عنونت مقال الأسبوع الماضي بمحاولة التاريخ تطويع الجغرافيا في النيبال، وكنت كتبته في كاتماندو يومين قبل يومين من كارثة الزلزال، الفاجعة والمأساوية.ذلك الزلزال الذي دمر البلد، تفرض القول بأن الجغرافيا هي من ستُطوع التاريخ هناك…و تحدد له خط سير جديد.
وقائع الأحداث في الحياة، تعلق الأمر بالأفراد أو تعلق بالشعوب، لا تتوالى أو تتناسل على خط منتظم يقودها منطق وتذهب فيه إلى تفاعلاتها المقترحة وإلى مصيرها المتوقع…
المفاجئ، غير المتوقع، الطارئ، الصدفة، هي مسميات لما هو حادث من خارج، من فوق، من تحت، ومن هوامش، خط السير والتفاعل العادي، المنطقي والمتوقع، للأحداث والوقائع… وحتى وهي استثنائية، يفترض احتسابها قابلة الوقوع، و محتملة التأثير، و بالتالي التحسب لها ومنها.
تدبير شؤون الدولة في النيبال وما ولده من أسئلة لدى جمهور الفاعلين السياسيين، والذين تؤطرهم «دزينة» من الأحزاب، من الأقل إلى الأكثر يسارية، ذلك التدبير يختلف عن طبيعته ومعادلاته ويقينياته لما قبل الزلزال عن ما بعده… ولا أحد كان قد وضعه في تقديره…
ستختبر النيبال قدرة نخبتها و قيادتها على ابتكار صيغ جديدة للنهوض ببلد معتل زاده الزلزال اعتلالا، و لمواجهة الخصاص الذي ازداد خصاصا و التعاطي مع الهشاشة، العمرانية و الإجتماعية، التي انحدرت إلى ما تحت الهشاشة… و لها في ذلك روافع لتعبئة وطنية هي أداتها في ذلك التحدي…أهمها الوحدة الوطنية التي تلحمها الديمقراطية.
والزلازل ببعضها تذكر، زلزال النيبال الجغرافي يحيل إلى التفكير في الزلزال التاريخي لهذه الشعوب العربية. تحرك الأرض على سلم ماء مختلفٌ عن تمزق أنسجة بلداننا العربية، السياسية والاجتماعية برجة في أوضاع البلدان. نحن هنا في هذا الامتداد من ذلك الشرق إلى هذا الغرب، من ذلك الربع الخالي إلى هذا المتوسط المستعر…
كنا على «هدى» من تاريخنا، حتى نفخ في أوضاعنا، واحد أو أكثر من أولائك «المحافظين الجدد»، مغلفو مصالح الغرب السياسي، بالمسوغ الإيديولوجي والإستراتيجي، لإعلان قيام «الفوضى الخلاقة».
من حيث لم يتوقع أحد، داهمتنا تلك «الفوضى الخرابة»… من خارج المألوف و»المقتع»، لنا من تحاليلنا وتوقعاتنا. زلزل التاريخ زلزاله. ذلك غير المتوقع، الطارئ، لم نلتقطه ولم نتبصره حتى وقعت الفأس في الجغرافيا. اهتزت دول، تمزقت شعوب، اندلعت حروب، وفي لجة تلك «الفوضى» استعرت صراعات…الدول،الحركات الإرهابية، القبائل، الفئات، الشيع، الطوائف و… المصالح والقوى الغربية والعربية… وحاصل ذلك سيول دماء، ودمار يشبه الفناء، «الفوضى»… لا تأبه بمن يعترض ولا بمن يرضى…إنها زلزال، زلزال يتدفق منه ما يدل على قوة دماره… عندك العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، وبالمفعول الارتدادي، عندك حوالي كل البلاد العربية… والتحدي لنا جميعا، إزاء ما يحدث، هو قدرتنا على ابتكار مسالك لرؤى جديدة ( عسيرة الإبتكار )، تمكن من محو آثار الزلزال، أو العدوان، وتمد البلدان بروافع للنهوض بها… و لست متفائلا و أنا أرى توغل «الفوضى» فينا و استشراؤها في أوصال «مساحات عربية « لها تأثيرها.
الزلازل الجغرافية تتفاعل تحت الأرض، تنتجها هبات البراكين الجوفية للأرض أو احتكاك الصفائح القارية غير المرئية… بينما الزلازل التاريخية قابلة للرصد بفعالية صحوة الحاسة القيادية التي تفترض أن تقود دولة.
تلك «الفوضى الخلاقة»، لم تمتد إلى المغرب ولم تجد إليه مسارب. وإن كان المغرب، في غير منأى من شظايا حمم النيران التي تطلقها حواليه، «فوضى»، حلت بنا غير مبالية بأن تبقي أو تذر.
المغرب حمته المشتركات، من عراقة وحكمة ووطنية نخبته، وضمنها قيادته الملكية التي جست، في اللحظة المناسبة، نبض التاريخ.لتطلق ديناميكية دمقرطة الدولة و هي القاطرة لدمقرطة المجتمع.
الحسن الثاني حذر من السكتة القلبية للبلد بكل بنياته، ودعا إلى حقن الجسد الوطني بالمنشطات السياسية. الملك محمد السادس استقرأ حاجة المغرب إلى ما هو أدوم وأفضل من المسكنات والمنشطات لأدواء الجسم الوطني… فتصدى للاختلالات القابلة للارتجاج، بجرعات من وصفات تمنيع لمكوناته ومقوماته وفعالياته…المفهوم الجديد للسلطة، قانون الأحزاب الجديد، مدونة الأسرة، فكُّ الحصار عن الثقافة واللغة الأمازيغيتين… وتلك المبادرة غير المسبوقة عربيا، «هيأة الإنصاف والمصالحة»… إبطال مفعول ألغام الاهتزاز سيصل إلى ابتكار الدستور الساري المفعول… المؤطر لجملة مصالحات للمغرب، مع ذاكرته، مع مكوناته، مع طموحات شعبه ومع الديمقراطية باعتبارها مسار عميق، شامل، حق وواجب للمواطن لتجويد حياته وأنسنتها.
عوامل زلازل الجغرافية غير قابلة للتوقع، تتفاعل تحت الأرض إلى أن تهتز… وعوامل زلازل التاريخ تتحرك فوق الأرض إلى أن تتفاعل فتنفجر… والمغرب على مسار تمنيع ذاته من زلازل التاريخ… ومحتوم عليه أن يواصل على نفس المسار… إذ لا سبيل لتحدي جاذبية الارتكاس إلا بالإصرار على التقدم…و هو الواقي من غيل الدهر و من طوارئ و مفاجئات التاريخ.
* ابريل 2015