من المغالطات الكبرى التي يروج لها دعاة الإجهاض ، أن هذا الأخير يمكن محاربته من خلال تقنينه و احتوائه، معتبرين أن أنجع وسيلة للوقاية من الإجهاض هي دمجه ضمن المنظومة القانونية، فالإجهاض حسبهم ليس مبحثا يثار في دائرة الدين و الأخلاق و دائرة المجرد . بل هو مبحث اجتماعي يجب النظر إليه على ضوء الواقع ، و لذلك لا ينبغي أن نتحاور حول الإجهاض في معناه العاري الذي يتفق الجميع على إدانته بوصفه وأدا للحياة و بوصفه فعلا منبوذا يمجه الذوق ، بل ينبغي أن ينصب النقاش على الضرورة القصوى و المحلة لتنظيم و تقنين الإجهاض السري كممارسة موجودة بقوة الأمر الواقع.
و لتبرير دعوتهم هاته، يبرزون كيف أن الإجهاض السري يتضمن عدة مضاعفات جسدية و نفسية ويجري في ظروف غير آمنة، وأنه يهدد صحة و حياة الحامل، كما أنه استغلال بشع لامرأة توجد في وضعية هشاشة، لاعتبارات مادية أو اجتماعية أو دينية، و يخلصون إلى أن لا وسيلة لمكافحة هذه الظاهرة، غير إخراجها من دائرة السرية والقبول بها علنا، أي شرعنتها قانونيا فيتخيلون هم لأنفسهم ويزينون لغيرهم من أصحاب القرار وللمجتمع بأسره أن تقنين الإجهاض أمر إيجابي وأخلاقي، و أن الممانعين يصدرون عن خلفية إيديولوجية محافظة، تروم الوصاية على جسد المرأة و الإبقاء على الأرباح الطائلة التي يتداولها المنتفعون من سوق الإجهاض، فيعلنون للجميع أن معركتهم من أجل الإجهاض هي معركة حرية ضمير و معركة حريات فردية و حقوق مدنية . أما الأقل تطرفا في صفوف دعاة الإجهاض فينادون بتقنينه باعتبار ذلك هو الحل الأقل ضررا بكثير من استشراء ظاهرة الإجهاض السري. ويركز الداعون للإجهاض على الأرقام، لتدعيم مطلبهم بالتقنين، بل و يصنعون الأرقام صنعا، ليبرزوا كيف أن الإجهاض هو رغبة شعبية عارمة، وأنهم لا ينادون إلا بما يرغب فيه الناس و لا يترجمون إلا أحاسيسهم الدفينة ، فلذلك عندما يدفعون بأن 1000 امرأة تجهض يوميا بالمغرب، فإنهم يستحضرون من وراء الستار الفكرة الديمقراطية، فهذه نسبة و شريحة مهمة من النساء، من المجحف جدا أن لا يعبئ بها أو لا يستجيب لها المشرع ، فهذا هو التأويل الوحيد الذي نستنتجه من رقم مخيف كهذا، و هذا هو الضغط الضمني الذي تشكله هذه الإحصائيات على المسؤولين، لكن دعاة الإجهاض يصدرون في هذه الطرح عن فهم خاطئ للقانون ولوظيفة القانون داخل المجتمع ، فالأرقام على افتراض أنها صحيحة، فإنها ليست أبدا مسوغا لتحرير الإجهاض ، لأن الأرقام ليست مبررا للتطبيع مع الآفات و الظواهر السلبية ، هي رصد و تشخيص لجسامة المشكل وإلحاحية التصدي لمعالجته، وليست مبررا للتشريع و التقنين ، فهل إذا ارتكب 1000 مغربي جنحة السرقة و الرشوة كل يوم نصدر أيضا قانونا يبرر الرشوة و السرقة؟ و هل ستصيح الرشوة و السرقة أمران مقبولان بمجرد ما أن يدمجا في المنظومة القانونية ؟، وهل نقنن كذلك الدعارة و المثلية الجنسية لان بعض المغاربة يقبلون بهذا ؟ ليس هناك منطق أغرب ولا أغبي من هذا المنطق . أن يطوع الواقع القانون . لا أن يسعى القانون إلى تغيير سلبيات الواقع .
فالقانون هو الذي يضع للمجتمع الأفق الذي يسير إليه كل يوم، ويصوغ له المثال الذي يجب أن يرنو إليه ، هو الذي يحدد سقف الأخلاق الذي تنشده كل امة في أعماقها .
إننا لسنا مجتمع ملائكة، لكننا لا نريد أن نكون مجتمع شياطين، و كلنا خطاؤون ،لكن هناك فرقا كبيرا في أن تعي خطئك وبين أن تهرب إلى الأمام، فتحاول أن تحل الخطأ محل الصواب و الانحراف محل الفضيلة.
خطا كبير، ومنحدر مخيف وسحيق أن يختلط على القانون الخير و الشر و الحق و الباطل ، فإذا أصبح سقف القانون، هو الإجهاض، فمعناه أننا نؤسس لمجتمع تتفشى فيه الأمراض الاجتماعية، ومعناه فقدان الأمل في الإصلاح، أما إذا كان السقف هو تجريم هذه الممارسة، فمعناه أننا لا نستسلم لمشاكلنا، وأننا نسعى لتغيير واقعنا بكل الوسائل و في طليعتها القانون ، إن رسالة القانون هي إضفاء الطابع الإلزامي على كل الحقوق التي تستقي مشروعيتها أصلا من ماهيتها ومن أخلاقيتها، وكذا إجبار الناس على تغيير سلوكهم نحو الأحسن، و ليس من طبع القانون الاستسلام للأهواء و النزوات والصرعات الجديدة التي تتفتق عنها مخيلات البعض من الحداثيين المتنطعين، فالإجهاض ليس حقا من حقوق الإنسان لنقننه، بل إن ما لا يعيه دعاة الإجهاض أن المشروعية لا تعني دائما الشرعية، لذلك فان إدراج الإجهاض ضمن المنظومة القانونية لا يغير شيئا من طبيعته ، لأن طبيعة الفعل منفصلة تماما عن قانونيته. و ما لوحظ مثلا هو أن القانون لم يقم بمحو الإجهاض السري في كثير من الدول التي شرعت الإجهاض، بل على العكس من ذلك رفع من نسبته . لأن السرية ليست مرتبطة بالخوف من الجزاء فقط، فالإجهاض بصفته فعلا منبوذا يظل دائما سرا تكتمه المرأة و الطبيب و كل الأطراف المعنية، القانون يفترض الشرعية و لا يؤسسها ، و لذلك لن يفلح أبدا في تطهير هذه الممارسة في عيون الناس، بل إنه عندما يعترف القانون بممارسة لا أخلاقية تتضرر صورته و تضيع هيبته بين الناس، وخصوصا عندما لا ينتصر لقيمة أساسية كالحياة، بل وينظم الوسائل والإجراءات لانتهاكها ووأدها، فتتلاشى إلى جانب وظيفته الزجرية وظيفته التربوية كذلك، و ينتفي أيضا السبب الذي وجد القانون من أجله أصلا . ليست المشكلة أن يمارس الإجهاض برضى القانون أو ضدا على القانون ، المشكلة هي أن الإجهاض في كنهه مرفوض دينا و أخلاقا و ذوقا . و هذا معطى لا يتغير سواء حرر الإجهاض أم لا .
و حتى إذا قنن الإجهاض سيثور السؤال المؤرق التالي في وجه ونفس كل المقبلات على الإجهاض: هل يجب انتهاز القانون و تسهيلاته ، أم على العكس من ذلك الوفاء للقناعات و الالتزام بالأخلاق والدين؟، و هذا يجر إلى سؤال آخر أكثر إحراجا ، هل القانون نفسه شرعي آم لا ؟ و هل الطبيب مجبر على احترامه أم لا ؟
ثم في حالة المغرب، على من ينادى بتقنين الإجهاض أن يحترم أولا القوانين السارية وخصوصا الدستور الذي حسم في فصله 20 هذه القضية، حين أكد بان الحق في الحياة مكفول.حيث أن التأويل الوحيد الممكن لقصد المشرع الدستوري هو رغبته في حماية حق الجنين في الحياة . فأيا كان النظام القانوني للجنين، هل هو إنسان أم مجرد خلايا متطورة في طور النمو، فالصيغة اللغوية للفصل تتحدث عن الحق في الحياة أي تتحدث عن الحياة و لو كانت أمرا غير حاصل، بل و حتى أمرا متوقعا حصوله في المستقبل أي عبر الحمل. فهذه هي المتاهات القانونية و الدستورية التي سيجرنا إليها تقنين الإجهاض فضلا عن متاهاته الاجتماعية و الطبية و الدينية و المجتمعية . انه قانون لو صدر بالشكل الذي يريده دعاته سيهدد ليس فقط تماسك القانون، بل تماسك المجتمع أيضا .
(*) أخصائي مستشفى الولادة السويسي