يعتبر أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أن إمارة المؤمنين هي النظام الأصلي الموافق للإسلام، وأن المغرب هو الحالة الوحيدة في العالم التي استمر فيها هذا النظام باسمه ومضمونه وشاراته وشروطه. مضيفا أن الدين الإسلامي صار يهم البلدان الأوربية كمسألة ديمقراطية وأمنية واجتماعية، مسجلا أن المسلمين الأوروبيين من أصل مغربي يعتبرون عنصرا فاعلا في معادلة الشأن الديني والالتزام بالثوابت المحلية، وأن الموقف الرسمي وكذا الرأي العام في أوروبا صار يميز سلوك هؤلاء الفاعلين من أصل مغربي مع إرجاع هذا التميز إلى ثوابت ثقافية.
وأوضح التوفيق أن الحديث بإسهاب عن التعاون المغربي الأوربي في مجال التدبير الديني لم يحن بعد، وأن ثلاثين إماما من المغرب يوجدون في مساجد فرنسا، كما أن عدد من الوعاظ يتوجهون في كل شهر رمضان إلى دول أوروبية، تطلبهم الجمعيات وتمنحهم هذه الدول تأشيرات على أساس تلك المهمة. وقال إن المغرب يتلقى دعوات تعاون في الميدان الروحي مع دول أخرى، ولكنها اتفاقيات تعاون عادية، أما الخبرة في تدبير الشأن الديني وتكوين الأئمة فقد وردت بها طلبات ووافق عليها أمير المؤمنين..
في ما يلي نص الحوار
تعرف إمارة المؤمنين، في ظروف العالم الحديث، إشعاعا غير مسبوق قاريا ودوليا، إلى ماذا تعزون هذا الإشعاع؟
الإشعاع الذي تعرفه إمارة المؤمنين، قاريا ودوليا، يرجع إلى أنها حافظة للاستقرار وساهرة على التقدم في بلد مسلم، في الوقت الذي تتعرض فيه عدد من بلدان المسلمين لزوابع سياسية واضطرابات اجتماعية وحيرة فكرية. لاشك أن لهذه الوضعية علاقة بمشروعية الحكم على النمط الذي يتشوف إليه الضمير الإسلامي، وهو الجمع بين إمارة شؤون الدين وشؤون الدنيا، دون السقوط لا في ثيوقراطية استبدادية ودون الوقوع في علمانية لا يهمها أمر يعتبر عند الغالبية مبررا للحياة وهو الدين كشأن جماعي لا كمجرد همٍّ فردي. والأمر يحتاج إلى بعض الشرح لمضمون هذا النظام، نظام إمارة المؤمنين. إن إمارة المؤمنين هي النظام الأصلي الموافق للإسلام, حيث يكوِّن هذا الدين دولة ومجتمعا وأمة، والمغرب هو الحالة الوحيدة في العالم التي استمر فيها هذا النظام باسمه ومضمونه وشاراته وشروطه. ويتجلى هذا الاستمرار في البيعة الشرعية التي تتم لأمير المؤمنين عند توليته، وتجدد له كل عام بمناسبة عيد العرش، ويتم الإقرار بها كل أسبوع على منابر المساجد عند الدعاء للسلطان في خطبة الجمعة. ولكي يتبين بوضوح أن هذا النظام ليس ثيوقراطيا يملي فيه الحاكم أمره وإرادته وشهوته على الناس، يجب الوقوف عند طبيعة البيعة ومضمونها. فالبيعة من حيث الطبيعة عقد سياسي، والاسم «بيعة» عندما يترجم يختار لترجمته لفظ «أليجانس» (allégeance)، والواقع أن كلمة «أليجانس» لفظة من قاموس الولاء الفيودالي، بينما كلمة «بيعة» من البيع، أي من القاموس التجاري. ومقتضى ذلك أن البيعة عقد وتعاقد، ومعلوم أن لفظ العقد (contrat) استعمل في السياسة من خلال كتابات مفكري الأنوار في التاريخ الأوروبي في القرن الثامن عشر. فعلى ماذا يتم التعاقد في البيعة بين الأمة المبايعة والأمير المبايع بصفته أميرا للمؤمنين؟ يتم التعاقد على أن يلتزم المبايع للأمة بحفظ خمسة أمور سماها منظرو «الأحكام السلطانية» ب «الكليات الخمس»،
وهي:
1) حفظ الدين 2) حفظ النفس 3) حفظ العقل 4) حفظ المال 5) حفظ العرض.
1) أما حفظ الدين، فلأن الدين يعطي المعنى للحياة بجوابه عن سؤال المبدأ والمعاد؛
2) أما حفظ النفس، فهو حفظ حياة الناس لما لها من حرمة وقدسية عند الله؛
3) أما حفظ العقل، فيشمل المرجعيات المحتكم إليها بقصد العدل الضامن للتساكن؛
4) أما حفظ المال، فيشمل ضمان ثمرات جهود الناس وسعيهم المشكور من تملكات واستحقاقات؛
5) وأما حفظ العرض، فيدخل تحته كل ما يمكن أن يسمى اليوم بالكرامة، ومصطلح العرض المصون وارد بكثرة في الشعر العربي بصفة أشمل، ولشرف المرأة فيه مقام خاص.
إن هذه الكليات مشروحة في كتب الفقه، سواء في أبواب الأحكام أو في أبوب الأخلاق والمكارم. وليست من فلسفة الحكم لأن مضامينها محسوسة في متناول الجميع، ولا أحد يجهل مضمونها، سيما عندما يقع الإخلال بها أو انتهاكها.
إن عقد البيعة في المملكة المغربية عقد مكتوب على توالي القرون. وهو عقد يتكون الطرف المتعاقد فيه من الفئات النافذة قبل النظام الحالي للانتخاب، وهي العلماء والشرفاء وشيوخ الزوايا ورؤساء العسكر وأعيان التجار وأعيان القبائل. ويكون أولا من العواصم ثم يتتالى من الأقاليم.
ومن التنزيلات التلقائية التي وقعت في السنوات الأخيرة أن المنتخبين المحليين قد عوضوا الأعيان بسلاسة في التعبير عن البيعة بمناسبة عيد العرش، وكان رؤساء الأحزاب السياسية قد وقَّعوا قبل ذلك على بيعة صاحب الجلالة محمد السادس. ظهر من المفيد التذكير بهذه العناصر المتعلقة بإمارة المؤمنين ليتسع فهم خصوصيتنا عندنا وعند الغير ممن امتد إليهم إشعاعها من جهة ولكي نفهم لجوء أصحاب المشاريع السياسية إلى استعمال لقب «الخلافة»، كما لو أن اللقب وحده يقوم بالمشروعية.
مُسلمات يستغلها الإرهابيون
1 . الإيمان بأن الدين هو الذي يعطي المعنى للحياة؛
2 . اعتبار بعض الوقائع الجارية، في التاريخ الحاضر، ملتبسة بحيث تشوش على الضمير المؤمن بالقيم المثلى للدين؛
3 . اعتبار العدل في مختلف مستوياته قيمة مركزية في الدين؛
4 . النظر إلى الدين على أنه يشمل كل ما تقوم عليه وتنتظم به الحياة، الفردية منها والجماعية.
وعلى هذا الأساس، فإن فكرة الإرهاب يمكن أن تتسرب إلى العقول باستغلال الهشاشة في حياة المسلمين، ولاسيما في الجوانب الثلاثة الآتية:
1. المشروعية السياسية من منظور الالتزام بكليات الدين؛
2. تأويل النصوص في غياب سلطة دينية علمية وازنة؛
3. فراغ أو ضعف في التأطير الديني أو الخدمات الدينية.
> من كلمة وزير الاوقاف في الأمم المتحدة في أكتوبر 2014
أصبحت التجربة المغربية في تدبير الحقل الديني وتنشيط الوسطية أهمية مطلوبة أوروبيا (بلجيكا، فرنسا، إسبانيا) كيف تتابعون من موقعكم كوزارة هذا الأمر؟
لابد من التنبيه إلى أن عبارة «تدبير الحقل الديني» التي صارت جارية على الألسن عبارة تولدت من الإصلاحات التي عرفتها البلاد في السنوات الأخيرة، ومن يذكر «التدبير» يفترض تحديدا للموضوع ولطبيعته ولمنطلقات العمل فيه ومقاصد هذا التدبير، مع مايتطلبه ذلك من وسائل بشرية ومالية مناسبة.يتجلى هذا التدبير، قبل كل شيء، في الحرص على أن يكون الدين مصدر تعبئة لقيم الخير وألا يكون مصدر فتنة، ويتم ذلك بتوفير الخدمات الدينية التي هي مطلب اجتماعي وبممارسة الخطاب الديني داخل الثوابت التي هي اختيار المغرب في العقيدة والمذهب والسلوك الروحي، وهذا ما يتطلب ثلاثة أمور هي: حماية المساجد في إطار الثوابت وعدم الاستعمال السياسي للدين، وعدم استعمال الدين عرقلة لكل إصلاح نافع لا يتعارض مع قطعيات الشرع. فهذه متطلبات تدبير سليم للدين، وموقع أمير المؤمنين في هذا التدبير موقع الحامي المصلح، وهو يستعين في هذا التدبير بالمرجعية العلمية أي بمؤسسة العلماء، فيمكن القول إن الظروف التاريخية ذهبت ببلدان أخرى في اتجاهات لم تتوفر معها الشروط التي توفرت في المملكة المغربية.
فالبلدان التي أشرتم إليها علمانية، مع تفاوتها في ممارسة العلمانية، إذ منها من يمول التأطير الديني من المالية العامة ومنها من لا يتدخل قط في هذا المجال، وحيث إن هذه البلدان متنوعة في تركيبها الثقافي، فإن الدين صار يهم هذه البلدان كمسألة ديمقراطية (مطالب بعض الفئات)، وكمسألة أمنية (لأن المساجد يمكن أن تكون منبعا للخطاب العنيف)، ومسألة اجتماعية (من جهة الحرص على طمأنينة مجتمعات تسعى إلى تحقيق شروط المواطنة دون تشنج).
الوزارة تتلقى زيارات تعبر عن وتيرة جديرة بالاهتمام، وتشرح ما عليه التدبير عندنا بمعطياته، وينتظر أن تتغير المواقف على أساس أن هذا النموذج نافع براغماتيا، علما بأن الحساسيات السياسية في أوروبا لا تسهل المبادرات في هذا الشأن.
ما هي أوجه التعاون المغربي الأوروبي في ميدان رعاية الوسطية الدينية وتحصين المؤمنين من كل العالم الإسلامي، وفي الغرب، من التطرف؟
إن وجود نموذج يناضل بنجاعة وعقلانية ضد العنف المستعمل للدين إسهام في الحماية من هذا الوباء المسمى الإرهاب، ومعلوم أن عددا من مواطني الدول الأوروبية أو من القاطنين فيها هم من أصل مغربي، والمشهود به لهؤلاء أنهم يحرصون على الثوابت الدينية لبلدهم الأصلي ويفتخرون بثقافتهم بصفة عامة. يوجد هؤلاء في تلك البلدان كرواد مساجد وكمسيرين لجمعيات المساجد وفق قوانين تلك الدول. وبالرغم من أن هؤلاء المهاجرين تركوا لحالهم سنين عديدة، وبالرغم من أن الدعم الذي يقدمه المغرب غير كاف بالنسبة للانتظارات، فإن هؤلاء الأوروبيين من أصل مغربي يعتبرون عنصرا فاعلا في معادلة الشأن الديني والالتزام بالثوابت المحلية، وقد صار الموقف الرسمي وكذا الرأي العام في أوروبا يميز سلوك هؤلاء الفاعلين من أصل مغربي مع إرجاع هذا التميز إلى ثوابت ثقافية.
إن هذا الاعتراف يبعدنا عن النظرة الكاريكاتورية التي ترى الإسلام ككل مصدرا للإرهاب. إن التعاون الرسمي بين المغرب وأوروبا في ميدان الشأن الديني ما يزال في بدايته، ولكن هنالك وجود فعلي وازن للمغاربة مدعومين معنويا من بلدهم وماديا بما تيسر لحد الآن.
نود منكم الحديث عن الفرق في تعاون المغرب مع كل دولة على حدة، وفي أوروبا تحديدا؟
لم يحن بعد وقت الحديث المسهب في هذا الموضوع، والعملية التي كانت محل اتفاق رسمي منذ عدة سنوات تهم اشتغال ثلاثين إماما من المغرب في مساجد بفرنسا، ومن الناحية العملية هنالك عملية بعث عدد من الوعاظ في كل شهر رمضان إلى دول أوروبية، تطلبهم الجمعيات وتمنحهم هذه الدول تأشيرات على أساس تلك المهمة.
هل يتلقى المغرب دعوات تعاون في الميدان الروحي مع دول أخرى غير التي ذكرناها؟
نعم يتلقى المغرب دعوات تعاون في الميدان الروحي مع دول أخرى، ولكنها اتفاقيات تعاون عادية، أما الخبرة في تدبير الشأن الديني وتكوين الأئمة فقد وردت بها طلبات ووافق عليها أمير المؤمنين من خمس دول إفريقية، وهنالك نوايا لطلبات أخرى قادمة.
كلمة أخيرة
إن بناء هذا النموذج في الشأن الديني يستند أساسا إلى فاعلية إمارة المؤمنين في حماية الدين وتنمية خدماته وتعليم قيمه، وحيث إن هذه السيرورة تجري في سياق تنزيل سياسي لكل الإصلاحات, فإن للفاعلين السياسيين مسؤولية كبيرة في الالتزام باحترام ضوابطها التي تتلخص في مراعاة الحياد إزاء أماكن العبادة وعدم محاولة استقطاب القيمين فيها وعدم الإشعار بأن هنالك مواقف مخالفة للثوابت. متى صرنا آمنين مطمئنين على مساجدنا من الاختراق السياسي فسيكون بالإمكان المرور إلى المرحلة الموالية، وهي مرحلة استثمار الدين في عدد من وجوه التعبئة للخير من أجل التخفيف من كلفة الحياة، ولا حصر لثمرات هذا التجاوز على بلدنا وعلى غيرها وعلى صورة الإسلام خاصة.
المشروعية الدينية للحاكم
تعد حالة المغرب مثالية في ثبوت المشروعية الدينية للحاكم، لأن إمارة المؤمنين، في بعدها الرمزي والوظيفي، هي النظام الأصلي في الإسلام، إذ تقوم على البيعة، و البيعة تعاقد على الولاء مقابل التزام الحاكم بحماية ما يسميه الفقهاء ب»كليات الدين»، وهي تشمل خمسة ميادين: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ المال، وحفظ العرض. ويشمل مضمون هذه الكليات ضمان كل الحقوق التي تنص عليها الدساتير الحديثة، تضاف إليها حماية الدين، ولابد أن نشير إلى أن عقد البيعة في المغرب عقد مكتوب، تعاد كتابته عند تولية ملك جديد، ويتجدد التعبير عن البيعة كل سنة في ذكرى تولية الملك على العرش، ومن وجوه الانسجام مع العصر أن التعبير السنوي عن الولاء لم يعد يقوم به الوجهاء والأعيان، بل صار يقدمه المنتخبون المحليون. أما على صعيد الحياة الدينية، فالبيعة تجدد أسبوعيا في خطبة صلاة الجمعة، حيث يتم الدعاء للسلطان، بمحضر ملايين من المصلين.
إن هذا النظام نظام غني بتجربة تاريخية، وحس في التواصل العقلاني والعاطفي مع الأمة، نظام له بعد روحي آخر هو النسب الشريف، كما له رصيد في الحفاظ على الوحدة الترابية والنضال ضد الاستعمار.
والالتزام بالكليات مستمر اليوم في أعمال الإصلاح التي تتحقق بها، في كامل تفريعاتها التفصيلية التي تشمل السياسة والاقتصاد والمجتمع، بالأسلوب الحديث الذي يتطابق مع الدستور. وحيث إن إمارة المؤمنين هي المسؤولة عن حماية الدين والمختصة بشؤونه، فإن منطق البيعة لا يترك مجالا لأي مشروع سياسي على أساس الدين، لأن السياسة ينظمها الدستور ويمارسها الفاعلون في مؤسساتها وبلغتها وضوابطها.
أما حماية الكليات الأربع الأخرى، غير الدين، فتقتضي القيام بجميع الإصلاحات، وفي مقدمتها الأمن والعدل وترقية المعاش. وهكذا فالناس في الحياة اليومية في المغرب، يحكمون على العمل الإصلاحي لأمير المؤمنين على أنه يحمي كليات الشرع، من خلال نشاط دائب، لا فرق في تجلياته بين الخروج للصلاة وتدشين المساجد، وبين إطلاق المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، بما فيها المبادرات التي تنمي التضامن وتحارب التهميش والإقصاء.
*من كلمة وزير الاوقاف في الأمم المتحدة في أكتوبر 2014