ليس لدولة أن تقوم من دون أن تحتاز قدراً من الشرعية يبرر لها الوجود في أعين المحكومين، فالشرعية ملازمة للدولة حكماً، لأنها من مقتضياتها، وليست صفة هارئة مضافة إليها.

قد تتطور الدولة، أي دولة، من حد ما من الشرعية إلى حد آخر أعلى، وقد تنحدر من حالٍ عليا من الشرعية إلى حالٍ أدنى، لكنها – في الأحوال جميعها- لا بد من أن تقترن، وجوداً واشتغالاً، بنوع من أنواع الشرعية المعروفة في تاريخ الدول، والمصنَّفة في نطاق علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي. ولسنا نعني، هنا، بالشرعية مشروعية الدولة بما هي كيان جامع يوفّر للاجتماع الإنساني الاستقرار والغذاء والأمن الذاتي والسيادة على الأرض والثروات، في الرقعة الجغرافية التي تقيم فيها مجموعة بشرية ما ذات روابط دموية ولغوية وتاريخية خاصة، وإنما نعني بها ذلك المقدار من المقبولية الذي تتمتع به دولة ما، والذي من دونه تتحول إلى جسم مرفوض من المجتمع، أو من قسم كبير منه.

تستطيع الدولة، بما هي كيان قهري قادر على ممارسة فِعْل الإلزام بما لديها من أدوات، أن تفرض سلطانها على المحكومين، وأن تحملهم على الإذعان إلى ذلك السلطان، من طريق القوة التي تمتلك وسائلها. يحدث ذلك – عادة- في مراحل تكون الدولة كما في مراحل الأزمة فيها، ولكنه لا يشكل قانوناً للسلطة والسيطرة، فالدولة لا تستطيع أن تستمر في ممارسة القهر من دون أن تعرّض نفسها، في لحظة من تراكم تلك الممارسة، إلى اعتراض عام عليها قد يهددها بثورة أو بحرب أهلية. لذلك تحتاج الدولة، كي تستقر وتؤدي وظائفها الاعتيادية بسلاسة، إلى قدرٍ من الرضا الجماعي بها، أي تحتاج إلى أن تتحصل من المحكومين شعوراً بالمقبولة يجعلها شرعية في نظرهم. ومن النافل أن ذينيك الرضا والمقبولية لا يتأتيان لها من طريق القوة والعنف، ولكن من طرق أخرى تتوسل فيها قيماً عليا، تحولها أهدافاً للدولة، وتؤلف حولها إجماعاً، أو شبه إجماع، من قبل المجتمع.

إن العنف، كما أشرنا إلى ذلك في مناسبات مختلفة في هذا المنبر، ليس جوهراً أو ماهية للدولة، مثلما يعتقد ذلك كثيرون خطأ، وإنما هو مما قد يُفترض على الدولة أن تلجأ إليه حين يختل نظام الأمن وتتعرض قوانينها للانتهاك. وهي، هنا، تمارسه لغرض محدد: إنفاذ أحكام القانون وإعادة الهيبة إليه وإلى الدولة الساهرة على تطبيقه. أما ما خلا ذلك، يكون على الدولة أن تستحصل على الاعتراف من رعاياها أو مواطنيها، بسياسات أخرى لا يكون للعنف المادي مكان فيها. على أن تحصيل الاعتراف والرضا والمقبولية قد يأتي من طريق سياسات مطبقة ترضي المجتمع، وتُشبع مطالبه وحاجاته، مثلما قد يأتي من تنصيب مجموعة من المبادئ بوصفها المصادر التي تُشتق منها السياسات، أو يأتي من طريق أفعال أيديولوجية تلجأ الدولة إلى ممارستها قصد تحقيق هيمنة لأفكارها المؤسسة، وترسيخها في المجتمع عبر أقنية مختلفة.

لا تعني الشرعية المعنى نفسه عند الحاكمين والمحكومين في الدولة الواحدة، ما يمكن أن يُعد من عناصر الشرعية ومكوناتها عند هؤلاء لا يكون كذلك، بالضرورة، عند أولئك الذين قد تعني عندهم معنى آخر. لا يحدث هذا التضارب في معنى الشرعية دائماً وفي المجتمعات كافة، لكنه الغالب على النظرة إليها عند الفريقين.

غير أن الذي لا شك فيه أن منظومة الشرعية، في أي دولة، إنما تتألف من اجتماع المنظورين، ذلك أن الذين يمتلكون سلطة الدولة لا يستطيعون فرض رؤيتهم إلى الشرعية – حتى لو كانوا قادرين على ذلك بما يملكون من وسائل- من دون أن يغامروا بفقدان الشرعية في أعين المحكومين! ولذلك، لا مهرب لهم من أخذ رؤية المجموع الاجتماعي إلى الشرعية في الحسبان، واستدخالها في تكوين منظومتها، ما دام هدف كل نخبة حاكمة هو، بالذات، تحصيل الرضا والمقبولية: اللذين لا يتأتيان بالإكراه، بل من طريق الاختيار الطوعي. والأذكى في النخب الحاكمة من تميل إلى تقديم التنازلات الضرورية أمام منظور المحكومين إلى الشرعية، فتأخذ به حتى وإن كانت لا تستطيع، لأسباب عدة، أن تحوله إلى سياسات مطبقة أو قابلة للتطبيق.

لا يتعلق تشكيل منظومة الشرعية، من التأليف بين المنظورين إليها، بمدى ما يُقدم عليه الحاكمون من تنازلات ضرورية لمنظور المحكومين إلى الشرعية فحسب، بل يتعلق – أيضاً- بتسخير ما بين الفريقين من مشتركات ثقافية وقيمية وسياسية في تأليف تلك المنظومة، بحسبانها المشتركات التي ترضي الفريقين والمجتمع برمته، وتشكّل قاعدة عامة قابلة لأن يُحتكم إليها. ليست المشتركات تلك أكثر من المواريث الثقافية والقيمية في مجتمع ما، من تلك التي يُنظر إليها، عادة، وكأنها من المصادر التي تكوّن روح ذلك المجتمع أو هويته، كما أنها (= المشتركات) لا تعدو أن تكون جملة القيم التي وقع التواضع عليها، في مجتمع ما، كي تكون قواعد حاكمة له وللسياسة فيه. لنقدم، هنا، مثالين تاريخيين لتلك المشتركات التي تكوّن قاعدة الشرعية:

المثال الأول: في المجتمعات والدول التاريخية التقليدية، هو الدين، لم يكن الدين في كثير من تلك المجتمعات – المسيحية والإسلامية- مجرد منظومة عبادات فحسب، وإنما نُظر إليه – في فترات مختلفة- بما هو نظام اجتماعي يمكن أن تُشتق منه مبادئ حاكمة للسلطة والدولة. وحين قامت الخلافة، في الإسلام، والدولة الدينية في أوروبا الوسطى، بل والدولة السلطانية بعد زوال الخلافة، كان المجتمع – حاكمين ومحكومين- يرى، وإن بدرجات متفاوتة، أن الدين هو مصدر الشرعية. المثال الثاني، في المجتمعات والدول الحديثة، هو العقل: الذي اهتدى إلى التعاقد والتوافق على القواعد الحاكمة للمجتمع والدولة. إن مبادئ الحرية، والقانون، والمواطنة هي تلك القواعد التي عُدَّت مشتركة، ونُظر إليها بوصفها الحاكمة، والتي منها تولَّد النظام الديمقراطي الذي يعتبر الشعب مصدر السلطة، وبالتالي، مصدر الشرعية.

هذان مثالان من التاريخ عن كيف يمكن لمنظومة الشرعية، في دولة ما، أن تُشتقّ من إجماع آخر هو الإجماع المجتمعي على قيم ثقافية عليا مشتركة داخل المجتمع.

 

*عن التجديد العربي

الأربعاء, 15 أبريل 2015

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…