب، وإلا تقوضت أسسها، وفقدت تأثيرها، هذا إلى جانب ما يقتضيه ذلك من توزيع للأدوار وفق التحديدات المنصبية، أما في الأدب فلا وجود لمثل هذا الأمر.
وإذا ما نظرنا إلى الاختلاف بين الأدب والمؤسسة على مستوى الرمز الدال على الحضور المؤثر لشخص محدد، فإن وجوده في الممارسة المؤسساتية منتفى، لأن وجودها لا يتعين بوجود شخص رمز تتحدد به هويتها، فكل ما تحتاج إليه لا يتعدى أشخاصا ظلالا يمر عبرهم الأمر. وإذا ما حدث أن تشخصنت تتحول فعاليتها إلى أسلوب شخصي، وأمر من هذا القبيل يؤدي إلى الرخاوة في سريان فعلها الآمر. لكن ما يحدث في الأدب- على هذا المستوى- فهو مخالف تماما؛ إذ يكون الأسلوب الشخصي متطلبا، لأنه يمنحه صبغة الرمز الدال على مدرسة ما، أو تيار ما، وهذه الصبغة هي التي تمنحه ما يتعرف به بوصفه فعلا مخصوصا يشير إلى ما هو شخصي.

أكاديمي وأديب مغربي

عبد الرحيم جيران

* عن موقع جريدة القدس العربي

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…