الفساد المالي في قواميس اللغة، و في القواميس الاقتصادية السياسية والمالية، يعني، الاعتداء على المال العام نهبا أو اختلاسا، باستغلال النفوذ أو الزبونية، أو باستعمال وسائل وطرق خارج القانون.
والمال العام في نظر فقهاء الشريعة و فقهاء القانون، هو كل ما تعود ملكيته للأمة، سواء كان نقدا أو عقارا أو وسائل نقل أو أدوات، ليس من حق الأشخاص الذاتيين أو المعنويين التصرف فيه، فهو أمانة في عنق أولي الأمر من المسؤولين الذين يتولون تدبيره نيابة عن الأمة باسمها و لفائدتها.
و لأن المال، مارد جبار، تخضع له الرقاب و تنجذب له النفوس، يحث على الخيانة و الكذب والتزلف والنفاق و الضعف و التقهقر ليصبح فساده… منظومة واسعة تستقطب الخونة والمنافقين والضعفاء، و كل الذين باعوا ضمائرهم للشيطان … وما أكثرهم في الزمن الراهن.
والفساد المالي ليس معضلة مغربية، فثمة اليوم جرثومة خبيثة تنخر جسد “النظام الدولي الجديد” تدعى الفساد المالي… وقد أصبح هذا الفساد ظاهرة رائجة متجددة في المجتمع العالمي ومتجذرة في حوالي مائة و ستين (160) دولة، حسب تقارير المؤسسات المختصة في عالم الجريمة.
وقد نظمت الهيئات و البنوك و الصناديق الدولية خلال العقدين الماضيين، العديد من المؤتمرات و الندوات، لمناقشة هذه الظاهرة على المستوى الأخلاقي و الثقافي و الحضاري، بهدف التوصل إلى علاجات قابلة للتنفيذ، والى قوانين لازمة و قادرة على استئصالها من جذورها و تخليص النظام الاقتصادي من شرورها.
هكذا أظهرت الدراسات العلمية التي اعتنت بهذه الظاهرة، أن الفساد المالي لا يعم فقط الدول المتخلفة، و لكنه يشمل الكثير من الدول الصناعية و النامية…كما أظهرت أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية التي يمر بها العالم اليوم، و هو في قلب الألفية الثالثة، قد زادت أمر هذا الفساد تعقيدا، بسبب الفراغ المؤسساتي الذي نجم عن انهيار الاتحاد السوفياتي، وكل المعسكر الاشتراكي، وهو ما وفر بعض الفرص الجديدة لشبكات الفساد الإداري والجريمة المنظمة في العديد من دول الغرب وإفريقيا و آسيا، للانخراط في هذه الظاهرة.
وليس بعيدا عن الدراسات و المؤتمرات العلمية / العالمية التي اعتنت / تعتني بالفساد المالي، هناك الواقع اليومي الذي يعطي الدليل القاطع، على التوسع المستمر لدائرة الفساد في عالم اليوم.حيت تجدب قوة المال رؤساء دول و حكومات ووزراء ومسؤولين على مستويات مختلفة إلى السقوط في فخ الإغراء، حيث يضبط القانون كل لحظة مئات الملايين من الدولارات ،تدخل الحسابات السرية الخاصة، لقاء خيانة الأمانة و خيانة القانون.
إذن …الفساد المالي، ليس ظاهرة أو قضية مغربية أو افريقية، فهو ظاهرة شائعة في العديد من دول الشمال و الجنوب، تحتل مكانة متقدمة في العالم الثالث/المتخلف، إذ تستغل طبقة المفسدين مواقعها بالسلطة، داخل الإدارة العمومية وخارجها، للقيام بانحرافات وسرقات للحصول على الامتيازات والأراضي و العقارات والصفقات و القروض الكبيرة، وهي سلوكيات تتخذ مظهرا سياسيا في العديد من هذه البلدان.
وحسب ملاحظات الخبراء الدوليين حول هذه الظاهرة، فان وضع الفساد المالي الممزوج بالسياسة، أبرز في العالم المتخلف / السائر في طريق النمو ظواهر جديدة، تتصل بتبييض أموال الرشوة و تهريب المخدرات و الاتجار في ” اللحم البشري”، و الصفقات و الأموال المسروقة و المهربة، و هو ما طبع العلاقات بين المؤسسات المالية بالعديد من دول العالم المتخلف / السائر في طريق النمو. والبنوك و المؤسسات المالية الدولية بعدم الثقة و الارتياب.
الفساد المالي، كما أنه يشكل احد أهم العوامل المؤسسة للتخلف، يعتبر إساءة مطلقة لاستعمال الوظيفة العمومية للكسب الخاص أو لمراكمة المكاسب على حساب مصالح الدولة، أو لتضخيم الثروة الشخصية أو الاستفادة إلى أقصى حد من تأثير النفوذ المالي للبقاء في السلطة.
والفساد المالي ظاهرة خطيرة و مؤثرة، ابتلى بها المغرب في عهد احتكار السلطة، طبع الفاعلية الاقتصادية والاجتماعية على مدى فترة طويلة من الزمن المغربي. صنع تحالفات متعددة متداخلة ومتشابكة بين شركاء السلطة و شركاء السياسة، و شركاء المال و الأعمال، بين الوسطاء والبيروقراطية الفاسدة، و هو ما صنع في النهاية “اللوبي” الذي اتخذ بتراكم السنين حجم الغول الذي أصاب الديمقراطية و حقوق الإنسان و المواطنة بخسائر فادحة لا تقدر بثمن.
و الفساد المالي،لم يوجد على الأرض المغربية بالصدفة، انه جاء نتيجة طبيعية و عادية لفساد متعدد الأسماء و الصفات والانتماءات و الأشكال، وجد مناخه المناسب في إدارة مريضة بالرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ، في مناخ سياسي / حزبي مريض و مترهل، فتغلغل وتعمق في فضاءاتها، إلى ان صنع منها منظومته المشؤومة.
و على أن ظهور “الفساد المالي” بالمغرب، لا يعود لحقبة معينة من التاريخ، فإنه ارتبط دائما بسلسلة من الظواهر السلبية، منها الفقر و الأمية و الجريمة المنظمة و العبث بحقوق الإنسان، و بمفاهيم دولة القانون. ففي فترات غابرة من تاريخ المغرب سيما قبل الفترة الاستعمارية (1912_1956) عانت البلاد من فساد مالي تنوعت أساليبه و أشكاله و مآسيه و تنوعت مظالمه و فواجعه، حيت كان ” إعلان الحماية” نتيجة طبيعية و حتمية لأثاره.
و الفساد المالي في التاريخ و في الجغرافيا لم يكتف بالاعتداء على مال الدولة و مال الشعب نهبا و اختلاسا و ابتزازا، و لكنه عمق دائما ثقافة احتكار السلطة و مصادرة الحريات و فساد القيم الانتخابية وتغييب الرقابة وإلغاء دور المجتمع المدني داخل مؤسسات القرار السياسي، لتبقى منظومته حية ومستمرة وبعيدة عن المساءلة.
و الفساد المالي هنا وفي مختلف أنحاء الدنيا،كان و لا يزال هو العدو الأول و الأساسي للتنمية الديمقراطية، انه آلية خفية يخترق القانون والقرارات السياسية و المؤسسات الإنمائية، ويحول الحكومات والبرلمانات والمحاكم، إلى مؤسسات شكلية، كما يحول المجتمع إلى فضاءات للعبث و المتاجرة.
إن نهب المال العام، يشكل خرقا قاسيا للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية المنصوص عليها في المواثيق و العهود الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، خصوصا العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي تؤكد جميعها على حقوق المواطنين في ثروات بلدانهم و خيراتها بالمساواة. وعلى حقهم في الإعلام و الخبر والوصول إلى مصادره والمشاركة في الشأن العام و مراقبته و تدبيره. وعلى حقهم في مساءلة كل من يخل بالمسؤولية.
واعتبارا للترابط الوثيق غير القابل للتجزؤ ما بين الحقوق السياسية والمدنية من جهة و الحقوق الاقتصادية من جهة أخرى والذي يعتبر على أساسه، السطو على المال العام و تهريبه أو نهبه، سطو وانتهاك خطير لحقوق الإنسان، لما ينتج عنه من أخطار الفقر والبؤس الاجتماعي، ومن إمكانيات التلاعب بأصوات المواطنين واختياراتهم و دورهم في المشاركة في الحياة العامة الوطنية.
وتأسيسا على ذلك يعتبر الفساد المالي من صلب الجرائم الاقتصادية التي تخل بتوازنات المجتمع و حيويته، التي أدت، بالإضافة إلى حرمان المغرب من استغلال ثرواته، إلى الفقر المدقع لشرائح واسعة من أبنائه و إلى ارتفاع نسبة الأمية و انخفاض مستوى الدخل، وإلى ارتفاع نسبة البطالة و خاصة بالنسبة إلى حاملي الشهادات.
يعني ذلك، أن الفساد المالي، في عالمنا اليوم، لا يقتصر على تحويل إمكانات الدولة وأموالها ونفوذها للمصالح الخاصة، بل هو أكثر من ذلك، إجرام يعمل على تحويل الدولة إلى أداة لنهب الثروات و تراكمها في جيوب وأرصدة الخونة / الفاسدين. والى احتكار المناصب والزعامات والانفراد بها. وبالتالي إلى تخريب الديمقراطية و قيمها وتحويلها إلى ديكتاتورية و من ثمة أصبح هذا الفساد اللعين، يشكل تحديا حقيقيا للتنمية والاستقرار السياسي، نجمت عنه عواقب كارثية، أثرت سلبا على المجتمع والسياسة والاقتصاد، وعلى قدرات الدولة على إيجاد الحلول لمشاكلها المتراكمة و المتداخلة، و تحقيق طموحات المواطنين في الانتقال الديمقراطي و التنمية و الحداثة.
*عن صفحة الفيس بوك للاستاذ اديب السلاوي
13 ابريل 2015