بمجرد ظهوره يوم الثلاثاء: 28 أبريل 2015، في جلسة المساءلة الشهرية المتعلقة بالسياسة العامة، حول سؤال عن: “سياسة الحكومة لخفض الدين واسترجاع التوازنات المالية”، كدنا نصدق أن رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، تجاوز حالته النفسية المتأزمة، التي ألزمته الصمت على امتداد شهر أبريل. والتي تبين فيما بعد ألا علاقة لها باجتماعه بمستشاري الملك محمد السادس في شأن مذكرة أحزاب المعارضة، ولا بما خلفته فواجع حرب الطرق من خسائر فادحة في الأرواح. وإنما نتيجة الجدل الدائر حول القصة الغرامية، التي بلغ صداها صفحات الصحافة الدولية، بين السيد: حبيب الشوباني، الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، والسيدة: سمية بنخلدون، الوزيرة المنتدبة في التعليم العالي، وحادث السيد: عبد القادر اعمارة، وزير الطاقة والمعادن، الذي فكر ودبر ولم يجد أمامه من وصفة سحرية، تفيده في الابتكار والرفع من مردوديته، عدا تجهيز مكتبه بسرير وحمام ! ومن مكر الصدف أن الوزراء الثلاثة ينتمون للحزب الحاكم.

     وبينما كنا نتأمل قدرته على التحمل، بعدما بدا غير متأثر لما اتخذته ثلاث مركزيات نقابية: (الاتحاد المغربي للشغل، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والفيدرالية الديمقراطية للشغل) من قرار جريء على بعد يومين من احتفال الشغيلة بالعيد الأممي للعمال، تدعو من خلاله في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العمل النقابي بالمغرب، إلى مقاطعة الاحتفالات، كرد فعل عن سلوك الحكومة الاستفزازي في التعاطي مع المطالب الاجتماعية. ولا مما أورده مدير نشر جريدة “الأخبار”، الصحافي المتميز رشيد نيني في عموده اليومي “شوف تشوف”، صباح نفس يوم انعقاد الجلسة الشهرية، من حقائق صادمة عن استفادة بعض قادة الحزب الحاكم ومقربين منهم، وضمنهم شقيق رئيس الفريق النيابي بالبرلمان السيد: عبد الله بوانو، من أموال وزارة  ”الحبيب الشوباني”، الذي بات ملزما بتبرئة ذمته، ونشر تفاصيل عن صرفه مبلغ مليار و700 مليون سنتيم، على حواره الوطني حول المجتمع المدني…

     ومن غير انتظار طويل، جاءنا الرد سريعا عبر ما أثاره السيد بنكيران من زوبعة في البرلمان، حيث بدا فاقدا بوصلة الصبر والتحكم في أعصابه. إذ مازال عاجزا عن استيعاب دور المعارضة وحقها في مساءلته، مادامت لا تشاطره نفس الرأي في كيفية تدبير الشأن العام، لما تحمله من تصورات تنموية اجتماعية واقتصادية مختلفة. وألا إصلاح بإمكانه التحقق إلا بالإنصات إلى مقارباتها واحترام مواقفها وفق مقتضيات الدستور، باعتبارها محركا أساسيا في النهوض بأوضاع البلاد وحماية حقوق المواطنين. بدل تبخيس جهودها والإساءة إلى صورتها، وتحويل أعضائها إلى مجرد تماسيح وعفاريت، هاجسهم الكبير هو تكريس الفساد والتشويش على الحكومة وعرقلة مسارها “الإصلاحي”. فلا يستقيم تعزيز دولة الحق والقانون واستكمال البناء الديمقراطي، إلا بتحصين حقوق المعارضة البرلمانية.

     فرئيس الحكومة، في معرض كلمته خلال الجلسة الشهرية، أبى إلا أن يتهم المعارضة بالتناقض، ويستغرب من إصرارها الدائم على معاكسة ما يتخذه من قرارات وإجراءات، يراها كفيلة بتقليص العجز واسترجاع التوازنات المالية، كالزيادة في أسعار المحروقات، وتفعيل نظام المقايسة، والرفع من فواتير الماء والكهرباء، وانتقادها في ذات الوقت نسبة المديونية والعجز. وأعطى بذلك مثالا، يروم من ورائه تفسير العجز للمغاربة، بقوله “إن الأسرة التي تتقاضى شهريا 10000 ألف درهم وتصرف 12000 ألف درهم، فإنها تضطر إلى الاقتراض لتغطية العجز…”، دون أن يشرح لهم كيف يمكنها سداد ديونها، مادامت الأجور مجمدة والأسعار في ارتفاع صاروخي مستمر؟

     بيد أن ما أثار سخط المعارضة، هو ما ورد على لسانه من وصف لخطابها بالسفاهة عندما قال: “على المعارضة أن تتحمل مسؤوليتها، ومواجهة المجتمع في القضايا التي تخص الإصلاح، بدل اللجوء إلى السفاهة وقول كلام خارج عن الطريق”، وبمطالبته سحب كلمة “سفاهة”، امتنع كعادته بعناد شديد، ليؤازره نواب الأغلبية في حربه الكلامية، ويتحول المجلس إلى ملعب لكرة القدم، باشتداد الصراخ وتعالي الصفير، مما عجل بالإعلان عن رفع الجلسة من لدن رئيس المجلس السيد: رشيد الطالبي العلمي، الذي رفض عند افتتاحها الترحم على أرواح ضحايا حادثة ورزازات، بدعوى أن حوادث الطرق تقع يوميا !

     وفي رأيي المتواضع، فإنه يفترض في رئيس الحكومة أن يكون قدوة للجميع، وعدم الانزعاج من انتقادات الآخرين مهما كانت قاسية أحيانا، بدل السعي إلى تأزيم الأوضاع باستخدام أسلوب استفزازي، دون أدنى احترام للمؤسسة الدستورية والمكانة الاعتبارية للنواب وعموم الشعب. فالسفه حسب علماء اللغة، نقيض الحلم، وهو أيضا سرعة الغضب والطيش، والقول الفاحش. والسفيه هو من يجعله شيطانه أسير الطغيان، دائم العناد والعصيان. والسفاهة، هي ضعف التدبير وفساد الرأي، ومن ذلك تبديد المال على غير الوجه المقبول. فكيف لمن تنطبق عليه مثل هذه النعوت، أن يكون جديرا بالدفاع عن مصالح الأفراد والبلاد؟ ومتى كان الدفاع عن العيش الكريم للمواطنين سفاهة؟

     فرأفة بهذا الشعب العظيم، الذي تعتقدون أن تقبله لما أقدمت عليه حكومتكم من “إصلاحات”، على حساب ضرب قدرته الشرائية، والتزامه الصمت  دون الخروج إلى الشارع في انتفاضة عنيفة تهز أركانكم، من المؤشرات الإيجابية على تفهمه ل”حسن” نواياكم، وأنه يبارك سياستكم الفاشلة وخطابكم السياسي السخيف. فلزومه الهدوء، تعبير صادق عن نضجه وإيمانه الشديد بالديمقراطية، ويرى من واجبه إمهالكم إلى حين نهاية ولايتكم، ووحدها صناديق الاقتراع ستكشف عن كلفة ما اعتمدتموه من سياسة التجويع والتفقير، اللهم إلا إذا كان لها رأي آخر.

     ورغم أن الملك لم يفتأ يوصي بضرورة الارتقاء بالخطاب السياسي، ونبذ المزايدات السياسوية، وعدم الانسياق وراء تحويل البرلمان إلى حلبة لتصفية الحسابات الضيقة، تفاديا لما قد يسيء إلى سمعته، ويساهم في تغذية الحقد والكراهية بين الفرق الحزبية، وتضييع فرص الإصلاح والالتحاق بالدول الصاعدة. بيد أن لا شيء تحسن، حيث ما انفك مستوى الثقافة السياسية في تدهور خطير، وأصبح تمييع القيم السياسية خاصية مغربية بامتياز، مما ساعد على إفراغ العمل السياسي من حمولته النبيلة، وساهم في عزوف المواطنين عن الانخراط في الحياة السياسية…

     فما أصبح يؤرقنا حقا، هو ما وصلنا إليه من اندحار سياسي ونكوص، في عهد حكومة يقودها أمين عام حزب ذي مرجعية إسلامية، هو نفسه للأسف الشديد من يشكل مصدر قلق كبير، لتزعمه حملات إشعال الحرائق. فقد خاب أملنا في تحقيق النخب لما كنا نتطلع إليه، من سمو اللغة وتنافس شريف على الأفكار والبرامج، وتجاوز الخلافات المفتعلة بين الفاعلين السياسيين، الذين صار معظمهم يتهافتون على المناصب وإنتاج خطاب سياسي مقزز، غير مكترثين بمصداقية العمل السياسي والمصلحة العليا للبلاد. فعلى الجميع التحلي بما يلزم من الحكمة والتبصر، احترام الرأي الآخر وتقدير المسؤوليات… 

* الثلاثاء 5 ماي 2015

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…