في أحد أصابيح ربيع عام 399 ق.م. وقف الفيلسوف اليوناني سقراط، بلحية بيضاء وثياب رثة، أمام 501 قاض في مدينة أثينا، التي كثرت فيها الأحقاد، وتعددت حوادث تصفية الحسابات إثر هزيمتها أمام أسبرطة في حرب دامت بينهما سبعا وعشرين سنة. كانت التهمة الموجهة إليه ذات شقين: عدم إيمانه بآلهة المدينة، وإفساد الشباب. حقيقة الأمر أن الفيلسوف كان يجوب الأسواق والطرقات محدّثا الناس عن الحكمة والعدل والفضيلة، انطلاقا من إيمان راسخ بأن لديه في الحياة رسالة يؤديها. إلاّ أن “فقهاء الظلام”، الذين يرون أن إعمال العقل خروج على الناموس وإخلال بنظام الكون، وأن الفكر عمل لا شأن للبشر به، ناصبوه العداء وقدموه إلى المحكمة، وكان عقابه الموت بالسم.

هذه الواقعة التي انتهكت فيها حرية الفكر، وما زال الجدل مستمرا حولها إلى يومنا هذا، لها ما يشابهها في تاريخ شعوب الأرض، ومنها نحن العرب، وبعض جيراننا المسلمين. وإذا كانت المكارثية -حملة قادها السيناتور الجمهوري الأميركي جوزيف مكارثي في ما بين 1950 و1955 لمحاكمة عشرات المفكرين والأدباء والفنانين بتهمة “النشاط المعادي” لأميركا- آخر فضائح التضييق على حرية الفكر والإبداع في العالم المتمدن، فإن بعض العرب ومعهم بعض المسلمين، ما زالوا حتى الآن “يستلهمون” ما في تاريخهم من محن انتهاك تلك الحرية ويطبقونها من دون مراعاة، لا للمواثيق الدولية ولا للميراث الإسلامي لحرية الاعتقاد. (ينسب إلى مالك بن أنس أنه إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر؛ في حين ظل الخميني طوال حياته “يفخر بالفتوى التي أصدرها بقتل المفكر الإيراني أحمد كسراوي سنة 1947″، ولما سئل عام 1979 عن سبب إصداره أمرا بإعدام المعارضين دون محاكمة أجاب: “لأنهم مذنبون، ولا حاجة لإضاعة الوقت في محاكمتهم)”.

تراث مقموع

فقهاء ومتصوفة وشعراء وعلماء، تعرّضوا في تاريخنا لمحن ومحاكمات شتى بسبب الوقوف على الضدّ من أيديولوجيا الدولة الرسمية، أو بسبب أفكارهم واجتهاداتهم، فألصقت بهم تهم الزندقة والإلحاد. ومن أشهر المحن ما حدث لأبي ذرّ الغفاري، فقد نُفي من المدينة مرتين بسبب آرائه وأفكاره التي جاءت مخالفة لرأي أصحاب المصالح في عصره: مرة إلى الشام، ومرة إلى قرية معزولة اسمها “الربذة”، الحياة فيها شاقة حتى على الزاهدين، وهناك مات بعد عامين. وكانت محنة أحمد بن حنبل، أحد أكبر فقهاء الإسلام، أنكى وأشدّ، فقد ألقى به الخليفة المأمون في السجن مكبلا بالأغلال لأنه خالفه في الرأي، وحين تولى المعتصم الخلافة أمر بتعذيبه بالسياط حتى شارف على الموت، فأعادوه إلى أهله حطاما. ومن بعده كانت مأساة الحلاج، الذي سجن ثماني سنوات متواصلة، ثم حاكموه على مدى سبعة أشهر، وفي نهاية المطاف قيّدوه وأوسعوه جلدا، ثم صلبوه وقطعوا رأسه وأحرقوه، لا لشيء إلاّ لأنه كان يطوف داعيا إلى التصوّف، بوصفه من أهل الوجد والجدل.

محاكمة عبدالرازق

في العصر الحديث كانت محاكمة العالم المصري الأزهري القاضي علي عبدالرازق عام 1925، على كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، أولى المحاكمات الكبرى لأصحاب الفكر، وكان مدار مقولته فيه “إن نظام الخلافة والإمامة غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة للدين عند المسلمين من كتاب أو سنّة أو إجماع”. وبلغ عدد التهم التي وُجّهت إليه سبعا تصب كلها في “الطعن في الدين”، إرضاء لحاكم مصر آنذاك، الذي أمر بهذه المحاكمة لأن المؤلف بدّد أحلامه في أن يكون خليفة للمسلمين بعد انتهاء الخلافة مع زوال الدولة العثمانية. صدر حكم هيئة كبار العلماء على الشيخ علي عبدالرازق بتجريده من لقبه العلمي، وطرده من زمرة كبار العلماء وفصله من وظيفته، وحرمانه من العمل أو تقاضي أجر من أية جهة حكومية أو غير حكومية!

طه حسين أمام المحقق

بعد أقل من عام أحيل طه حسين إلى النيابة للتحقيق معه إثر ثلاثة بلاغات رُفعت ضدّه تجمع على أنه عمد في كتابه “في الشعر الجاهلي” للطعن في حقيقة نسب الرسول الكريم، وإنكار أن للإسلام أوليّة في بلاد العرب، والزعم أن القراءات السبع غير منزلة من عند الله، بل هي نتيجة اختلاف في اللهجات العربية. وبعد مناقشة مستفيضة غنية فكرية وفقهية وقانونية وتاريخية لكل مزاعم مقدّمي البلاغات، أصدر المحقق محمد نور، رئيس النيابة، قرارا قضى بردّ الدعاوى وحفظ الأوراق.

من حسن الطالع أن ذلك المحقق كان شخصية ذات ثقافة موسوعية، مكّنته من الرجوع إلى كل المصادر التي رجع إليها طه حسين، وقراءتها واستيعابها إلى حدّ مكّنه من مناقشته ومحاورته والكشف عن مواطن الصواب والخطأ في كتابه. ورغم ذلك كله، يرى بعض الباحثين أنه لا يمكن التسليم بأن طه حسين خرج من هذه المعركة دون أن يمسّه منها أذى، فليس قليلا أن يُتهم المرء في عقيدته، ويشكك في ضميره، ويُنسب إليه ما لم يقصده.

ليلى بعلبكي وشرطة الآداب

عام 1964 احتجزت شرطة الآداب اللبنانية الروائية والقاصة ليلى بعلبكي، واستجوبتها وأحالتها على المحاكمة بتهمة المسّ بالأخلاق العامة من خلال التعابير الواردة في مجموعتها القصصية “سفينة حنان إلى القمر”، التي صادرتها وزارة الإعلام. وطالبت النيابة العامة بمادة تقضي بحبس المؤلفة من شهر إلى ستة أشهر وبتغريمها من 10 ليرات إلى 100 ليرة. صحف أجنبية كبيرة تابعت القضية ودافعت عن الكاتبة، مثل “الأوبزرفر” و”جون أفريك” و”فرانس سوار” و”ديلي أكسبرس”، ووصل بعلبكي عرضان من دارين للنشر في بريطانيا وأميركا لنشر مجموعتها المصادرة، كما منحها نادي “الفوبور” في بيروت جائزته لتمسكها بحرية التعبير. كان لذلك تأثير كبير في مجرى المحكمة، التي حكمت ببراءة الكاتبة ورفع قرار المصادرة عن كتابها. وبعد أربعة أعوام أحيل المفكر السوري صادق جلال العظم إلى القضاء اللبناني بسبب كتابه “نقد الفكر الديني” الصادر عام 1969.

عوض وأبوزيد

ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي اتخذت عمليات التضييق على حرية الفكر والإبداع أشكالا مختلفة تندرج تحت ما يطلق عليه مرة اسم “المصلحة العامة”، وأخرى اسم “الدين” أو “الأخلاق”، وهي تسميات أريد بها تسويغ عمليات القمع الفكري وهيمنة الرقابة الجامدة على الإبداع بألوانه المختلفة. لقد جرت محاكمات للفكر والمفكرين ومصادرة لأعمال إبداعية أدبية وفنية، بل وأعمال تراثية كانت ميسورة التداول على مدى سنوات طويلة من قبل، مثل كتاب “ألف ليلة وليلة”، و”الفتوحات المكية” لابن عربي. ثم قبل ذلك وبعده كانت محاكمة العديد من البحوث والدراسات المهمة، من بينها كتاب “مقدمة في فقه اللغة العربية” للويس عوض، وكتاب “المسلمون والأقباط في إطار الحركة الوطنية” للمؤرخ طارق البشري، وكتاب “نقد الخطاب الديني” لنصر حامد أبوزيد، وكتاب “الله والإنسان” لمصطفى محمود.

محاكمات محاكمات

هذه الكتب جميعها جرى تقويمها ورفضها ومحاكمة مؤلفي بعض منها على أساس ديني بحت، وكذلك كان أساس التقييم، أو محاكمة أعمال أخرى أدبية وفنية صدرت بعد الألفية الثانية، من بينها رواية “بنات الله” للروائي التركي نديم جورسل، رواية “مسافة في عقل رجل” و”الفراش” للروائي المصري علاءالدين حامد، ورواية “قوارب جبلية” للروائي اليمني وجدي الأهدل، الذي اضطر إلى مغادرة البلاد واستمرت محاكمته غيابيا، ولم تسقط عنه الدعوة إلاّ بعد توسط الروائي الألماني الراحل غونتر غراس لدى رئيس الجمهورية اليمنية، رواية “أين الله” للروائي المصري كرم صابر، ديوان “آية جيم” للشاعر المصري حسن طلب. كما تعرض أكثر من أديب عُماني لمحاكمة أو مساءلة بسبب نص أدبي كتبه، مثل الشاعرين خميس قلم وبدرية الوهيبي، والقصاصين يحيى المنذري وسعيد الحاتمي وحمود الشكيلي. وجرت محاكمة الفنان مارسيل خليفة لغنائه قصيدة “أنا يوسف يا أبي” للشاعر محمود درويش. وكانت التهمة، طبعا، “تحقير الشعائر الدينية”.

استمرت المحاكمة، التي انتهت ببراءة الفنان، أكثر من عامين رفض خلالها هذه التهمة والمحاكمة من الأساس معبّرا عن شعوره بالمرارة لمثوله أمام القضاء كمجرم، وهو الذي أمضى حياته يدافع عن قضايا العرب والقضية الفلسطينية من خلال الكلمة واللحن والصوت. وفي عام 2012 حكمت محكمة قطرية بسجن الشاعر محمد بن الذيب 15 عاما، وذلك بعد أن تقدم بالاستئناف على حكم سابق عليه بالمؤبد لاتهامه بالتطاول على رموز قطرية.

إلى جانب المحاكمات والمنع والمصادرات، جرت عمليات تكفير لمفكرين وكتّاب، مثل: حيدر حيدر، الذي أصدر الشيخ يوسف القرضاوي فتوى بتكفيره بسبب روايته “وليمة لأعشاب البحر”، وتكفير كل من يقول عنها إنها إبداع، أي أغلب المثقفين والمبدعين والنقاد في مصر والعالم العربي، وكذلك المفكر نصر حامد أبوزيد، الذي حُكم عليه بالردّة، ومن ثمّ “وجب التفريق بينه وبين زوجته المسلمة”، فاضطرّ للجوء إلى هولندا.

اغتيالات وإعدامات

وتعرض عدد آخر من المفكرين والمبدعين للاغتيال، مثل: العراقي عزيز السيد جاسم، والشاعر الجزائري الطاهر جعوط، ومواطنيه الفنان عبدالقادر علولة والجامعي الجيلالي اليابس، والمفكرين اللبنانيين مهدي عامل، وحسين مروة. أما المتصوّف السوداني محمد محمود طه فقد قضت محكمة في الخرطوم بشنقه في عهد حسن الترابي، عام 1985، بتهمة “الردّة”. وفي عام 1999 أقرت محكمة الاستئناف في الخرطوم، أيضا، الحكم على أحد الفنانين بـ260 جلدة بالتهمة التفتيشية التي نفض الإسلاميون عنها الغبار وهي “الإساءة إلى الدين”.

وفي إيران أهدر البوليس السياسي الإسلامي باسم “قانون الجزاء الإسلامي” دماء 180 مثقفا إيرانيا سُجلوا على “القائمة السوداء” الشهيرة، اغتيل منهم أربعة، ولولا تدخل الرئيس محمد خاتمي لكان بقية أعضاء القائمة اليوم في عداد الأموات.

حدث ذلك، وهو غيض من فيض، في عالمنا العربي والإسلامي، رغم أن جميع دساتير دوله تكفل حرية الرأي والفكر والتعبير. هكذا أصبحت هذه “الحرية”، التي قال عنها يوسف إدريس إنها لا تكفي كاتبا واحدا، ضحية “إرهاب دوغمائي”، يحتمي بسلطة القضاء، ويتعلل بأعراف دينية واجتماعية ومواقف سياسية؛ وهو ما أثر سلبا في الإنتاج الفكري والإبداعي، حيث أصبحت الكتابة محاصرة بين مقص الرقيب ومطرقة المحاكمات وسيف الجلاد.

تحت ضغط هذه الإكراهات صار المبدع مطالبا بالتفكير القبْلي في كل كتابة، بما يمثل ضربا من الرقابة الداخلية يغلفها الخوف الدائم من سوء التأويل والتقييم، كما تقول الباحثة المغربية وفاء سلاوي في كتابها “فقه المحاكمات الأدبية والفكرية”.

كاتبة من العراق مقيمة في عمان

عن موقع صحيفة ” العرب “

‫شاهد أيضًا‬

الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يناقض أفكاره الخاصة عندما يتعلق الأمر بأحداث غزة * آصف بيات

(*) المقال منقول عن : مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية ألقى أحد الفلاسفة الأكثر…