أسئلة النقاش العمومي متناثرة و متنافرة في الساحة المغربية، لا يكاد المتتبع أن ينتهي من فهم موضوع و استيعاب مضامينه دون الحديث عن خلفياته ، حتى يعالجه و يعاجله نفس هذا النقاش العمومي بقضية أخرى مثيرة للجدل و للخلاف الحاد .. المغرب السياسي بنخبه و فاعليه ما يزال يشتغل على تحوله الديمقراطي .. و من الطبيعي في المراحل الانتقالية أن يعج المشهد بنقاشات جارفة و تقاطبات حادة لا تترك وراءها سوى النقع السياسي و المدني الكثيف .. هل هناك نقاش عمومي في المغرب .. و إذا كان هناك فعلا .. من يديره .. من يتحكم فيه .. من يوجهه .. أسئلة من ضمن أخرى حاولنا تفكيكها مع باحث مغربي في العلوم السياسية .. في الحقيقة محاورة أكاديمي حول مستجدات معينة في الحقل السياسي .. لا ترهق الصحافي أو المحاور ..
تخترق المشهد الوطني أسئلة متعددة تحولت إلى مادة للنقاش العمومي .. ما تعليقك على هذا الأمر .. ؟
ما يلاحظه المتتبع يؤكد بأن هناك نقاشا عموميا ، سياقاته مختلفة .. هناك نقاش يخص الوضع الداخلي ، فالمغرب على أبواب استحقاقات محلية ، نحن تقريبا في المرحلة الأخيرة للولاية التشريعية الحالية ، هناك مشكل حقيقي مرتبط بالتنزيل الدستوري للقوانين التنظيمية المرتهن بهذه الولاية التشريعية.
هناك إلى حد ما نوع من عدم الوضوح في الفعل السياسي ، هناك حملة انتخابية سابقة لأوانها تحكم المشهد السياسي و هنالك مستجدات غير واضحة المعالم فيما يخص قضية الوحدة الترابية .. أيضا هناك نوع من انخفاض سقف المطالب المرتبطة بالإصلاح الذي حُبِّرَ في دستور 2011 .. أضف إلى ذلك وضع المغرب الجيوبولتيك و الرهانات الإقليمية حول مسألة الإرهاب . كل هذا بطبيعة الحال يؤكد على أن عددا من القضايا مطروحة للنقاش العمومي ، لكن محكومة بظرفيات و سياقات معينة .
إلى ماذا تريد أن تصل من خلال هذا الكلام .. ؟
هذا يجعل أن مداخل و محددات هذا النقاش و كذا المأمول كنتائج منه ، قد تبدو واضحة من الناحية الشكلية و الظاهرية ، لكن ليس بالضرورة هناك مؤشر على وجود نقاش عمومي يمس القضايا الجوهرية .. كقضية الإصلاح السياسي الدستوري الذي كان سقفه مرتفعا بعد أحداث 2011 .. لنبقى بشكل من الأشكال في حلقة دائرية تنقلك من قضية إلى قضية و لا تمس جوهر القضايا التي تهم أساسا الانتقال الديمقراطي المرتبط هو الآخر بقضايا أساسية ، على رأسها القضية الحقوقية و قضية التنمية ..
إذا سايرنا هذا الطرح و قلنا إن النقاش العمومي لا يصب فيما هو جوهري .. و لا يقترب من المضامين الكبرى للإصلاح و التنمية .. إلام تعزو الأمر .. ؟
في الواقع المغرب يعيش ظرفية استثنائية في تقديري الخاص .
* كيف .. وضح لنا الفكرة .. ماهي هذه الاستثنائية .. ؟
يمر بمرحلة استثنائية لثلاثة اعتبارات أساسية .. الاعتبار الأول يتعلق بما مدى إمكانية إيجاد نوع من التقارب بين مقتضيات الإصلاح التي جاء بها دستور 2011 و ما تحقق عمليا على عهد حكومة العدالة و التنمية ، هناك هوة كبيرة واضحة للعيان ، كيف يمكن تجسير هاته المسافة بين سقف دستور 2011 و ما تحقق ، هذا مشكل عويص مرتبط بعدم تجانس الخريطة السياسية ، بين أحزاب الأغلبية و بين باقي الفاعلين السياسيين .
الاعتبار الثاني .. يتمثل في عدم وضوح الرؤية لدى النخبة السياسية في تعاطيها مع قضايا الشأن العام ، لم تستوعب اللحظة التاريخية التي يمر منها المغرب، و هنا التعميم غير مطلوب .. جزء كبير من هاته النخبة مرتهن لحسابات سياسوية متعلقة إلى حد ما بإرث الفاعل السياسي المغربي ، الأشكال و الصيغ التي كان يدبر بها العلاقة داخل الحقل السياسي ما قبل 2011 .. هذا دون أن ننسى الهزات العميقة التي عرفتها الأحزاب التاريخية المنبثقة عن الحركة الوطنية .. و على رأسها الاستقلال و الاتحاد الاشتراكي ..
الاعتبار الثالث .. المغرب أصبح وحيدا في مشهد التغيير الذي يعرفه العالم العربي ، حالة استثنائية كلفته من بين ما كلفته .. أن ينحصر سقف الانتظارات إلى أدنى مستوى ممكن ، على اعتبار أن هنالك نوعا من التوجس من التجربة الإسلاموية للحكومة المغربية ، بالأساس علاقة المغرب بدول الخليج التي هي في تحالف “كاثوليكي” مع الدول الغربية في حربها على داعش ..
هذه الاعتبارات الثلاثة حاكمة إلى حد ما لمستوى و عمق النقاش العمومي المطروح اليوم .
بعض المراقبين ينتقدون النخبة السياسية التي ما تزال تضع نفسها في موقع غير المبادر .. و تنتظر الاستباقية و المبادرة و الاستراتيجية من المؤسسة الملكية .. ؟
سأجيب لكن بطريقة أخرى .. دعني أقول إن هناك أكثر من سرعتين يتحرك بهما و فيهما المشهد الوطني المغربي .. سرعة المؤسسة الملكية التي لها قدرة فائقة على طرح البدائل في إطار استراتيجية استباقية ، بما يفيد بقاءها ممسكة بالخيوط المتحكمة في اللعبة السياسية و قضايا الشأن العام ، و لها قدرة أيضا بما يتماشى مع السياقات و الظرفيات على تجديد النخب من داخلها .. إنها قادرة على التحكم في المداخل و إيجاد صيغ و حلول ، إنها تبدو متقدمة على باقي الفاعلين و بالخصوص الفاعل السياسي .
من داخل هذا التحليل .. أين يمكن موقعة الحزب السياسي في مغرب اليوم إلى جانب ملكية اليوم بعهدها الجديد .. ؟
بخصوص الأحزاب السياسية .. لنكن واضحين .. هذه الأحزاب يبدو أنها تعاني اليوم من إشكالات بنيوية عميقة تتعلق من جهة بقضية الهوية ، و في درجة ثانية تتعلق بصعوبة بالغة تواجهها في الذهاب و التحرك بالسرعة المطلوبة .. في أفق التعاطي مع السياقات الحاكمة للمشهد السياسي .. و هذا يعود للإرث الثقيل الذي راكمته .. سواء الأحزاب الوطنية أو احزاب الإدارة على امتداد التاريخ السياسي للمغرب الحديث و لحدود 2011 .
الجديد أيضا و الذي يساهم بشكل من الأشكال في النقاش العمومي .. هو بروز المجتمع المدني كقوة اقتراحية لها مرجعية دستورية .. و له سرعته أيضا التي يشتغل بها .. ؟
بالتأكيد هذا معطى مركزي جديد في المشهد ، المجتمع المدني اليوم له تطلعات واضحة المعالم من خلال إصراره على ان يكون في صلب النقاش العمومي ، و أن يكون جزءا أصيلا في المعادلة الحاكمة في الشأن العام ..
هذا إذا افترضنا مجتمعا مدنيا يقسو على “نفسه” و ينتصر لمفهوم الاستقلالية و التاريخية و التراكمات التي تجعله فاعلا ناضجا و حقيقيا .. يجب أن نقول هذا الكلام .. رغم أنه قد يثير حفيظة البعض .. ؟
إذا أسعفني الفهم من خلال هذا السؤال .. قد يبدو أن الدولة و النظام السياسي في الدولة و من خلال ترويجه لوجه مدني للدولة ، يحاول أن يوازن في المشهد السياسي بين أدوار الأحزاب السياسية و أدوار الفاعل المدني .. كمؤشر على تثبيت فكرة الديمقراطية التشاركية .. بما يفيد قناعة النظام بعدم قدرة الفاعل الحزبي لوحده دون مجتمع مدني في المساهمة للحفاظ على التوازنات ..
بكل موضوعية .. من يقود النقاش العمومي اليوم في الساحة المغربية .. و من يتحكم في مدخلاته و مخرجاته .. ؟
فعلا .. السؤال ليس من يقود فقط .. لكن من يتحكم و من يصنع الفارق .. الكل يعرف من الناحية المبدئية ، أنه منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش ، أغلب المبادرات هي مبادرات ملكية و الملك أبدى قدرة في التعاطي مع الملفات ذات الحساسية الخاصة بكثير من الذكاء و الرزانة و هو ما يحرج فاعلين آخرين في الحقل السياسي .
السؤال أيضا من يوجه النقاش لقضية دون أخرى .. إذا أخذنا قضية الإجهاض تبدو جد ثانوية إذا ما قورنت بما يفترض أن يطرح للنقاش ، أي القضايا التي تهم التنزيل الدستوري ..
نحن على أبواب الاستحقاقات ، هناك قضيتان استراتيجيتان الجهوية و تداعياتها على أسئلة التنمية و ما هو حقوقي و قضية الوحدة الترابية و الحل الذي طرحه المغرب و المرتبط بالحكم الذاتي .
قضية الإرهاب و ما يسمى ب “فوبيا” الإرهاب الإسلامي ، علاقة كل هذا بالنقاش الدائر و بالتجربة المغربية أساسا ..
يظهر من قراءة متأنية .. على أن التجربة المغربية تشكل إلى حد ما نموذجا فريدا و متفردا باحتواء أية تداعيات لمحيطه الإقليمي على استقراره الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي .. على اعتبار أن المغرب يوفر في ذاته و من خلال نظامه السياسي موانع طبيعية و ذاتية، بما يمنع أن يكون منطلقا و قاعدة لإنتاج ما يتعارف عليه بالإرهاب الإسلامي .
فالوضع الأمني في المغرب يعتبر بشهادة الجميع وضعا آمنا دون أن تكون هنالك إجراءات استثنائية .
في نفس الاتجاه هل يبدو أن طرح قضية الإجهاض للنقاش العمومي وراءها فكرة معينة يريد فاعل ما ترويجها.. ؟
قضية الإجهاض في صورة من صور النقاش ، قد يراد من ورائها بما فيها الجهات التي يعنيها الأمر،التأكيد على أن الوضع في المغرب مؤهل دون أي خوف لطرح قضايا حساسة ، تمس عمق التجاذبات العقدية دون هاجس لدى النظام و دون اعتبارها طابو قديم قد يخلخل أسس المعادلة الوطنية .. هذه قراءة من بين القراءات ..
الرسالة أيضا من وراء هذا النقاش العمومي أعمق بكثير من أن تختزل في قضية وطنية تمس واقعا اجتماعيا ، بل بالعكس ، طرح هذه القضايا للنقاش له أبعاد إقليمية و دولية تفيد أن مستوى النقاش في المغرب و لو من الناحية الشكلية ، سقفه غير محدد بما هو مطروح للنقاش دوليا .
النقاش العمومي اليوم تخترقه أسئلة الإسلام السياسي على الطريقة المغربية.. ؟
اسمعني جيدا .. ليس هناك إسلام سياسي في المغرب ، أؤكدها ، كل ما هنالك حقل ديني ، جميع الفاعلين يسعون لإيجاد موطئ قدم للمساهمة في تدبيره ، دون الخروج عن الضوابط الشرعية لإمارة المؤمنين ، و هذا يقطع الطريق على أي تأويل سياسي ..لأن الصراع في المغرب ليس صراعا بين الدولة المدنية الحداثية و دولة الخلافة الإسلامية باستثناء العدل و الإحسان.. باقي الفاعلين بما فيها البيجيدي مقتنعة بؤسسة إمارة المؤمنين و متشبثة بها و منضبطة لقواعد اللعبة الحاكمة لبنية النظام السياسي الذي تشكل امتداداته الدستورية لإمارة المؤمنين .
لكن هذا لا يمنع من أن هناك هواجس ترتبط أساسا بانتظارات و مطالب مشروعة للسواد الأعظم للمغاربة ، تتعلق بإيجاد صيغ في إطار السياسة العمومية للحفاظ على الاستقرار و الاستفادة من التنمية مع تثبيت قواعد ضامنة لحقوق الإنسان .. ؟
هذا المطلب تعتريه صعوبة بالغة ، رهان نظام اليوم على قضية الجهوية كمدخل للتنمية ، قد لا تسعفه الآليات المنتجة للنخب المحلية التي من المفترض أن تتحمل مسؤولية التحقيق الفعلي و العملي و الفعال للهندسة الدستورية و ما احتوته من تعاقدات جريئة في علاقة الدولة كنظام بالمواطنين ، في قضاياهم المحلية .
هذا العجز الذي ستصطدم به أية استراتيجية تروم تنزيل و تفعيل مفاهيم و آليات الجهوية .. مرده بالأساس .. أن السلطة كانت تصنع طبقة طفيلية و نخب خنوعة محلية لا تفهم السياقات التاريخية للبلاد راهنا .. ؟
فعلا هناك عجز ، هناك عقلية استغلالية لا تتوفر على ما يكفي من آليات لفهم السياق التاريخي الذي يمر به مغرب القرن 21 ، بدون نخب محلية يتوفر فيها حد معقول من مدخلات الفعل الديمقراطي ، تبقى الصعوبة بالغة في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه سلفا ، يتعلق بتقليص الهوة بين الانتظارات و سقف المطالب من جهة و الشق الذي يدبر به الشأن العام .
*السبت 2 ماي 2015