قطعنا الشك باليقين، لم يعد هناك من شيء اسمه سياسة عربية رسمية جماعية تجاه قضية شعب فلسطين، وتجاه الخطر الصهيوني، على نحو ما كان في وسعنا أن نقول ذلك في سنوات الخمسينات والستينات، بقدر من الوثوق كبير، بل حتى إلى عهد قريب في العقد السابق،

ولو بمقدار كبير من التحفظ مشروع. فلسطين و“إسرائيل”، اليوم، خارج نطاق السياسة العربية تماماً، فهذه مشغولة بأمور الدنيا كلها إلا قضية الصراع العربي- الصهيوني. الشعب الفلسطيني أول من يدرك هذه الحقيقة من تجربته المريرة مع التجاهل العربي الرسمي لقضيته، لذلك كان أول شعب في أمتنا يفقد ثقته ﺒ”جامعة الدول العربية”، ويخرجها من حساباته، وخاصة بعد انطلاق “الربيع العربي”، وأول من يكون معدل أمله ضعيفاً من انعقاد قمة عربية، فلقد أطعمه الجميع كلاماً فائضاً ووعوداً غزيرة ينتهي مفعولها فور ما تختتم القمم أشغالها.

في الأثناء، وطوال هذه السنوات الأربع العجاف، لم تقدم “جامعة الدول العربية” لفلسطين وشعبها شيئاً: حتى حينما كان هذا الشعب يذبح على مرأى منها ومسمع، ولقد أصبح مألوفاً، في الأعوام الأخيرة، أن نرى جموع المتظاهرين في التظاهرات والمسيرات الحاشدة (على الأقل في المغرب) يرفعون عشرات النعوش التي كتبت عليها عبارة: جامعة الدول العربية، مشيعين إياها إلى مثواها الأخير.

في سياسات النظام العربي الرسمي، لم تعد “إسرائيل” عدواً، مثلما كانت منذ عام 1948 إلى العام 1982، أصبحت دولة تتمتع ﺒ”شرعية الوجود” – بعد أن أسست لتلك “الشرعية” فضيحة “كامب ديفيد”- وأصبح الصراع معها نزاعاً، ثم ما لبث النزاع أن أصبح خصومة لينحدر بعد ذلك إلى مجرد خلاف سياسي، يدور على مسألة “السلام”. السياسة العربية، اليوم، تكتفي بمعاتبة “إسرائيل” على عدم تجاوبها مع دعوات “السلام” العربية، فيما هي تجرّم كل فعل من أفعال المقاومة الفلسطينية والعربية ضد دولة الاغتصاب بدعوى أن ذلك يخرب “عملية التسوية”! ولقد ترك الشعب الفلسطيني وحده في الميدان يقلع شوكته بيده حتى من دون إسناد مادي، منذ حصار ثورته في بيروت، في عام 1982، حتى حروب العدوان المتلاحقة عليه في غزة 2008- 2014.

لم تكن “إسرائيل” في مأمن من أخطار محدقة، خلال تاريخها كله، كما هي اليوم في مأمن. حتى خطر المقاومات عليها بدأ يهون عندها لعلمها أن السياسة العربية لا توافق على هذا السلاح الذي هو في عرفها – كما في عرف أبي مازن- “سلاح غير شرعي”. تقول ذلك وكأن السلاح الصهيوني الذي يمزق أجساد أبناء شعبنا في فلسطين، ويدمر القليل مما لديهم من مقدرات، “سلاح شرعي”! تعرف الدولة الصهيونية أن “كامب ديفيد” فعلت فعلها، بالتدريج، في السياسة العربية الرسمية، وأنها تحولت إلى “نموذج” لنوع “الصلح” و”السلام” بين العرب و“إسرائيل”. كما تعرف الأخيرة أن السياسة العربية ظلت وفية لمقولة السادات الشهيرة “حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب العربية- “الإسرائيلية” فمن حينها، دخلت السيوف إلى أغمادها، وتمتعت “إسرائيل” بالراحة والأمان. لماذا لا تطمئن الدولة الصهيونية على نفسها، إذن، إذا كان كرم السياسة العربية الرسمية يمتد إلى حيث يمنحها إقامة مريحة في فلسطين، قلب الوطن العربي.

المفارقة الكبرى في أن هذه الاستقالة المديدة للسياسة العربية الرسمية، تجاه قضية شعب فلسطين الوطنية، تجري في لحظة تاريخية معاصرة تطبعها يقظة في الضمير السياسي الإنساني الغربي، وسعي متزايد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، إلى تصحيح كثير من سياسات التجاهل التي سلكتها، في الماضي، تجاه المطالب الوطنية للشعب الفلسطيني، فها هي قرارات الاعتراف بدولة فلسطين تتقاطر من البرلمانات والحكومات الأوروبية، وها هي الأمم المتحدة تعترف بها عضواً في رحابها فتمكنها من حق الانضمام إلى عشرات الاتفاقيات الدولية (آخرها الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية)، وها هي الإدارة الأمريكية – ولأول مرة في تاريخها- تطالب “إسرائيل” بإنهاء احتلالها للأراضي المحتلة عام 67 كي يمارس الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولته عليها… إلخ. وهكذا ينسحب النظام العربي الرسمي من المشهد في اللحظة عينها التي كان يفترض فيها أن يكون جاهزاً لاغتنام متغيرات جديدة إيجابية في الموقف الدولي من قضية فلسطين، ولاستثمار نتائج التناقضات الأوروبية والأمريكية مع السياسات الصهيونية. وتلك أيضاً من غرائب السياسة العربية.

*18 ابريل 2015

عن التجديد العربي

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…