بحلول 25 يناير 2015 تكون قد مرت ست وخمسون سنة على انتفاضة 25 يناير البذرة الأولى لتأسيس “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” والذي قال عنه الزعيم الصيني “ماوتسي تونغ” إنه “تنظيم ينبغي أن يقتدى به في بلدان العالم الثالث”، لم تصدر هذه القولة عن زعيم مثل ماوتسي تونغ دون رؤية، فقد رأى في الاتحاد عدة ميزات متكافئة بما فيها قوات شعبية من مختلف الفئات الحية، قيادة محنكة من خيرة رموز الحركة الوطنية وأكثرها انحيازا إلى قضايا الجماهير الشعبية.
بتأسيس الاتحاد عرف المغرب تطورا مهما في الحزبية وفي الخطاب السياسي وفي طرح القضايا الجوهرية وفي الشعارات المناسباتية.
ومنذ النشأة تعرض الاتحاد لمؤامرات وإكراهات أفضت به إلى حدوث اختلالات وأحيانا أزمات في صفوفه يذكر منها على الخصوص مؤامرة 16 يوليوز 1963 ?، ودعنا مما كان يتعرض له مناضلوه من اعتقالات واختطافات ومحاولات اغتيال أشهرها اختطاف أبرز قادته الشهيد المهدي بنبركة في 29 أكتوبر 1965 واغتياله بعد ذلك، ثم اغتيال المناضل عمر بنجلون بعد عشر سنوات كما هو معروف. لكن كل هذه المؤامرات وغيرها لم تكن لتؤثر سلبا على المسار النضالي للاتحاد، بل العكس هو ما وقع، فخلال الفترة ما بين 1959 و1975 والتي أطلق عليها “سنوات الرصاص” وأفضل تسميتها بـ”محطات مجيدة من نضال الحركة الاتحادية” أو “عهد الإعصار والصمود”، أقول خلال هذه الفترة كان الاتحاديون كلما خرجوا من أزمة إلا وازدادوا قوة وإصرارا على مواصلة النضال وبذل المزيد من التضحية، كل في الموقع الذي اختار النضال في فضائه، إذ منهم من ظل متواجدا في التنظيم الحزبي، وفيهم من لاءمه العمل النقابي، وكثير منهم ?ولاسيما الشباب- تعززت بهم منظمات المجتمع المدني مثل المنظمة الطلابية والجمعيات الثقافية والشبابية بصفة عامة والتي لم تسلم من المضايقات هي أيضا.
لكن الجانب المؤثر سلبا في مسار الحركة الاتحادية هو الاختلالات الناجمة غالبا عن وقوع اختلافات بشأن قضايا نقابية كالعمل النقابي وعلاقته بالعمل الحزبي بصفة عامة، أو سياسية مثل الموقف من الدستور المستفتى عليه يوم 7 دجنبر 1962 (مقاطعة الحزب، تصويت النقابة بلا) وكذا مشاركة الاتحاد الوطني في الانتخابات التشريعية عام 1963 ومقاطعتها من لدن الاتحاد المغربي للشغل. وكل هذه الاختلافات مبعثها عدم وضوح العلاقة بين الحزب والمنظمات الموازية المحسوبة عليه ولاسيما والمغرب يتبنى التعددية الحزبية والنقابية، والأخطر من هذا هو أن الاتحاد وكذلك النقابة لم يكونا يقظين تجاه اختراق عناصر التخريب للحزب والنقابة معا، والعناصر الانتهازية وهذه جوانب أشار إليها المهدي في الاختيار الثوري واعتبرها من التحديات التي تواجه الاتحاد حين قال “وفوق ذلك تتطلب منا يقظة تجاه العناصر الانتهازية التي تكون قد اندست في صفوفنا” والتي كشفتها حوادث سنة 1963 وأكدها رجل المخابرات المغربية أحمد البوخاري، ومن المفيد اقتباس ذلك مع كامل التحفظ فيما يتعلق بمبالغته في بعض ما روى والتي كادت توحي بأن جميع قادة الأحزاب والنقابات كانوا عملاء أو مخبرين للكب1 ولخلفها DST، فهل يعقل أن تقبل الشخصيات التي ذكر أن يكونوا من عملاء هذين الجهازين والكل يعلم أنهم رفضوا حقائب وزارية مفضلين النضال والسجون والمنافي على التنازل عن مواقفهم في معارضة سياسة النظام…
فقد نشرت له جريدة المساء حلقات خصصت إحداها لهذه المسألة بتاريخ 8 يناير 2005 ص8 تحت عنوان “أحمد البخاري يكشف معلومات جديدة عن سنوات الرصاص، مؤامرات المخابرات المغربية ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من 1959 إلى 1975، كيف سخر الكاب1 جميع إمكانياته ووجه مخبريه لفض الوحدة بين الاتحاد الوطني والاتحاد المغربي للشغل. مما تضمنه المقال “بعد فترة راحة قضاها زعيم المعارضة المغربية بمنزله، استأنف نشاطه السياسي بالمغرب، فكان أول مشكل يواجهه هو الخلاف بين حزبه والاتحاد المغربي للشغل، إذ كان الطرفان على وشك الطلاق فبادر إلى الاتصال بالمسؤولين في هذا الجانب والآخر، عسى أن يتوصل إلى صيغة تفاهم وينتهيا إلى حل نهائي، إلا أنه لم يفلح في ذلك لاسيما وأن رجال الكاب1 كانوا يحركون خيوط لعبتهم من بعيد في اتجاه تكريس الخلاف والحؤول دون التوصل إلى أي اتفاق صلح بين الطرفين المتنازعين ، حيث تمكن ضباط الاتصال من توجيه المتعاونين معهم داخل هذا الطرف والآخر من أجل الدفع في تأجيج التوتر، وهو ما نجحوا فيه” ويضيف البخاري “في هذا السياق ينبغي التذكير بأن المتعاونين مع الكاب1، من بين المسؤولين ذوي الأهمية الكبيرة في الهرم التنظيمي داخل الحزب والنقابة كانوا يتلقون مقابل عملهم هذا راتبا مهما (…) وفي هذا السياق نفسه عمل رئيس شعبة مكافحة الشغب ومعاونوه المقربون بالرباط وفرقة الأمن بالدار البيضاء على مناقشة خطوات الانفصال بين الحزب والنقابة مع كل مسؤول على حدة قبل أن يعرضوا عليهم المقابل المادي “ومما يذكره البخاري وهو يتحدث عن مساهمة المخابرات في تأجيج الخلاف بين الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد المغربي للشغل أنه “خلال الأيام الخمسة عشر التي استغرقتها المفاوضات بين الحزب والنقابة والتي رافقها عمل مستمر في شعبة مكافحة الشغب خال الجميع أنه إزاء معركة سرية يتقابل فيها متعاركان، لكن ليس على أرض صراع بائنة، بل كانت فصول المعركة تجري بينهما من بعيد، طرفها الأول هو المهدي بنبركة الزعيم السياسي ومحمد العشعاشي رجل الكاب1، إلا أنها كانت معركة غير متكافئة، حارب خلالها الزعيم السياسي وحده، بشجاعة كبيرة وبصدق لتفادي حدوث انشقاق بين حزبه ونقابة الاتحاد المغربي للشغل، في حين أن الرجل القوي في الكاب1 كان محاطا بالعديد من معاونيه المقربين ومعهم خفافيش الظلام من بارونات الاتحاد المغربي للشغل ومسؤولين مخبرين في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من المحيط القريب من المهدي بنبركة الذين كانوا يمدون الكاب1 بما استجد من معلومات وما آلت إليه المفاوضات، وبفضل هذا التعاون الوثيق استطاع رئيس شعبة مكافحة الشغب أن يكسب المعركة، ليعلن الانقسام بين الحزب والنقابة في شهر يونيو من العام 1962”. ومما جاء في مقال البخاري أن هذه العملية “كلفت مصالح الاستخبارات في الكاب1 عشرات ملايين السنتيمات، إذ قدر المبلغ الإجمالي الذي صرف من قبل الكاب1 في سبيل هذا المكسب ب150 مليون سنتيم، علما بأن هذا الرقم كانت له قيمته الكبيرة حينذاك”. ثم أنهى حديثه بخصوص هذا الموضوع بقوله “كان المهدي بنبركة هو من أعلن الانفصال بنفسه في خطاب أكد فيه أن الحزب هو الذي يملك وحده حقيقة الثورية دون باقي القوى الاجتماعية في البلاد، لتكون القطيعة التي أرادها المخزن وحصل عليها بمثابة ضربة قاصمة أضعفت قوام الحزب والنقابة معا، وطبيعي أن تسعد هذه النتيجة المخزن الذي كان يتابع ما يجري عن كثب بواسطة الكولونيل مارتن الذي كان له حق زيارة القصر الملكي متى شاء، والتقارير المستمرة التي كان يرفعها المسؤول عن مكافحة الشغب إليه، وقد هنأ المخزن محمد العشعاشي عن صنيعه هذا”.
أوردت هذه المعطيات لعلها إن لم تكن الأساس فهي من أهم الأسباب التي أفضت في نهاية المطاف إلى أخطر انشقاق في صفوف الاتحاديين نشأ عنه تأسيس حزب جديد أطلق عليه “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” ليصبح الاتحاديون موزعين على حزبين لم يلبث أحدهما وهو الاتحاد الوطني أن شابه ضعف في تنظيماته وجماهيريته بسبب تخلي قادة الاتحاد المغربي للشغل من جهة، ولجوء بعض قادته إلى تأسيس حزب جديد باسم الاتحاد الدستوري الذي ترأسه المرحوم المعطي بوعبيد وهو من قادة الاتحاد الوطني قبل بيان 30 يوليوز 1972 وبعده، إلى أن تم فصله حين تولى الوزارة الأولى في أواخر سبعينات القرن 20.
وبتأسيس الاتحاد الدستوري وانتماء عدد كبير من النقابيين إليه أصبح في الساحة الحزبية ثلاثة أحزاب جذورها ?وإن اختلفت توجهاتها ومواقفها- تعود إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المؤسس في 6 سبتمبر عام 1959، إلا أن أحدها ظل متشبثا بموقفه السلبي إزاء الاستحقاقات الانتخابية فغاب عن الساحة أو كاد واكتفى بإصدار بيانات معبرة عن مواقفه، ومشاركته في لقاءات تنسيقية ألفت أحزاب “الكتلة الديموقراطية القيام بها لاتخاذ مواقف موحدة إزاء بعض المبادرات الحكومية، وهكذا إلى أن توفي أمينه العام المرحوم عبد الله إبراهيم يوم 11 سبتمبر 2005 ليغيب الاتحاد الوطني عن الساحة لحزبية رغم محاولة أتباعه تنشيطه وذلك بسبب اختلاف وقع بين مجموعتي البيضاء والرباط، أما الاتحاد الاشتراكي وهو الأقوى جماهيرية، فقد تفرعت عنه عدة تنظيمات حزبية وهي حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي بزعامة عبد الرحمان بنعمرو وهو من نشطاء الاتحاد الاشتراكي، والمؤتمر الوطني الاتحادي الذي انشقت عنه مجموعة وأسست حزبا أطلق عليه الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي اندمج مؤخرا في الاتحاد الاشتراكي، وفي الثمانينات من القرن 20 تم الإعلان عن تأسيس حزب باسم منظمة العمل الديموقراطي الشعبي بقيادة محمد بنسعيد وهو من قدماء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي اختفى بعد اندماج بعض أعضائه في الاتحاد الاشتراكي، ويؤسس آخرون حزبا أسموه الحزب الاشتراكي الموحد، علاوة على الحزب الوطني الديموقراطي الذي أسسه نقابيون محسوبون على الاتحاد الوطني والاتحاد المغربي للشغل بزعامة أرسلان الجديدي الذي تم طرده من النقابة عام 1963 بسبب قبوله تمثيل العمال في مجلس الشيوخ الذي رفض الاتحاد المغربي للشغل المشاركة فيه، ولا ننسى الحزب العمالي الذي أسسه بن عتيق وهو من شبيبة الاتحاد الاشتراكي كما هو معروف، والذي اندمج في الاتحاد الاشتراكي أيضا.
إذن نحن أمام مجموعتين من فصائل الحركة الاتحادية مختلفتين في التوجه، منها مجموعة لاتزال محتفظة بالأهداف والمبادئ التي أسست من أجلها الحركة الاتحادية، ومنها التي أعلنت منذ تأسيسها عن تخليها عن هذه الأهداف والمبادئ وأعلنت عن ولائها للنظام بدون شروط وعن تبنيها للأفكار الليبرالية.
مما سبق يلاحظ أن الحركة الاتحادية بدأت هيئة سياسية جماهيرية قوية استطاعت أن تحصل في الانتخابات البلدية لعام 1960 على نتائج معتبرة في عدد من المدن المغربية ولاسيما البيضاء والرباط والقنيطرة وطنجة وأكادير حيث كانت رئاسة مجالس بلديات هذه المدن من نصيب أعضاء اتحاديين وذلك بفضل التحام القوى الشعبية في إطاره بما في ذلك العمال المنضوون تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل وطلبة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وقدماء المقاومين وجيش التحرير، الأمر الذي دفع النظام إلى محاولة تفتيت هذا الالتحام وضرب وحدة هذه القوات بإنشاء هيئات صورية، نقابية وطلابية، أما المقاومون فقد تعرضوا للاعتقال وفرض على كثير منهم مغادرة البلاد ليقضوا بقية حياتهم في الغربة والمنفى.
وقد استغل الحكم بنظام التعددية الحزبية والنقابية الموروثة عن عهد الحماية والمكرس بظهير 1958، وذلك بقصد الإكثار من الأحزاب والنقابات وإضعافها وإذا كانت سياسة في هذا الجانب لم تؤد إلى نتيجة عندما كانت المحاولات تصدر عن جهات رجعية كحزب الاستقلال والحركة الشعبية مثلا، فإنها أفلحت عندما جاءت هذه المحاولات من داخل الحركة الاتحادية للقوات الشعبية، خاصة في الميدان النقابي، فتأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب UGTM من لدن حزب الاستقلال عام 1960 لم يكن له تأثير على قوة الاتحاد المغربي للشغل وكذا عندما تأسس الاتحاد الوطني للشغل UNTM عام 1966 من طرف الحركة الشعبية، فقد كانت هذه المحاولات تتهم بكونها صادرة من أحزاب مرتبطة بالطبقة البورجوازية ومدعومة من طرف أرباب العمل بنية النيل من قوة العمال وانشغالهم بالتطاحن فيما بينهم، أما مناضلو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومعهم مناضلو الحزب الشيوعي الذي تحول إلى حزب التحرر والاشتراكية فإلى التقدم والاشتراكية، فإنهم ظلوا متمسكين بمبدإ الوحدة النقابية داخل الاتحاد المغربي للشغل إلى أن تأسس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نقابة باسم “الكونفدرالية الديموقراطية للشغل”، وأسس حزب التقدم والاشتراكية نقابة “اللجنة العملية” التي بقي عبد المجيد ادويب على رأسها إلى أن توفي في شهر سبتمبر 2014 رغم أن حزب التقدم والاشتراكية تخلى عن هذه النقابة واستأنف أتباعه نشاطهم داخل الاتحاد المغربي للشغل…
أيها الاشتراكيون كفاكم “تشرذما”
فأنتم بناة هذا الوطن لو تتحدون
في مطلع سنة 2014 انشغل الرأي العام المغربي بمبادرتين مهمتين أدفأت أحضان البعض وأرجفت فرائص آخرين، تتعلق الأولى بالفضاء النقابي العمالي، والآخر بالمجال الحزبي. فالمبادرة الأولى قامت بها المركزيات النقابية الاتحاد المغربي للشغل UMT والكونفدرالية الديموقراطية للشغل CDT والفدرالية الديموقراطية للشغل FDT، وذلك حين نظمت ندوة يوم 29 يناير 2014 بمقر الاتحاد المغربي للشغل بالبيضاء، وأصدرت بيانا نشر بجريدة الاتحاد الاشتراكي يوم 31 يناير وتم التعليق عليه في نفس الجريدة عدد 6 مارس تحت عنوان “اليوم لا مصلحة للطبقة العاملة المغربية في التقسيم”.
أما المبادرة الثانية فقامت بها ثلاثة أحزاب هي حزب المؤتمر الوطني الاتحادي وحزب الطليعة الديموقراطي والحزب الاشتراكي الموحد، وذلك يوم 15 مارس 2014 في مقر الاتحاد المغربي للشغل بوجدة تحت شعار “فدرالية اليسار الديموقراطي”، وهي مبادرة حزبية لا يليق التقليل من أهميتها كما لا ينبغي تبرئتها من إبداء ملاحظات هي بالأساس تهدف إلى الإثراء والإغناء أكثر ما تفهم أنها اعتراض أو انتقاد.
حضرت التجمع واستمعت إلى العرض الذي قدم وشاركت في المناقشة، وزودت بنسختين إحداهما تتعلق بمشروع حول أسس إحداث فدرالية التحالف والثانية الورقة السياسية من أجل أفق واضح موحد للنضال الديموقراطي.
وبعد الاطلاع على حمولتي النسختين قررت كتابة هذا المقال مساهمة في تشجيع هذه المبادرة كما فعلت بالنسبة لمبادرة المركزيات النقابية الثلاث، وإبداء ملاحظات بشأن جوانب نظرية وتنظيمية للمبادرة.
قبل ذلك أشير إلى أن هذه المبادرة الحزبية كانت متوقعة وإن تأخر تاريخها، لأنها جاءت من أحزاب ذات مرجعية تاريخية واحدة، ابتداء من يسار الحركة الوطنية + الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال+ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية+ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومن هنا يمكن الإدلاء بملاحظة أساسية، وهي نفس الملاحظة التي أبديتها بشأن مبادرة المركزيات النقابية الثلاث، يتعلق الأمر بالهدف المركزي للمبادرة وهو وحدة اليسار الديموقراطي في إطار تنظيم اختير له اسم “فدرالية اليسار الديموقراطي”.
لقد أثار هذا الاسم نقاشا انصب بالخصوص على “مصطلح اليسار” الذي يعتبره البعض مصطلحا غير محدد، وهو مجرد نعت يطلق على كل تيار أو جناح ذي نزعة متشددة مقابل آخر ذي توجه رجعي أو معتدل، حيث نجد حزبا واحدا مكونا من ثلاثة تيارات: يميني، معتدل، يساري، كما نجد في قطر واحد ثلاثة أحزاب لا أكثر، فيها اليمين والوسط واليسار، فاليمين هو الرجعي واليساري هو المتقدم والوسط هو المعتدل، ونعت اليسار بالتقدم لا يعني أكثر من كون توجهه يميل إلى الحداثة أكثر من غيره، ولنا أمثلة مما هو سائد في الفضاء الحزبي، وفي المغرب بالأساس، فمنذ نشأت أحزاب الحركة الوطنية كانت عضويتها مفتوحة أمام أي مغربي بغض النظر عن مكانته الاجتماعية والاقتصادية ونزعته العقائدية والفكرية، شريطة ألا يكون مواليا لسلطات الحماية.
ورغم تباين الأحزاب المغربية وتفاوتها في الاقتراب إلى الحداثة السياسية إذاك، فإن أي نعت مما ذكر (يمين، وسط، يسار) لم يطلق على حزب من هذه الأحزاب ولا على فئة من فئات الحزب الواحد، فالكل كان ينعت بمسمى الحزب الذي ينتمي إليه (استقلالي، شوري، شيوعي) ولا نجد في أدبيات الحركة الوطنية من نعت هذا الحزب باليميني ولا ذلك باليساري، وإلى بداية عهد الاستقلال وظهور توجهات مختلفة داخل حزب الاستقلال لم يكن مصطلح “اليسار” نعتا يوجه لصالح هذا أو ضد ذاك، وكذلك مصطلحا اليمين والوسط.
والذي شغل الحزبين، وإن أخذت بعض التوجهات والمواقف تثير الاختلاف، والتي كانت تطرحها مستجدات تنظيمية وسياسية في تطوير الحزب وانتقاله من حزب مناضلين ضد الاستعمار إلى حزب بناة الاستقلال، هو حرصهم على وحدة الحزب وتمسكهم بالمبادئ المشتركة بينهم، ولذلك لم يكن المختلفون يتبادلون فيما بينهم كلمتي اليمين واليسار، ولا الرجعي والتقدمي، إلى انتفاضة 25 يناير 1959 التي توجت بتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يوم سادس سبتمبر 1959 الذي يؤرخ لنشأة الحركة الاتحادية للقوات الشعبية كما هو معلوم.
ومنذ هذه الانتفاضة بدأت الأحزاب تتبادل النعوت فيما بينها، فحزب الاستقلال ينعت بمنتفضي 25 يناير وبعدهم الاتحاديين بالانفصاليين وبالمهدويين، ومنهم من بالغ فنعتهم ب”مساخيط الملك” أو بالجمهوريين وبالمقابل استعملت كلمة الرجعية أو الرجعي ضد السياسة الاستقلالية والاستقلاليين. أما مصطلح اليسار أو اليساري فلم يكن مستعملا بعد، ومثله مصطلح الاشتراكية الذي يرد ضمن الحديث أو الكتابة كاسم لأحزاب عالمية كالحزب الاشتراكي الفرنسي أو لدول مثل الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا وبولونيا التي كان يشار إليها بالدول الاشتراكية. وكل ما كان مفهوما أن العالم منقسم إلى دول رأسمالية أو اشتراكية، أو غير منحازة، وذلك بعد ظهور دول عدم الانحياز التي كان جيل خمسينيات وستينيات القرن العشرين يرى فيها المنتظم الدولي المعبر عن مواقفه وطموحاته ومختزلا في قادة كان لهم إشعاع قوي وهم جمال عبد الناصر، ونهرو، وتيتو، وسوكارنو وفي هذه المرحلة لم يكن مطروحا على الناس أفرادا أو جماعات الاختيار بين رأي أو موقف مع حدث أو ضده، من زاوية مذهبية أو نعت ما، بل كان الاختيار “البيني” أو الموقف مع أو ضد، يقوم على أساس الانتماء الجغرافي أو القومي، مع مراعاة ما يتطلبه الرأي أو الموقف من إنصاف وتضامن بصرف النظر عمن يكون الاختيار لفائدته أو ضده من هذه الكتلة أو تلك. وبما أن الأمر يتعلق بمرحلة احتد فيها الصراع بين المعسكرين الغربي الرأسمالي والشرقي الاشتراكي من جهة، وعرفت فيها حركات التحرير الوطني قوة داخل أوطانها وإشعاعا خارجها، وبما أن دول المعسكر الغربي هي المواجهة لهذه الحركات، وكان المعسكر الاشتراكي إلى جانبها، من جهة أخرى فكان من الطبيعي أن يتعاطف الرأي العام مع دول عدم الانحياز، ومع المعسكر الاشتراكي ولاسيما يوغوسلافيا والصين الشعبية وذلك بصرف النظر عن شيوعية هاتين وليبرالية دول أخرى محسوبة على مجموعة دول عدم الانحياز.
كان نشطاء الأحزاب في المغرب لا يستعملون في نعت أنفسهم ولا منافسيهم مصطلحات مثل يميني أو يساري، ولا رجعي أو تقدمي، فباستثناء المنخرط في الحزب الشيوعي الذي كانت لفظة شيوعي تطلق عليه فإن غيره كان يدعى إما استقلاليا أو شوريا أو حركيا عندما نشأت الحركة الشعبية في أواخر خمسينات القرن العشرين. وهكذا إلى عام 1959 حين وقع الانشقاق في حزب الاستقلال حيث صار فريق ينعت بالرجعية وآخر بالانفصالية أو المهدوية أو التقدمية، أما اليمين أو اليسار، فلم يستعملا إلا بعد ذلك لاسيما في بعض المقالات أو الكتب المؤرخة للحركة الوطنية والأحزاب السياسية وأكثرها بالفرنسية، حيث نعت مثلا قادة انتفاضة 25 يناير 1959 ب”يسار حزب الاستلال” وإن لم يكونوا منعوتين به قبل الانشقاق.
وهذا لا يعني أن كلمات يمين، يسار، وسط، تقدمي، رجعي، اشتراكية، لم تكن معروفة، فقد كانت واردة في المقروء والمسموع من وسائل النشر والإعلام، إلا أن معانيها كانت تختلف حسب مستوى الناعت أو المنعوت ونوعية ثقافته وتكوينه الاجتماعي والسياسي.
وبما أن ما يعنينا هو مصطلحا اليسار والاشتراكية، فسيتم التركيز عليهما في هذا السياق. فاليسار عند المغربي معناه: اليسر والخير والبركة، ويعني كذلك الشمال (بكسر الشين) مقابل اليمين فهو مصدر فأل بمعناه الأول، ومصدر شؤم بمعناه الثاني، ومرجع هذا إلى ما ورد في القرآن الكريم في شأن موقع أصحاب اليمين وأصحاب الشمال (اليسار). لكن الموقف ليس كذلك إذا تعلق الأمر بالمعنى الأول فالأفضل للمرء أن يكون من أصحاب اليسار (الغنى) وفي الآخرة من أصحاب اليمين، فلماذا؟ لأن ذلك مستوحى من المعنى المرافق لمصطلح اليسار منذ اعتماده مصطلحا سياسيا يدل على الموقع الذي احتله نواب حزب العمال البريطاني وهو في يسار مجلس العموم (البرلمان) مقابل موقع نواب حزب المحافظين الذي يقع على اليمين، علما أن حزب العمال كان يمثل الطبقة العمالية ذات التوجه الأكثر تقدما والمستوحى من الأفكار الاشتراكية التي كانت موضوع النقاش في ذلك العهد… وبدون استطراد يكتفي بقول: إن فهم الشرائح العامة لمصطلح ذي مرجعية دينية كما أشرت لهذا لم يكن جاذبا بقدر ما كان منفرا مما جعله من المصطلحات السياسية التي يتحرج نشطاء الأحزاب من استعمالها في كتاباتهم أو في خطبهم ولاسيما أمام الجماهير، ولهذا فإن رواد الحركة الاتحادية والذين نعتوا بعد انشقاقهم من حزب الاستقلال بكونهم كانوا يعتبرون “يسار هذا الحزب” رغم أنه لم يسمع عنهم أنهم نعتوا أنفسهم بهذا المصطلح، وحتى منذ قيادتهم لانتفاضة 25 يناير إلى وفاتهم لم ينعتوا حركتهم الاتحادية باليسارية ولا أنفسهم بيساريين، بل لبثوا مستعملين نفس الكلمات والمصطلحات التي تعودت الجماهير سماعها منهم، وكمثال على هذا مناداة بعضهم البعض بكلمة الأخ، الإخوان أو الإخوة، وقليل من المناضلين الاتحاديين من كان يستعمل كلمة “الرفيق”، إلا إذا كان يتحدث بالفرنسية فإنه يستعمل كلمة » Camarade « لأنها مألوفة وخاصة في الميدان النقابي، وقليل من النقابيين من كان يستعمل لفظة الرفيق، لأن الكثير من النشطاء الحزبيين والنقابيين كانوا يعتبرونها مصطلحا شيوعيا يتحرجون من استعماله، ليس لكونه كذلك، وإنما تجنبا لإثارة حساسيات أو اتهام المنظمة النقابية بأنها شيوعية.
الذين عاصروا السنوات الأولى من عهد الاستقلال وخصوصا من كانوا نشطين في حزب الاستقلال (الحزب الأكبر) أو نقابة الاتحاد المغربي للشغل UMT (النقابة الوحيدة إذاك) خضعوا لـ”الكبت الذاتي” وفرضوا على أنفسهم “رقابة ذاتية” صارمة وهم يؤدون مهامهم كقادة مركزيين أو مسؤولين في التنظيمات الحزبية أو الاتحادات المحلية للنقابات، فقد وجدوا أنفسهم أمام وضع اجتماعي وسياسي مثقل برواسب هي عبارة عن مفاهيم وشعارات كرست في عهد الحماية وترسخت في أذهان المواطنين عامة، ومن كانوا منخرطين في أحزاب الحركة الوطنية، مثل تقديس القيادات والزعامات، والتنفير من بعض الشعارات والمصطلحات مثل الشيوعية والاشتراكية واليسارية، والديموقراطية والدستور، وذلك درءا لما قد تثيره هذه المصطلحات من حساسيات وخلافات كانت طبيعة المرحلة في غنى عنها…
كان الموقف من الديموقراطية والدستور أخف وطأة من مصطلحي الاشتراكية واليسارية علما أن اليسارية كانت مرادفا للاشتراكية، وسبب هذا راجع كله إلى أمرين أساسيين أولهما الطريقة التي نهجها رواد الفكر الاشتراكي وبعدهم مؤسسو الأحزاب الاشتراكية وثانيهما إلى الهجمة الشرسة التي ووجه بها هذا الفكر من جهات اعتقدتها منافية للدين، وأخرى رأت فيها نظرية إن طبقت ستكون على حساب مصالحها، وما كرس هذه النظرية لمصطلحي الاشتراكية واليسار مساهمة بعض نشطاء الحركة الوطنية في التحذير من التمذهب بنظرية المصطلح الأول (الاشتراكية) النهي عن استعمال المصطلح الثاني (اليسار)، كتمييز لحزب أو لجناح حزب يتبنى مواقف أو اختيارات متقدمة عن نظيره..
لقد ظل المنشقون عن حزب الاستقلال مكتفين في ترويج أفكارهم -كتابة ومشافهة- باعتماد مصطلحات مألوفة ولكنهم يكيفونها تكييفا يقربها إلى أذهان المواطنين ويقدمونها كقيم لا تختلف عن القيم الدينية في جوهرها، وبصيغ لا تصدم شعورهم، ولا تثير رد فعل ينعكس سلبا على الحركة الجديدة، لهذا فإن المستقرئ لوثائق وأدبيات الحركة الاتحادية يخلص إلى أن نشطاءها لم يستعملوا مصطلح الاشتراكية كاختيار اقتصادي، إلا ابتداء من المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنعقد بالدار البيضاء أيام 25، 26، 27 ماي 1962، ومع ذلك لم يتخذوها عنوانا للحزب، وحتى هذا الاختيار وإن لم يقم على أساس يتبنى الاشتراكية كإيديولوجية باعتبارها اشتراكية علمية إلا عام 1975 وذلك في التقرير المذهبي المعروض على المؤتمر الثالث للاتحاد الوطني للقوات الشعبية المنعقد سنة 1974 والمعنون بـ”التقرير المذهبي”، وإن لم تقترن الاشتراكية بالعلمية إلا أن المؤتمر التأسيسي للاتحاد الاشتراكي المنعقد عام 1975 تبنى الاشتراكية العلمية بصفة واضحة، ولهذا سمي هذا الحزب بـ”الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية” بعد أن صادق المؤتمر على التقرير الإيديولوجي الذي صار بمقتضاه حزبا اشتراكيا يتبنى الاشتراكية العلمية كما هو معلوم…
كان من بين الانتقادات التي وجهت لقادة الحركة الاتحادية في بداية التأسيس هو عدم الإفصاح عن الهوية الإيديولوجية لحزبهم رغم أن ما يفهم من مقرراته وأدبياته وتصريحات قادته أنه ذو نزعة إلى الاشتراكية، وهذا نفس ما اعتبره المرحوم المهدي بنبركة ثالث الأخطاء القاتلة في تقريره المعروف بـ”الاختيار الثوري” الذي أشار فيه إلى أن “الخطأ الثالث نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية، وعن عدم تحديدنا لهوية حركتنا”، وهذه الإشارة تدل على أن المسألة الاشتراكية لم تكن غائبة عن انشغالات مناضلي الحركة الاتحادية وعلى مستوى النقاش والطموح، غير أن الذي حال دون الإفصاح عنها كهوية إيديولوجية، هو المناخ السياسي العام من جهة، ووضعية الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تنظيميا من جهة أخرى. أما المناخ السياسي العام، فيمكن تلخيصه في فقرة مقتبسة من تقرير نشاط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المقدم في المؤتمر الثاني آنف الذكر حيث ورد فيه، أنه “بعد إقالة الحكومة التي كان يرأسها عبد الله إبراهيم أصبح للحكم الملكي احتكار عام شامل على سائر السلطات، السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطات المدنية والعسكرية، فهو الحاكم بأمره، لا يقبل لنفوذه ولا لاختصاصاته أي حد” وفي ظل هذا المناخ السياسي مورست ضد المناضلين الاتحاديين شتى أنواع المضايقات من اعتقالات وملاحقات ومحاولات اغتيال استهدفت بعض رموزه، مما اضطر بسببه عددا كبيرا من نشطائه إلى مغادرة البلاد وفي مقدمتهم المهدي بنبركة، كما طالت المضايقة وسائل إعلام الحزب، وخاصة جريدة التحرير التي تكرر حجزها والتضييق على العاملين فيها قبل أن يطالها التوقيف النهائي.
إلى جانب هذه الإكراهات الخارجية واجه الحزب عدة معطيات ترجع في أغلبها إلى طبيعة نشأته، وهكذا وجد قادته أنفسهم يعانون في واجهتين، واجهة خارجية وأخرى داخلية، الأولى أشير إليها أعلاه، والثانية هي الأكثر صعوبة والأشد تعقيدا.
فإذا كانت الإجراءات القمعية لم تزدهم إلا ثباتا وصمودا، فإن ما اعترى الحزب داخليا، أثر على أجهزته تأثيرا ملحوظا، شغل الحزبيين عن معالجة عدد من القضايا النظرية والتنظيمية، وهذا حال حزب نشأ في ظرفية خاصة ووسط مجتمع نظامه مخزني تقليدي، ومكونه البشري متنوع الثقافات والتوجهات وهذا ما انعكس سلبا على تشكيلة الأحزاب عامة والحركة الاتحادية خاصة: ألم يكن شعار الاتحاد يوم تأسيسه “لا حزبية بعد اليوم” وأنه “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أجل للقوات الشعبية”؟، هذا ما يعني أن لجميع فئات الشعب المغربي حق الانتماء إليه. وهكذا يتضح أن العضوية في “اتحاد القوات الشعبية” لم تكن تخضع لشروط محددة إلا أن يظهر الشخص رغبته في الانتماء .. لهذا ما إن مرت مدة حتى أخذت تبرز داخل صفوفه تيارات وميولات ونزوعات هي من طبيعة تشكله البشري، وذلك ناجم عن انضمام أفراد من مختلف الفئات الاجتماعية، وفعاليات حملت معها رؤى مختلفة وأحيانا متناقضة هي حصيلة دراستها خارج المغرب، وهي حصيلة كل التفاعلات الإيديولوجية والسياسية والثقافية التي كانت تزخر بها مقرات دراستها، فهذا عائد من فرنسا متأثرا بأفكار عصر التنوير والثورة الفرنسية، ومعجبا بالتنظيم الحزبي والنقابي فيها، وذاك راجع من بريطانيا متقمصا هدوء ورزانة مواطنيها وآخرون وافدون من بلدان المعسكر الاشتراكي الشيوعي مهووسين بالنظرية الماركسية اللنينية، والبعض آيب من المشرق العربي إما معتنقا “البعثية” وإما متحمسا لـ”الناصرية”. وإذا أضيف إلى هذه الفعاليات فئات اقتصر تكوينهم الشخصي على ما كان يسود البلاد من ثقافات وتقاليد، فإننا نجد اتحاد القوات الشعبية هو أمشاج من العينات، حيث انتظم فيه الفقيه السلفي، ورصيفه المتفتح، والمثقف الحداثي ذو الميول العربية ونظيره ذو النزعة الفرانكفونية، إضافة إلى دارسي اللغة الإسبانيولية بما تحمله هذه من ثقافة وعادات.
هذا ما يرجع إلى التصنيف الثقافي، أما ما يعود إلى التصنيف الاجتماعي والسياسي فنجد عضوية “الحزب” تتكون من العامل البسيط والبورجوازي والرجعي والتقدمي، والملكي والجمهوري، والمرن والمتطرف، والثوري والمحافظ، وأخيرا وهذا هو صلب الموضوع فإن “الحزب” جمع في صفوفه المقاوم الذي قضى مرحلة في مواجهة المستعمر بالسلاح، والسياسي الذي يفضل النهج السلمي أيا كانت المواجهة وأيا كان الخصم. إن هذه التركيبة ليست جديدة ومقتصرة على “الحزب الجديد” بل إنها ظاهرة موروثة مرافقة لكل التشكيلات الشعبية التي عرفها التاريخ في بلادنا، لأن الحزب بمفهومه العصري القائم على الانتماء الطبقي لم يكن واردا، مثله مثل المؤسسات التي عرفت واعتمدت في البلدان المتقدمة.
ففي المغرب نشأ أول تنظيم سياسي باسم “كتلة العمل الوطني” عام 1934، بعد مرور أربع سنوات على أكبر انتفاضة شعبية وطنية احتجاجا على “سياسة فرنسا البربرية” حين أصدرت ظهير 16 ماي 1930، وهي انتفاضة عبرت عن إجماع الشعب المغربي على رفض ما كان يجري في البلاد تحت نظام الحماية المفروض ممثلا في “قواه الشعبية العميقة” التي “قطعت الصمت العام” على حد تعبير المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم.. وأعلنت عن عزمها على التكتل أو الاتحاد في حركة وطنية للوقوف ضد “مؤامرة فرنسا على وحدة الشعب المغربي ومصيره”.
كان يتزعم البذرة الأولى لهذه الحركة الاحتجاجية نخبة من العلماء وأعيان المدن ومشايخ الطوائف ومجموعة من الشباب، الذين عاصروا الثورة الريفية وظلوا بعدها يحتفظون في أذهانهم ببريق من شعاعها، وكان من بينهم قدماء طلبة القرويين وآخرون من معاهد فرنسا في مقدمتهم المرحومان علال الفاسي ومحمد حسن الوزاني.
وقد اكتفت هذه الحركة في بدايتها برفع شعارات دينية والانطلاق من مواقع مقدسة مقبولة لدى الجميع واعتماد أشكال من الاحتجاج بسيطة التهيئ (المساجد، اللطيف، المظاهرات).
وهكذا لم تمض أربع سنوات حتى “توسع الحجم البشري لهذه الحركة، وبالتدريج وشيئا فشيئا استطاع روادها بفضل حنكتهم أن يصهروا ما كان مبعثرا هنا وهناك من شراذم المحتجين في إطار موحد مشكل من قوات شعبية حصرها مولاي عبد الله إبراهيم في خمس هي: قطاع الشعب المناضل بجماهير محترفيه، وصغار تجاره وعاطليه ومتعلميه، وقطاع البورجوازية الوطنية المتوسطة والصغرى المتعاطفة مع قوات التغيير، وقطاع العمال، وقطاع الفلاحين وقطاع الطلبة” (من محاضرة ألقاها المرحوم يوم 14 يناير 1995 بالمركب الثقافي للمعارف ?البيضاء).
إذن فمن هذه القوات الشعبية تشكل أول تنظيم “حزبي” عام 1934 اختير له اسم “كتلة العمل الوطني” الذي انقسم عام 1937 إلى تنظيمين: الحزب الوطني بقيادة علال الفاسي، والحزب القومي بقيادة محمد حسن الوزاني رحمهما الله (…) ومن الجدير بالذكر أن هذا الانقسام وبالأسباب التي وقع من أجلها وكذلك بالعضوية التي تركب منها كل منهما لا يدل على أنه انفصال يسار عن يمين، ولا تقدمي عن رجعي، ولا اشتراكي عن رأسمالي، فكل منهما اجتمعت في عضويته بعض هذه النعوت، ولم يتأثر شكل هذه العضوية حتى عندما اختلف قادة التنظيمات فيما يتعلق بالأولوية، فهل تعطى للمطالبة بالاستقلال ثم المؤسسات الدستورية، أم المطالبة بالمؤسسات الدستورية ثم الاستقلال، وهذا ما يبدو من شعار كل منهما، فقد كان شعار حزب الاستقلال بعد تأسيسه عام 1944 “الاستقلال يؤدي إلى الدستور” بينما شعار حزب الشورى والاستقلال بعد تأسيسه عام 1945 هو” “الدستور يؤدي إلى الاستقلال”، وهذا ما يبدو أيضا من اسم الحزبين، فالأول حزب الاستقلال، والثاني حزب الشورى والاستقلال، فبينما اكتفي في الأول بالاستقلال أعطيت الأولوية في الثاني للشورى… والمهم في هذا السياق أن اختلاف الحزبين في هذه المسألة ليس له علاقة لا باليمينية واليسارية، ولا بالتقدمية والرجعية، لأن أتباع الحزبين لا يختلفون فيما يتعلق بهذه النعوت، ففي حزب الاستقلال، كما هو في حزب الشورى والاستقلال، يمينيون ويساريون، وتقدميون ورجعيون.. ومع ذلك فالاختلاف بشأن الشعارين موجود، وقد رافق هذا النوع من التشكل البشري عضوية الحزبين وكذلك الأحزاب الأخرى، التي نشأت بعدهما كحزب الإصلاح بزعامة عبد الخالق الطريس، وحزب الوحدة والاستقلال بزعامة المكي الناصري في المنطقة الخليفية. وكان الهدف المركزي لدى جميع هذه الأحزاب هو استرجاع المغرب لاستقلاله، وهو مطلب اليميني واليساري كما هو مطلب الرجعي والتقدمي، والفقير والبورجوازي، علما أن هذه المصطلحات لم تكن متداولة، كنعت لحزب سياسي أو لتيار من مكوناته، وهو نفس ما كان متداولا من المصطلحات السياسية في السنوات الأولى من عهد الاستقلال قبل وقوع انتفاضة 25 يناير 1959، وهي فترة دخل فيها المغرب عهدا جديدا متطلباته غير تلك التي كانت مطروحة في عهد الحماية “هدم دعائم الاستعمار” حيث انتهى المغاربة من “الجهاد الأصغر” لينخرطوا في “الجهاد الأكبر” وهو جهاد ضد رواسب الاستعمار، من فقر وجهل وتخلف في جميع المجالات وهذا اقتضى بذل جهد كبير لإحداث تغييرات شاملة تطال مرافق الدولة، سواء على المستوى المركزي أو الجهوي، فانشغل مسؤولو الحكومة الذين كان معظمهم من قادة الأحزاب ومناضليها ببناء أجهزة الدولة وذلك على حساب العمل الحزبي الذي بقيت أنشطته منحصرة في منظماته الموازية، أما الحزب فقد تحول إلى مجرد مقرات لمداومين ومفتشين همهم الوحيد هو تشغيل هذا وتوظيف ذاك، وتهميش (فلان) وإقصاء (علان) ولم تمر إلا سنوات حتى كانت غالبية الأطر الحزبية منبثة في الجهاز الحكومي، إضافة إلى عزوف المواطنين عن النشاط الحزبي بمن فيهم قدماء الوطنيين، ولم يبق من أنشطة سوى التي كانت تقوم بها جمعيات تابعة للأحزاب، أو بعض المنظمات المحسوبة عليها، كنقابة العمال والطلبة، وجمعيات قدماء المقاومين وجيش التحرير خصوصا في المناسبات الوطنية، وكل هذه قوات شعبية كان يشرف عليها غالبا نشطاء حزبيون من الجناح المنفتح على مستجدات العصر، وهذا لم يكن إلى يوم انتفاضة 25 يناير ينعت بـ”اليساري” ولا بـ”التقدمي” ولا بـ”الاشتراكي” كما سبق ذكره.
وابتداء من هذه الانتفاضة تغيرت الشعارات واستحدثت نعوت مثل تقدمي، رجعي، انفصالي، رغم أن العضوية في الحزب لم تخضع لأي شرط إلا قبول المبادئ الجديدة التي أعلنت عنها الانتفاضة وهي:
1 – بناء استقلال البلاد وتمتين وحدتها.
2 – تأسيس دستور ديموقراطي، وحكومة شعبية في ظل العرش العلوي.
3 – تربية الأمة تربية سياسية ديموقراطية.
4 – تكوين نهضة اقتصادية تضمن اليسر لسائر أفراد الأمة.
5 – توجيه تطور البلاد الاجتماعي والثقافي نحو حضارة وطنية وعربية إسلامية.
ولم يمر من عمر هذه الانتفاضة سوى شهور حتى أصبح لها فروع في أغلب المدن المغربية، ولئن سجل في البداية ضعف الإقبال بالنسبة لمناطق، فقد عرفت مناطق أخرى إقبالا كبيرا فاق ما كان متوقعا، ويرجع هذا التفاوت إلى نوعية السكان ودرجة وعيهم وتقبلهم لكل ما هو جديد، فبالنسبة للمدن الآهلة بالعمال والمثقفين والمتعلمين بصفة عامة، كان الإقبال ملحوظا، كما كانت نسبة هؤلاء هي الأعلى في باقي المناطق.
والذي يهمنا في سياق ما بدأنا به، هو كيف حظيت الانتفاضة بهذا الإقبال رغم ما ووجهت به من إشاعات حاولت تشويه مقاصدها والمس بسمعة نشطائها باتهامهم بنعوت لم تكن من القيم المقبولة من لدن العامة، فقد اعتبروا شيوعيين ملحدين، وأنهم ضد الملك والعرش العلوي.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن قادة هذه الانتفاضة كانوا معروفين لدى المواطنين ونشطاء الحركة الوطنية بالأخص، وكانوا متميزين بأفكارهم وديناميتهم، وبتضحياتهم ومواقفهم الشجاعة التي عانوا بسببها الكثير، فقد قضوا جل حياتهم إما في غياهب السجن أو بالمنافي وقت الاستعمار، وفي عهد الاستقلال تميزوا بجرأتهم ومبادراتهم الرامية إلى تنمية البلاد ونهضتها. وامتازوا أيضا بالذكاء في تدبير الأمور، حيث اعتمدوا في نهج نشر أفكارهم وأهدافهم بكيفية غير صادمة للشعور، ولا مثيرة لحساسيات واكتفوا بالتركيز على المبادئ والأهداف مستعملين كلمات ومصطلحات مألوفة لدى المواطنين، كالمساواة والعدالة الاجتماعية، مدعمين أفكارهم وآراءهم ومواقفهم وتصورهم لمعالجة القضايا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، ومستشهدين بسير السلف الصالح مثل عمر بن الخطاب، وأبي ذر الغفاري، وعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي… رضي الله عنهم. ومنهم من ذهب إلى اعتبار الغفاري رائد الاشتراكية الإسلامية.
وبانتفاضة 25 يناير 1959 عادت الروح للحركة الوطنية، وذلك بالتفاف الجماهير الشعبية حولها بمحترفيها وصغار تجارها ومتعلميها وعاطليها، وبورجوازيتها الصغرى والوسطى، ونقابييها وحشود عمالها وفقراء فلاحيها وهيئات طلابها، ولم تمض إلا شهور حتى توجت هذه الانتفاضة بالتفاف فعاليات وطنية من مختلف التوجهات فيعلن يوم 6 شتنبر 1959 عن ميلاد تنظيم جديد قوي، جديد بخطابه السياسي، وشعاراته الوطنية، قوي بمبادئه الواضحة وبقواته الحية المنصهرة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو اتحاد ضم في عضويته منذ البداية فعاليات من أحزاب عدة، الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، والحركة الشعبية والأحرار المستقلين، وهي فعاليات كانت مختلفة بل ومتنافرة قبل التقائها في رحاب الاتحاد الوطني الذي تعزز بانضمام هيئات نقابية مثل الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ورغم انضمام هذه القوات إلى الاتحاد فإنها بقيت كما كانت محتفظة إما بيمينيتها أو وسطيتها أو بيساريتها، ولكن هذه النعوت لم تمنع من “الاتحاد” أو “التحالف” عندما “لا يوجد أي تناقض بين مصالح العناصر التي تؤلف الشعب المغربي”، وعندما يقتضي ذلك العمل على “إحباط المطامع الاستعمارية وتحقيق الأهداف الوطنية”، وعندما تدعو الضرورة أيضا إلى “نبذ الحزبية التي لم تعد صالحة للقيام بتربية الجماهير وتجنيدها لمهام البناء، والتي صارت أداة للتفرقة، ووسيلة لاكتساب مراكز شخصية أو الحفاظ عليها”. وحينما يكون الأمر متعلقا بالدفاع عن الاستقلال ووحدة التراب الوطني، وجلاء القوات الأجنبية، وتصفية مخلفات الاستعمار ومواصلة سياسة التحرر الاقتصادي وتحقيق الإصلاح الزراعي، وانتهاج سياسة التصنيع وتأميم المرافق الحيوية والإسراع بتحقيق إصلاحات جوهرية وتكوين إطارات وفقا لمقتضيات بناء الاستقلال، واتباع سياسة منطقية في التعليم، وإقامة ديموقراطية واقعية تضمن لجميع المواطنين تسيير شؤونهم بأنفسهم سواء على الصعيد الوطني أو المحلي في دائرة ملكية دستورية تحت رعاية صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، ومساعدة الشعب الجزائري المكافح من أجل التحرير وتحقيق الاستقلال ووحدة المغرب العربي وتطبيق سياسة خارجية مبنية على مبدأ عدم التبعية…
هذه هي الأهداف التي تضمنها ميثاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهي أهداف عبرت عن مطامح كل الشرائح الوطنية بصرف النظر عن تحفظ بعضها من شعارات مثل “لا حزبية بعد اليوم، والإصلاح الزراعي، وتأميم المرافق الحيوية” ولكن الجميع وافق عليها باعتبارها “برنامجا ضخما قمينا بتحقيق الرفاهية والازدهار إذا تحقق”. إلا أن الذي ظل مثار النقاش ولربما مكمن الاختلالات التي رافقت مسيرة الحركة الاتحادية ولازالت إلى اليوم يرجع إلى عدم وضوح هويته، وقد ترتب عن هذا عدم تبنيه المذهب الاجتماعي الاقتصادي الذي ينسجم مع “تقدمية مناضليه ومكوناته الأساسية الطبقة العاملة وصغار التجار والفلاحين وفئات الطلبة والمثقفين المتنورين وشرائح المعوزين والعاطلين.
وهذا ما طرحه بعض المناضلين وناقشوه أثناء المؤتمر واستمروا في طرحه وبحدة أحيانا، إذ كانوا يرون أنه من الضروري إنشاء حزب مذهبي طليعي ذي أهداف تقدمية لصالح الطبقة الشعبية الكادحة.
وكان المفهوم من الحزب المذهبي في رأيهم هو ما أوضحه المرحوم محمد عابد الجابري في إحدى مقالاته المنشورة في جريدة التحرير يوم 13 سبتمبر 1959، والتي أعاد نشرها في العدد الأول من سلسلة “مواقف” ص 107، ومما جاء فيها:
“وهنا لابد من الإشارة إلى سؤال كثيرا ما يتردد على لسان الشباب والمثقفين والطلبة خاصة، وهذا السؤال الذي يطرح دائما هو: ما هو “المذهب” من بين المذاهب الاجتماعية الاقتصادية الذي ينوي تطبيقه دعاة التقدمية في المغرب، وبالخصوص قادة 25 يناير بالأمس والاتحاد الوطني اليوم؟ وعن هذا أجاب “أن الذين يطرحون هذا السؤال دائما يريدون أن يكون الجواب عنه كلمة واحدة ولعلها كلمة “الاشتراكية” وفي نظري إننا اليوم قد تجاوزنا مرحلة طرح مثل هذه الشعارات، وليس من صالحنا إطلاقا الخوض في غمارها لأن مثل هذا العمل سيصرفنا عن الأهداف الحقيقية المحددة أعلاه (أي الواردة في ميثاق الاتحاد) والتي ذكرت في فقرة سابقة.
ويضيف الجابري “ويفتح بابا واسعا للجدل والنقاش مما قد ينشأ عنه اختلاف في وجهات النظر، اختلاف في فهم كلمة اشتراكية…”، “إن الوقت ليس وقت نظريات ولا صراعات في نظريات إن الوقت اليوم بالنسبة للمغرب وقت العمل الجدي السريع المنظم، وأمام الاتحاد الوطني ميدان واسع للعمل وميدان فسيح للبناء، وعليه أن يبدأ منذ اليوم في العمل والبناء…”
أما عن شعار “لا حزبية بعد اليوم” والذي كان الشعار البارز بين الشعارات الأخرى فقد أثير بشأنه نقاش هو الآخر، حيث خصصت لتبريره فقرات من الميثاق، إذ يعلن أنه لا يوجد أي تناقض بين مصالح العناصر التي تؤلف الشعب المغربي وأن الاتحاد وحده هو الكفيل بإحباط المطامع الاستعمارية وتحقيق الأهداف الوطنية، وأن الأحزاب السياسية في شكلها الراهن أصيبت بالتعفن ولم تعد صالحة للقيام بتربية الجماهير وتجنيدها لمهام البناء، بل صارت أداة للتفرقة ووسيلة لاكتساب مراكز شخصية أو الاحتفاظ عليها ومما زاد في الطين بلة، كما قيل، أن ثلاث حكومات تعاقبت على إدارة الشأن العام في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات بمعدل سنة لكل حكومة، ولم يتحقق على يدها ما كان مأمولا أن يتحقق لمصلحة الجماهير الكادحة وكل ما شاع في ظلها سيادة المحسوبية والتطاحن على المناصب، وعودة النزعة القبلية، مما أدى إلى قلاقل وحركات تمرد كادت تفضي بالبلاد إلى متاهات لا يدري إلا الله عواقبها، وكل هذا بسبب غلبة النعرة الحزبية على الروح الوطنية.
وكان من نتائج هذا المآل بروز ظاهرة العزوف عن الحزبية حين تيقن الشعب أنه لا أمل إطلاقا لا في حزب الاستقلال ولا في غيره من الأحزاب. وعلى هذا الأساس فكر رواد الحركة الاتحادية في تصحيح مسار العمل الحزبي والسياسي عامة، وأنبروا يدعون لإجراء إصلاحات داخل الحزب، ولكن دعوتهم لم تجد، فاضطروا للانشقاق من الحزب وتأسيس تنظيم لم تغب عن اسمه كلمة “حزب” ولا “استقلال” تجنبا لإثارة حساسيات ترسخت عبر سنوات من التعلق ب”حزب الاستقلال” الذي أدي اليمين للإخلاص “لله والوطن والملك وله”، وبقي اسم حزب الاستقلال مضافا إليه الجامعة المستقلة في كل فرع أعلن انفصاله عن حزب الاستقلال (في الفترة ما بين 25 و31 يناير 1959) وفي فاتح فبراير انعقد اجتماع في البيضاء حضره ممثلو الفروع الجاهزة الذين أعلنوا عن ميلاد “الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال” وبعد شهور من نفس السنة تغير الاسم فصار “الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال” وبعد فترة تغير الاسم فأصبح الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وبالتدريج نجح الحزب الجديد في إقناع أتباعه لتقبل بعض المصطلحات وتداولها مثل “تقدمية” ونبذ الأفكار الرجعية والتخلي عن تقديس الزعامة والتحزب الأعمى.
فمنذ تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، ومسؤولوه منكبون علاوة على الاستقطاب والتنظيم، على توضيح جوانب تتعلق بمبادئ الحزب الجديد وأهدافه، ويردون على الاتهامات والإشاعات التي كان خصومهم يروجونها بهدف النيل من الحزب وأهدافه، وتخويف المواطنين من أفكاره “الهدامة” و”ضديته للملكية” وللدين الإسلامي.
وباستقراء أدبيات تلك الفترة وما قيل وما كتب بشأن مصطلحي التقدمية والرجعية، يكتشف مدى الجهد الفكري الذي بذله رواد انتفاضة 25 يناير من أجل إزاحة ما كان يشوب المصطلحين من غموض وتضليل.
فمنذ انتفاضة 25 يناير 1959، أخذ مصطلحا التقدمية والرجعية يتصدران الشعارات المرفوعة كسلاح لفظي اجتماعي سياسي فكري ثقافي يستعمل ضد أو لفائدة الحزبين الندين الذين استحوذا على الساحة الحزبية (حزب الاستقلال والجامعات المتحدة لحزب الاستقلال (المشتق من أضلاعه)) وظف الأول مصطلح تقدمية ضد غريمه الثاني باعتبارها كلمة دخيلة تعني التخلي عن التراث الوطني وعقائده واستبدال الأفكار الإلحادية والشيوعية بها، ويدعي أن كلمة الرجعية التي ينعت بها من طرف خصمه تعني المحافظة على القيم الدينية الوطنية، بينما روج الثاني كلمة رجعية كوصمة عار لأنها تعني الجمود ومعاداة التقدم. وأمام هذا التضليل والتشويه تصدت صحف الحزب الجديد للتوضيح والتفنيد عبر جريدتين هما “الطليعة” لسان حال نقابة الاتحاد المغربي للشغل و”التحرير” لسان الجامعات المتحدة قبل أن تصبح لسان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ابتداء من 6 سبتمبر 1959.
ومن بين ما صدر في هذا السياق مقال لمحمد الجابري نشرته جريدة التحرير يوم 6 أبريل 1959، يدور حول تعريف المفهومين الرئيسيين الموظفين للتعبير عن مضمون حركة 25 يناير وهما التقدمية والرجعية، وقد أعاد نشره في سلسلة مواقف رقم 1 صفحة 65 بعنوان “التقدمية والرجعية”، ولأهميته أولا وليطلع عليه من فاتته قراءته في المرجعين المذكورين ثانيا، يعاد التذكير به، وهو من النماذج التي تعكس جانبا من المعركة التي كان مناضلو الانتفاضة يخوضونها على المستوى الفكري والتنظيري حسب تعبير الجابري رحمه الله.
جاء في تعليق الجابري على مفهومي التقدمية والرجعية ما يلي:
“الناس اليوم في بلادي نوعان: نوع يؤمن بالفكرة ويعمل من أجلها ويتخذها معيارا يقيس به الصالح من الطالح، ونوع يؤمن بالشخص ويعمل من أجله، ويسلم مقاليد أموره إليه، إن أرضاه رضي عن نفسه وإن أسخطه عاد إلى نفسه باللوم والعتاب. وعندي أن الخط الذي يفصل بين هذين النوعين من الناس هو نفس الخط الذي يفصل بين ما يسمى بالرجعية وبالتقدمية، فالنوع الأول في نظري تقدمي أو على الأقل أقرب إلى التقدمية من الثاني، ذلك لأن تشبثه بالفكرة يقتضي أن يلتزم بها وأن يكون على درجة من النضج والوعي، ولأن إيمانه بها يستلزم أن يعمل من أجل تحقيقها وأن تكون له إرادة قوية وعزيمة صادقة، ولأن جعله إياها مقياسا يقيس به الأشياء يعني أن يتجرد من الأغراض والأهواء مما يدل على أنه مالك زمام نفسه مسيطر على ميولاته، أما النوع الثاني فهو في نظري رجعي، ذلك لأن إيمانه بـ”الشخص” إيمانا أعمى يعني أنه هو فاقد لشخصيته، ولأن خدمته لذلك الشخص وتفانيه في إرضائه والدفاع عنه يعني أنه عبد ذلول لا يحس لكيانه وجودا ولا لوجوده مغزى، ثم لأن تسليم مقاليد أموره إليه وجعل تصرفه مقياسا يقيس به الأمور يعني أنه مازال يعيش في العصور الأولى من تاريخ البشرية يوم كان زعيم القبيلة ورئيس الأسرة هو المالك لأمر القبيلة أو الأسرة المتصرف فيها، يوم كانت البشرية جماعات تسير على غير هدى تخضع لقائدها ضالا مضلا”.
وينهي الجابري تعليقه بالتنبيه إلى أنه “لا يدعو إلى فقد الثقة ببعضنا بعضا، وإنما يريد أن يكون للمرء فكر حر ومعايير سليمة بهما يقيس صلاحية أو فساد هذا المبدإ أو ذاك، هذا الشخص أو ذاك، ويريد ألا يتصرف أحد تصرف الصم العمي البكم الذين لا يبصرون تماما كما يفعل بعض الناس ولايزالون…”
ثمانية أشهر هي المدة الزمنية التي أمضاها نشطاء الجامعات المتحدة في إقناع الناس بأن ما يدعون إليه اليوم هو من صميم مطالب الحركة الوطنية وأن الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، وإنما وسيلة لتحقيق هذه المطالب والتي تعتبر أهداف الجامعة المتحدة من أولوياتها… قضوا هذه المدة وهي قصيرة في عمر الأحزاب في إنجاز مهمتين صعبتين، الأولى “إعادة الروح” لمجالات فقدت مصداقيتها وفي مقدمتها العمل السياسي، ولقيم معنوية كان لها الأثر الكبير في الإقبال على انخراط أفراد الشعب في صفوف الحركة الوطنية ومنها حب الوطن والإخلاص والتضحية والاستقامة ونكران الذات، وهي قيم صارت مثار استهزاء وسخرية ومن علامات التخلف. أما المهمة الثانية فهي إحياء التعبئة الشعبية التي عرفها المغرب في السنوات الأولى من عهد الاستقلال، طريق الوحدة، التطوع في العمل بأوراش الشباب، وتفعيل جمعيات المجتمع المدني للمساهمة في عملية التنمية خاصة وقد تهيأت الظروف لذلك حيث سبق أن قام جلالة الملك محمد الخامس رحمة الله عليه بمبادرة جريئة في المجال الحكومي.
عرف المغرب تجارب لثلاث حكومات شاركت فيها شخصيات من مختلف الأحزاب ولكنها كانت عاجزة عن تحقيق ما كان يطمح إليه المغرب بما فيها الحكومة التي عين على رأسها الأمين العام لحزب الاستقلال وهي محسوبة من حزبه على أية حال، فكان من المفروض على هذه الحكومة أن تطبق برنامج الحزب الذي ينتمي إليه رئيسها وأغلب الوزراء … وعوض ذلك شهدت البلاد في عهدها شتى مظاهر “الفساد” بجميع أنواعه وفي الإدارة خاصة، حيث عمد “الوزراء إلى توظيف من يثقون فيه ويخدم مصالحهم، مما سبب في إنشاء “هيكل” إداري متسلسل مبني على المحسوبية والزبونية والقرابة” ففقدت ثقة الشعب، وكثرت الانتقادات وحتى من طرف المنخرطين في الحزب والذين كانوا أشد انتقادا من غيرهم، بل وأن وزير الاقتصاد فيها وهو عبد الرحيم بوعبيد لم يجد أمام هذه الوضعية إلا تقديم استقالته التي أحدثت أزمة حكومية اضطر الرئيس لتقديم استقالة حكومته. و بعدها مباشرة عين جلالة الملك محمد الخامس مولاي عبد الله إبراهيم خلفا له، ولعل إسناد رئاسة الحكومة لهذه الشخصية لم يكن بدون خلفيات، فالمغرب كان يجتاز وضعا مفعما بالاختلالات يهمنا منها ما يرجع للعلاقة بين حزب الاستقلال والقصر، فمن جهة عمد الحزب منذ اللحظات الأولى للاستقلال إلى محاولة تطويق القصر عن طريق الهيمنة على دواليب الدولة، وبالمقابل نهج القصر سياسة إضعاف نفوذ الحزب وحصر مده الشعبي مستغلا ما ارتكبه مسؤولوه من أخطاء تحول بسببها إلى حزب تحكمت في سياسته الزبونية والمحسوبية، والميل إلى خدمة الطبقة البورجوازية التي كانت في طور التبلور عبر عناصر من قدماء الوطنيين ممن كانوا مؤهلين للتموقع في المفاصل الحساسة من أجهزة الدولة بسبب انتمائهم لعائلات ميسورة، والتي كانت منذ انخراطها في الحركة الوطنية تتهيأ لملء “الفراغ” الذي سيقع بعد الاستقلال في المرافق الحساسة للدولة، ولاسيما التجارية والصناعية والمصرفية، وجهاز الأمن بشقيه العسكري والمدني، لكن “السحر قد ينقلب أحيانا على الساحر” وهذا ما وقع لحزب الاستقلال عندما اهتم بترجيح مصالح فئته البورجوازية، على حساب مصالح “قواته الشعبية” فاستغل هذا لاتهامه بالانحياز لفئة بورجوازية معينة، وتأليب المواطنين عليه، والمس بسمعة رموزه، ونسبة بعض الأحداث إليهم عن حق أو باطل، كما أثيرت فتن ضده، فكانت النتيجة فقدان الحزب لإشعاعه ومصداقيته فانطلقت الألسنة وغالبيتها مغرضة تلوك شعارات أخفها “من حزب الاستقلال” إلى حزب المحسوبية والاستغلال، وستزداد سمعة الحزب سوءا عندما أسندت رئاسة الحكومة إلى أمينه العام الحاج أحمد بلافرج كما سبق ذكره، وأمام هذه الوضعية سارع من كانوا ينادون بإجراء إصلاحات داخل الحزب إلى الصدع بموقفهم عبر محاضرات ومقالات، والدعوة إلى عقد المؤتمر الوطني. تشكلت لتحضيره لجنة لم تتوفق في عقده. ولقد تخلل فترة عمل اللجنة مناقشات واقتراحات أفرزت فريقين أحدهما محافظ والآخر مجدد، وعن هذا انبثق تياران الأول يقترح القيام بإصلاحات داخل الحزب ويتزعمه كل من المهدي بنبركة وبوعبيد، والآخر يفضل الانفصال، وعلى رأسه المحجوب بن الصديق ومحمد البصري بدعم من مولاي عبد الله ابراهيم.
لم ينعقد المؤتمر في موعده المتفق عليه وهو 11 يناير 1959 فرجحت كفة الانفصال وانتفضت فروع الحزب انطلاقا من 25 يناير 1959 معلنة عن تأسيس جامعة مستقلة في كل عمالة لتعلن عن اتحاد هذه الفروع تحت اسم “الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال” وبعد شهرين تقريبا كانت غالبية فروع الحزب قد انتفضت، فانعقد جمع عام بمدينة طنجة حضرته كل فروع الجامعات المستقلة لتعلن عن تشكيل “هيئة” وطنية باسم “الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال”.
حدثان مهمان عرفتهما البلاد في ظرف شهرين: الأول استقالة حكومة الحاج بلافريج الأمين العام لحزب الاستقلال المعروف بنزعته المحافظة وتوجهه الليبيرالي، وتعيين مولاي عبد الله ابراهيم خلفا له، وهو المحسوب إذاك على الجناح “اليساري التقدمي لحزب الاستقلال” والذي كان من أشد المنتقدين لحكومة سلفه بلافريج، والثاني تأسيس حزب لم يخف منذ البداية تأييده للحكومة الجديدة. إنهما حدثان لم يدرك خلفياتهما ولا أبعادهما إذاك إلا نخبة، وهي قليلة جدا ممن لها صلة وثيقة بموقع القرار. (القصر وقيادة الحزب) مع اختلاف في الهدف الحقيقي لكلا الطرفين… وما كنا ندركه – نحن مجموعة من شباب الحزب – أن الملك محمد الخامس الذي ظللنا متشبثين به إلى أن توفاه الله، اختار رجلا كنا أيضا نقدره ونلمس فيه ميلا إلى الكادحين. وهل كان هناك في تلك الفترة من أفراد الشعب من لا يثق بهذا الملك ولا يؤيد قراراته؟ وعلى كل حال فالردود الأولى على تعيين حكومة عبد الله ابراهيم جاءت مختلفة: فهناك معارضة شديدة، انصبت على شخصية الرئيس المعين، إذ ما إن تم تنصيبه حتى انهالت عليه صحف الحزب وأبواقه بعكس التقدير الذي كان يحظى به وهو يناضل بوقته وفكره “أيام زمان” متحاشية المس بالذي عينه لأنه جانب ذي حساسية، هذا من جهة ومن جهة أخرى تأييد مطلق لهذا التعيين باعتباره منقذا للبلاد مما آلت إليه من تخبط وتدهور في جميع المرافق، فقد رأى فيه المؤيدون منذ اليوم الأول لتنصيب الحكومة مبادرة مباركة جديرة بالثقة وعودة الأمل إلى الشعب المغربي، ثقة وأمل اعتبرهما البعض الأساس الذي ارتكز عليه تأليف هذه الحكومة لأن المبادرة جاءت بعد تحرك حزبي قاده المهدي بنبركة عبر سلسلة من المحاضرات انتقد فيها حكومة بلافريج ودعا إلى إدخال إصلاحات داخلية في الحزب أشهرها محاضرتان إحداهما تحت عنوان “مسؤوليتنا” والثانية “نحو بناء مجتمع جديد” و بموازاة محاضرات المهدي بنبركة شن العمال إضرابات في عدد من القطاعات، كما ساهمت المركزية النقابية للاتحاد المغربي للشغل UMT وهي النقابة الوحيدة، في انتقاد الحزب الذي كانت إلى عهد قريب محسوبة عليه، وهذا ما نجد المرحوم قاسم الزهيري يذكر به في مؤلفه “أزمة بعد أخرى” ص 93، حين أشار إلى أن “اللجنة التحضيرية فوجئت بحملة موجهة على أعمدة جريدة “الطليعة” ضد اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال إما في صورة برقيات هيئت وطبعت بالبيضاء، ثم وزعت على مختلف الأشخاص وفروع حزب الاستقلال، وإما في صورة مقالات تكتسي صبغة التحطيم والهدم” ونسي قاسم الزهيري أن يذكرنا بعمود “مزود هداوة” الذي كان يعده عبد الله رشد بتوقيع “ولد جامع الفنا” وإلى جانب هذا شهدت المنظمة الطلابية أنشطة وتحركات فسرت بأنها من وحي الجناح المعارض لحكومة بلافرج، وما زاد في تأجيج السخط على حكومة بلافريج ومن ثم على حزبه ما شهدته بعض الأقاليم من “تمرد” وتحرش ضد مفتشيات الحزب ونشطائه. وقد استغلت بعض الجهات هذه التصرفات لتشن حملة مشينة على حزب الاستقلال وعلى “الحزبية” بصفة عامة وحملت “الحزبية” مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بالبلاد… وفي ظل هذا المناخ السياسي لم يكن أحد يدري ما كان يجري وراء الكواليس للخروج من هذه الأزمة إلا القصر وشخصيات ممن اتفق معهم على تأليف الحكومة الجديدة وعلى رأسهم رئيسها. وبغض النظر عن علم الرأي العام أو جهله بما جرى في الكواليس، فالذي كان يعنيه بالدرجة الأولى هو ما يقرره الملك محمد الخامس باعتباره الحكم الذي يلجأ إليه عند الأزمات.
فبعد تقديم بلافريج لاستقالة حكومته أخذت الشائعات والتكهنات والتوقعات تنتشر عن تشكيل الحكومة المقبلة، هل ستكون حزبية منسجمة، أو حزبية ائتلافية، أم ستكون “مستقلة” بقطع النظر عن انتماءات أعضائها… في الوقت الذي كانت هذه الاحتمالات تروج كان هناك توجهان في القصر الملكي، توجه الملك محمد الخامس وديوانه، وتوجه ولي العهد وحاشيته. والذي اتضح فيما بعد أن المرحوم علال الفاسي كان مرشحا لرئاسة الحكومة لكن ميزان القوى لم يكن لصالحه، لأنه كان معدودا في صف الجناح المحافظ للحزب، والذي رأى مستشارو الملك محمد الخامس في تعيين علال الفاسي تكرارا لتجربة أمين عام حزبه الحاج أحمد بلافريج، وهذا ليس من شأنه إرضاء الرأي العام، وفي مقدمته الجناح اليساري لحزب الاستقلال الذي تتعاطف معه المنظمات الموازية للحزب كالنقابة واتحاد الطلاب وجمعية قدماء المقاومين وجيش التحرير علاوة على الفئات الشعبية غير المتحزبة وما أكثرها.
كثير من الأحداث لا تنجلي غوامضها ولا تنكشف ملابساتها إلا بعد حين من الدهر يطول أو يقصر. ففي إحدى الزيارات التي اعتاد القيام بها أحد الأشخاص لمسؤول قيادي في الاتحاد، فوجد عنده جريدة التحرير، وكان من بين أعمدتها عمود مزدان بصورة عبد الرحمان أنجاي مدير ديوان الملك محمد الخامس وكان قد توفي إثر حادثة سيارة. فلما قرأ ما ورد في العمود من تنويه بالفقيد وتقدير لإخلاصه ووطنيته، ولما سأله عن سبب هذا أجابه: لو كنت تدري فضل هذا الرجل على البلاد لما سألت. لا أعني ما قدمه للمغرب من خدمات أيام الحماية وحسب، بل وما قام به لإخراجه من الأزمة التي شهدها بعد استقالة الحاج أحمد بلافريج. فهو الذي اقترح على الملك محمد الخامس إسناد رئاسة الحكومة لعبد الله ابراهيم.
كان المرحوم عبد الرحمان أنجاي من الرعيل الأول للحركة الوطنية، ممثلا لها في المحافل الدولية، وقد استمر في نفس المهمة بعد استرجاع المغرب لاستقلاله إلى أن عينه جلالة الملك محمد الخامس مديرا لديوانه، وهو معروف بمستواه العلمي والفكري والدبلوماسي ما أهله ليحظى بثقته والارتياح لآرائه واقتراحاته، وهو حسب الذين عاشروه عن قرب كان وطنيا مخلصا متفتحا يحترم بالأخص رجال المقاومة وجيش التحرير، وكانت علاقته طيبة مع عبد الرحمان اليوسفي خاصة، ولا شك أن هذه العلاقة هي التي جعلته يرى في رفاقه المنتمين للجناح التقدمي للحزب وفي مقدمتهم عبد الله إبراهيم، الجدارة لإخراج البلاد من أزمتها، من هنا يمكن الاستئناس إلى ما سبق ذكره في شأن دور عبد الرحمان أنجاي في إسناد الرئاسة لعبد الله إبراهيم. وسيتضح ذلك أكثر عندما أخذ المحللون السياسيون يتحدثون عن تلك الحقبة وعن ملابستها بشيء من الوضوح. وبغض النظر عما شاب تحليلات المحللين وتعليقات المعلقين من غلبة الجانب الذاتي في تقييمهم لما جرى في تلك الحقبة، ولاسيما اختيار الملك لعبد الله إبراهيم خلفا للحاج أحمد بلافريج، فإن المحلل والمعلق الموضوعي لا يمكنه إلا الاعتراف بأن الدافع الأول لهذا الاختيار هو ترجيح الملك محمد الخامس لمصلحة البلاد، وهو في ذات الوقت اختيار لمصلحة العرش… وقد دلت على صواب هذا الاختيار المنجزات الهامة التي عرفتها المدة التي استغرقتها الحكومة الجديدة رغم قصرها (18 شهرا فقط) على حصافة الملك محمد الخامس ومستشاريه. ليس هذا ما يعنينا في هذا المقام، وإنما سبقا للتذكير بالمناخ السياسي العام، وبما اعترى العمل الحزبي من اختلالات انعكست سلبا على سير حزب الاستقلال ونالت من سمعته، وأضعفت من قوته ودفعت الكثير للعزوف عن الحزبية، وهي متغيرات جديرة بالتذكير باعتبارها من ممهدات انتفاضة 25 يناير 1959. ونعود للشعارات التي كانت مثار نقاشات وتعليقات وتساؤلات وليكن التركيز على شعار “لا حزبية بعد اليوم” الذي تصدر شعارات المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية والذي تمت الإشارة إليه في فقرة سابقة، وأرجأت معالجته: ومن الجدير بالتذكير بخصوص “لا حزبية” أنها لفظة سبق استعمالها بعد تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم مباشرة، فما الداعي للتنكر للحزبية، ورفع شعار “لا حزبية بعد اليوم” هل يرجع هذا إلى الحزبية بذاتها كمفهوم لمؤسسة سياسية (حزب) اتفق علماء السياسة على أنها من ضرورات النظام الديموقراطي؟ أم هناك أسباب موضوعية ساهمت في إفراغ هذا المصطلح “الحزبية” من مدلوله الحقيقي؟ فالحزب والأحزاب بصفة عامة وإن عدت من أركان الأنظمة الديموقراطية بمفهومها الغربي التقليدي، إلا أنها – كغيرها من الكيانات- تمر بأطوار تعز فيها وتجل، وبأخرى تهان فيها وتذل، فكيف ذلك؟
باستقراء تاريخ الأحزاب بالمغرب مثلا، نخلص إلا أنها عرفت عهدين، عهد الكفاح من أجل استرجاع الاستقلال (1934-1955) وعهد بناء الاستقلال (ابتداء من 1956) ففي العهد الأول كان الانتماء إلى الأحزاب صعبا وعزيزا في ذات الوقت، صعبا لما يترتب عليه من تضحيات ومغارم لا يتحملها إلا الصناديد، وعزيزا لا يحظى به إلا من توفرت فيه شروط كانت تقتضيها المرحلة، وإذا حظي به المرء اعتز أيما اعتزاز واعتبر نفسه مواطنا ذا شأن بين أقرانه. فعزة الأحزاب والاعتزاز بالانتماء إليها حين كانت القضية التي تتبناها وتكافح من أجلها، واضحة لا يستفيد منها شخص بعينه ولا جماعة بذاتها، وحين كان المنتمون يتنافسون على البذل والجهد، لا على المناصب والرتب، وكان القادة مضرب المثل في الجرأة على المبادرة، وحكامة في التدبير، ومعاملة الإخوان والرفاق معاملة لا تختلف عن معاملة ذوي القربى وعدم الزج بهم في معارك غير محسوبة وعدم التخلي عنهم ولا عن ذويهم لدى الملمات. كانت هذه القيم هي التي تحكم العلاقة بين القادة والمناضلين في قواعد الأحزاب، وهذا ما كان سائدا على مستوى القيادات، كانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا كما جاء في الحديث الشريف، ولا مبالغة إذا قيل أن علاقة المناضل بالمناضل كانت بمثابة العلاقة بين المرء وأخيه إن لم تكن أقوى وأحن، إن هذه القيم كانت تشكل اللحمة الروحية التي تشد مكونات الأحزاب والهيآت الاجتماعية الأخرى بعضها إلى بعض لهذا كانت الأحزاب “عزيزة” “محبوبة” يبذل “المتحزب” من أجل ازدهارها وتقوية صفوفها كل ما يستطيع، رغم أن الانتماء إليها يكلفه العناء وشتى الإكراهات.
كانت الأحزاب عزيزة يوم كان الانخراط فيها “عزيزا” أي خاضعا لعملية عسيرة يتم بها انتقاء الأعضاء “المترشحين” للعضوية بعد عرض صورهم على سائر أفراد خلايا الحزب في المدينة أو القرية. ومن إيجابيات هذه الطريقة في قبول الانخراط، أن الحزب يحصن نفسه من الاختراق، وهو أشد المكائد خطرا على أي تنظيم ولاسيما إذا فرض عليه العمل في السرية – وهذا وضع الأحزاب المغربية قبل الاستقلال – ومن إيجابياته أيضا اكتساب المناعة ضد تسرب ما كان يعد لمواجهة تدابير السلطات الاستعمارية الرامية للقضاء على الحركة الوطنية وكمثال على ذلك يرجع بالذاكرة إلى أحداث غشت 1953 بوجدة للوقوف على إيجابية هذه الطريقة. فحسب المعلومات المستفادة من مسؤولين أساسيين في فرع حزب الاستقلال إذاك، كان فرع وجدة مثلا يتكون من مكتب وعدة مراقبين ومسيرين ولا يتعدى عدد الجماعات المنتظمة في إطاره العشرين، وكل جماعة لا يتجاوز عدد أعضائها خمسة عشر وإذا ضربنا 20 في 15 فإن مجموع الأعضاء الذين كانوا منخرطين 300 عضو، ولا يدخل في هذا العدد النشيطون في المنظمات الموازية ممن لم يبلغوا السن المشروطة للانتماء وهي ثمانية عشر. فهؤلاء كانوا منتظمين في جمعيات كشفية أو ثقافية أو رياضية وقد تجلت إيجابية طريقة الانتقاء في أحداث غشت 1953 وبعدها، وذلك حسب ما يتبين من إيقاع مجرياتها بما فيها الإعداد والأداء… يتعلق الأمر بمواجهة المؤامرة المعروفة التي كان يدبرها أساطين الاستعمار الفرنسي ضد الملك الشرعي محمد الخامس رحمة الله عليه. وقاموا بتنفيذها يوم 20 غشت 1953 حيث استبدلوا محمد ابن عرفة به ونفوه هو وعائلته إلى مدغشقر، وكما هو معلوم، لم تمر هذه المؤامرة الشنيعة بدون ردود فعل الشعب المغربي، ويكفي استحضار ما وقع بمدينة وجدة يوم 16 غشت لأنه أقرب إلى ما نحن في سياقة وهو طريقة انتقاء المناضلين. وهذه المسألة تعود إلى تغير في توجه الحركة الوطنية، هدفا وتنظيمها، أي انتقالها من طور المطالبة بالإصلاح إلى طور المطالبة بالاستقلال، وهذا ما اقتضى تحولها من حزب وطني ذي أهداف محددة في إصلاحات مجالية إلى حزب ذي إيديولوجية استقلالية تناقض الإيديولوجية الاستعمارية شكلاً ومضموناً، وهذا ما اقتضى أيضا تغيرا في أساليب المواجهة بين الطرفين: الأحزاب الوطنية، وإدارة الحماية. فكان لابد من اعتماد تنظيم حزبي دقيق، تراعى في الانخراط فيه مواصفات تتطلبها طبيعة هذه المواجهة، فتقرر تشكيل مكاتب محلية وخلايا حزبية كانت تدعى في تلك المرحلة “الجماعة” يشرف عليها كتاب وأمناء ومسيرون (قراء نشرات الحزب) ومراقبون، وذلك بالطريقة المومإ إليها في فقرة سابقة، والذي يهمنا في هذا المقام هو أن مكتب فرع الحزب بوجدة كان قد نظم المنتمين إليه وفق الطريقة المذكورة آنفا ومما ساعده على الإعداد للقيام بمظاهرات ضد مؤامرة الإقامة العامة الرامية إلى خلع الملك محمد بن يوسف باعتباره المحرك الخفي لجميع المبادرات الوطنية حسب ما تصورته الإقامة العامة انطلاقا من تقديم وثيقة 11 يناير 1944 مرورا بخطاب طنجة يوم 10 أبريل 1947 وصولا إلى خطاب 18 نوفمبر 1952 والذي قارن فيه الملك الحماية بقميص ضاق على مقاس صاحبه مع المطالبة بالانعتاق الشامل والآني للمغرب …
كان لهذا الخطاب أثره الشامل والفوري ضد الوجود الاستعماري، وتأثيره القوي في نفوس الوطنيين على جميع المستويات. فمن جهة دفع أنصار الإقامة العامة للتحرك ضد جلالة الملك، والمطالبة بخلعه، ومن جهة ثانية حفز الوطنيين إلى الاستعداد لمواجهة ما تبيته الإقامة العامة وعملاؤها ضد السيادة المغربية، ستمتحن الأحزاب ولاسيما حزب الاستقلال باعتباره الأكثر جماهيرية والأقوى تنظيما، ومعنى ذلك أنه سيتجلى ما إذا توفق الوطنيون بعد ما يقرب من عشرين عاما في بناء حزب طليعي منظم محصن من الاختراق قادر على مواجهة المؤامرات المحاكة ضده كحزب وطني، وضد كل ما تخططه الإقامة العامة من سياسات هادفة إلى طمس الهوية الوطنية للمغرب وذلك عبر معارك احتجاجية وإن بشكلها السلمي كالتظاهر والإضراب وتقديم العرائض ورفع البرقيات، وصولا إلى المعركة النهائية والتي بدا منذ عقود من الزمن أنها آتية ولا ريب، لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وقد شهد المغرب ما بين 1944 و1953 عدة مظاهرات واضطرابات وتقديم عرائض كان أكثرها من تدبير الحزب وتخطيطه، وكانت مظاهرات 16 غشت 1953 بوجدة من أهم المظاهرات إعدادا وتخطيطا وأداء وترويعا لسلطات الحماية، وقد دلت مجرياتها على مدى دقة التنظيم المعتمد في تسيير الحزب بمدينة وجدة وهو تنظيم كان يقوم على شروط صارمة في قبول العضوية كما سبق ذكره، وهذا ما فوت على إدارة الحماية اكتشاف ما كان فرع الحزب بوجدة يعده لمواجهة قرار خلع الملك، وهذا لا يعني أن هذه الإدارة كانت تعرف كل شيء عنهم ولكن ما لم تستطع الإطلاع عليه، هو الاجتماعات التي كانت تعقد، أو ماذا كان يخطط فيها ولا عن اللجان المهيأة للتنفيذ، وما كان ينقصها أيضا وهو الأهم، علمها بما اتخذ من قرارات وهو القيام بمظاهرات، إذ لم يكن يعلم بها ولا عن زمن ومكان انطلاقها سوى المنتظمين في خلايا الحزب، أما إدارة الحماية فلم تكن تعلم شيئا عن تفاصيل ما يعد في الخفاء من طرف أعضاء الحزب… ورغم أن الشرطة الفرنسية اعتقلت بعض المسيرين وحاولت انتزاع معلومات منهم عما يدبره مكتب الفرع، فإنها لم تفلح في ذلك لأن الاعتقال وقع قبل اتخاذ قرار من طرف أعضاء مكتب الفرع، ومما يرويه أحدهم أنه تعرض لتعذيب شديد بعد انتهاء المظاهرات بسبب ما اعتبرته الشرطة تضليلا لها عندما صرح لها بأن الحزب لا ينوي القيام بأي شيء وأنه سيكتفي بإرسال برقيات احتجاج إذا ما تم خلع الملك محمد الخامس. وهناك ما يؤكد عدم علم أجهزة الشرطة وعناصر المخابرات بما قرر وهو أن المظاهرات بدأت على السادسة مساء من ساحة سيدي عبد الوهاب ثم انطلقت منها لتمتد عبر الطرق المتفرعة عنها لتغطي أهم مناطق المدينة بما فيها بعض الأحياء العصرية التي يشكل المستوطنون الأوروبيون غالبية سكانها، ومع ذلك لم يصادف المتظاهرون عبر مسيرتهم من قوات الأمن سوى ضباط جيش وجندي من اللفيف الأجنبي قدر لهما أن يلقيا حتفهما على أيدي المتظاهرين. وتمضي على المظاهرات مدة أنجز فيها ما أنجز من طرف المتظاهرين قبل أن تستدعى القوات العمومية للتدخل والتي كانت عناصرها في عطلة على ما يبدو فقد كان اليوم يوم أحد … وسيروى فيما بعد أن عددا من مسؤولي السلطة بمن فيهم ضباط الشرطة والجيش كانوا يوم 16 غشت يقضون عطلتهم الأسبوعية في منتجعات بنواحي المدينة مثل السعيدية، وتافوغالت ودبدو، وهذا ما فهم من سؤال طلب من رئيس المحكمة توجيهه لرئيس الناحية “برونيل” في جلسة من جلسات المحكمة التي عقدت للنظر في أحداث 16 غشت ما بين 29 نوفمبر و10 دجنبر 1954 بمدينة وجدة وهو سؤال رفض من لدن رئيس المحكمة، وهناك شهود عيان ممن كانوا يقطنون في أحياء قريبة من مداخل المدينة رأوا فرقا من الجنود تدخل المدينة مساء ذلك اليوم بعد أن كان المتظاهرون قد احتلوا مناطق عديدة من وسط المدينة بما فيها شارع فرنسا (شارع محمد الخامس حاليا) وساحة 16 غشت حاليا، بل ومنهم من كاد يصل إلى محطة القطار لينفذ ما كان مقررا بشأنها لولا تدخل الجنود الوافدين من ثكنة بني وكيل… وفي ذات الوقت كانت سيارات مدنية تغادر المدينة وعلى متنها عائلات من المستوطنين الأجانب لائذة بالفرار للنجاة من هول ما حدث… وكان هذا دليلا آخرا على أن الإدارة الاستعمارية فوجئت بما حدث وإلا لو كانت قد علمت به، لما استمرت المظاهرات إلى الثانية عشرة ليلا، ولما نجم عنها خسائر مادية وبشرية في الجانب الفرنسي قدرت بتسعة وعشرين قتيلا و29 جريحا، وإحراق وتخريب عدد من منشآت في ملكية أجانب أو عملاء الإدارة… أما القتلى في صفوف المتظاهرين فلم يعرف عددهم باستثناء من ماتوا في زنزانة وهم أربعة عشر لم “تعرف أسماؤهم” هذا ما لم ينجم عن مظاهرات سابقة أو لاحقة.
إن القصد من التذكير بمظاهرات 16 غشت هو التأكيد على أن كل تنظيم يصان من الاختراق تكون قراراته سالمة من التسريب سهلة الأداء ومن ثم مضمونة النتائج غالبا… فأجهزة الشرطة لم تعلم بالمظاهرات إلا عند اندلاعها ولم تتمكن من التدخل إلا بعدما قام كل واحد أو مجموعة بما خطط له أولها، دون صعوبة لأن المواقع المستهدفة لم تكن محروسة، كما هو الحال عندما تعلم السلطة بأن أمرا مدبرا سيقع.
* عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
الثلاثاء 31 مارس 2015