يقف الروائي والمؤرخ، كل من الآخر، موقف الشك والريبة. ربما كان الأصح أن نقول إن اسبابا كثيرة وتقاليد عديدة راسخة تجعل من كل منهما الطرف النقيض والمضاد للآخر. ينتمي الروائي، بموجب تلك الأسباب والتقاليد، إلى عالم الخيال أو لنقل إن مادة عمله تلزمه أن يقطن في عالم الخيال المطلق ليس له أن يبرحه: ينسج وقائعا وأحداثا لم تحدث في يوم من الأيام ولا في زمان من الأزمنة. ينسج أحداثا هو صانعها، يملك دون غيره أن يعمل فيها مبضع الحذف أو الإضافة حسبما يشاء خياله. أما المؤرخ فهو على العكس من ذلك (أو هكذا يبدو الأمر على الأقل) أسير عالم ليس له عليه سلطان، عالم لم يكن له في صنعه دور. يردد المؤرخ، المرة تلو المرة، أنه لا حرية له في إعمال قلمه بالحذف او الإضافة في العالم الذي يلج خائفا محتارا إلا أن يرضى لنفسه أن ينعت بالزور أو يرضى لها وصمة تشويه الحقيقة التاريخية تعلق بها. متى أسلم المؤرخ زمام أمره إلى الخيال يعمله فإنه ينعت بالكذب، وللكذب دواع شتى تحمل عليه، ومن الكذب اصناف متعددة. ومتى تعلق الأمر بالمؤرخ خاصة فإن دواعي الكذب تحمل على وجود الخلل في منظومة القيم كما تعزى إلى الفساد في الأخلاق.
قد يكون المؤرخ ، في بعض الأحيان، كاذبا عن “حسن نية “، غير أنه يعير بالسذاجة متى كان الأمر كذلك، وفي هذا المعنى يقول حكيمنا العربي الكبير عبد الرحمن ابن خلدون إن للوقوع في الكذب، من قبل المؤرخ، اسباب كثيرة تستدعيه، أسباب يعددها ويصنفها في بداية ” المقدمة ” بيد أنه يقف – خاصة – عند سبب يعتبره أقواها وأكثرها استدعاء للوقوع في للكذب: إنه “الجهل بطبيعة العمران”. ليس أدل على السذاجة ولا نعت أبلغ في تصويرها عند ابن خلدون من الجهل بطبائع العمران، وليس علم التاريخ في مقصده الأسمى ومعناه العميق (عند صاحب المقدمة) شيئا آخر سوى العلم بطبائع العمران.
أما عند الروائي فإن الأمر آخر: ذلك ان الكذب يغدو فضيلة في المعنى الأرسطي للكلمة، فضيلة بها تسمو الصناعة ويرتفع قدرها. والفضيلة، في معناها الأصلي، تعني عند أرسطو إتقان الصناعة، فالفاضل في الصناعة هو الحاذق فيها: فضيلة العازف على آلة القانون إتقان العزف على آلة القانون، وفضيلة الحداد إتقان فن الحدادة. يكون الروائي فاضلا إذن، في المعنى الأرسطي، بالقدر الذي يكون فيه على درجة عالية من إتقان فن الكذب. لذلك يقال عن الرواية ( نسبة إلى الفن القصصي وليس إلى نقل الخبر) في البلاغة الفرنسية وعند نقاد الأدب إنها ” الكذبة الجميلة “. ويقال عن الشعر في ثقافتنا العربية، في معنى مماثل، إن أعذب الشعر أكذبه. وفي الثقافتين العربية والفرنسية ، بل وفي عموم الثقافات ألإنسانية، لا تكون الحكاية جميلة ولا يكون الكلام عذبا رائقا إلا لأن المستمع يعلم أن المتحدث كاذب ولأن المتحدث يعي تمام الوعي انه لا يقول صوابا. الحق أن الصواب، متى حملناه على قول الصدق، أمر لا يعني الروائي، والأصح أن نقول إنه يشوش عليه.الحق أن في نعتنا للروائي بالصادق، من جهة أنه ينطق بالصدق أو يقول صوابا ، تنقيص من قدره، وتقليل من شأنه. لذلك كان الذي يروي حكاية ( = يقص خرافة ؟) يستهل كلامه دوما بالتأكيد على صفة الكذب في ما يرويه تأكيدا منه لحذقه في صناعته -إنه، بالتالي، يذود عن شرفه ويدافع عن حقه في الوجود.
لا نصغي إلى الراوي ولا نعير كلامه اهتماما إلا بالقدر الذي نعلم فيه أن “الحاكي” كاذب. ليس عبثا أن الحكايات الجميلة العذبة تبدأ دوما بقول المتحدث “كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان “. يهرب الحاكي، ضنا بحكايته وصناعته معا، إلى حيث لا زمان. “سالف العصر” هو كل العصور السابقة، تلك التي لا تعرف لها بداية أو تلك التي لا أحد يرغب في أن يجعل لها من ايام الشهر أو السنة بدءا معلوما. كلما عن للمستمع أن ينسب الحكاية إلى عصر معلوم أو زمن محدد، تجد أن الراوي يشطح بالمستمع بعيدا حيث لا أول للحكاية من جهة الزمان وإن كانت لها – بالضرورة – بداية من حيث زمن الحكاية. زمان الحكاية هو اللازمان فهي تنشد الخلود ، وهي تطير فتنتقل حرة طليقة من شعب إلى آخر ، من جماعة إلى أخرى وهي في ذلك كله تحافظ على الوحدة الذاتية وعلى المنطق الداخلي الذي يعصمها من الوقوع في الزلل ، والزلل هو اقتراف إثم النطق بالصواب. كل الحكايات التي يوردها ابن المقفع في كتابه الأشهر (كليلة ودمنة) تفتتح بكلمة قوية تِؤكد وجود الكذب وملازمته للحكاية ملازمة القشرة للثمرة : ” زعموا أن…”. الزعم لغة هو الإدعاء أو القول المرسل على عواهنه ، فهو ليس يملك أن يطمع في تصديق من قبل المستمع أو المحاور: أنت تزعم ما دمت لا تقدم على ما تقول حجة. إنك مدع، بمعنى أنك صاحب دعوى خاطئة، بل دعوى كاذبة ما لم تقدم الدليل على صحتها. ذلك هو فن الجدل وتلك هي اللعبة التي يتباهى علماء الكلام بإتقانها. أما قول الراوي “زعموا أن ” فهو إقرار صريح بوجود دعوى لا اساس لها من الصحة فهي ضعيفة، متهافتة، من جهة المنطق وهي ساقطة من جهة الأخلاق والقيم. طريقها غير طريق المنطق والأخلاق وعلم الكلام، ، ليس لها بد من تنكب هذا الطريق خدمة لمطلب الفضيلة من حيث هي تحقيق لما يشترطه أرسطو على أرباب الصناعة وهو شرط الحذق فيها. ينفرد الحاكي او الراوي بسلطة ليست تكون لغيره أبدا، سلطة تجيز له ان يرتفع فوق الزمان والمكان، سلطة تبيح له أن يكون فوق المساءلة وتعصمه من الوقوع في الإثم، إثم الإساءة إلى الصناعة – صناعة الكذب الجميل.
الحق أن الكذب يستطيع في معرض “الحكاية ” أو ” الخرافة ” أو ” الرواية ” أن يذهب أبعد من ذلك: تستطيع ” الكذبة الجميلة ” أن تمد في عمر ” الراوي” ليس ليلة واحدة بل ” ألف ليلة وليلة “. لم تستطع شهرزاد الأسيرة أن تفلت من سيف شهريار ليلة بعد الأخرى إلا لأنها استطاعت أن تراوغه إذ تبقيه معلقا بحبل الحكاية يتحرق شوقا لمعرفة خاتمتها.يحدث الراوي عند المستمع ظمأ لا يبرأ منه إلا متى ارتوى من معين الحكاية: غير أن المستمع هو أشبه ما يكون بذلك المريض الذي تتحدث عنه الأسطورة، فهو يزداد عطشا كلما ازداد شربا. تكف شهرزاد عن الكلام عند آذان الفجر فتكسب في الحياة يوما جديدا، يوما لم تكن على يقين – قبل بدء الحكاية – انه سيكون من حسن حظها أن تنعم به. تفلح شهرزاد في إبعاد شبح الموت عنها مسافة يوم قبل أن يعود الموت ليتهددها في اليوم الموالي فلا تملك إلا أن تستعير من زمن الحكاية يوما، يوم تسرقه من الزمن حتى تظل على ” قيد الحياة”.شهرزاد قد حكم عليها بالموت مع إيقاف التنفيذ، فهي قد أصبحت بموجب الحكم الذي اصدره شهريار خارج الزمن، بيد أنها تلوذ بزمن آخر يبقيها حية وهو زمن الحكاية زمان يقع خارج الزمان ذاته.على شهرزاد أن تلج عالم الحكاية، تحتمي به، تفر إليه من الموت ، تستمر في الحكي حتى لا تموت.تنتظر شهرزاد أن يسدل الظلام ستاره حتى تستأنف الكلام فلا كلام لها في واضحة النهار، وليس يصح في حق شهرزاد أن يقال إن كلام الليل يمحوه النهار، بل الحق أن العكس هو الصحيح فكلام النهار الذي يعني تنفيذ حكم الإعدام يمحوه كلام الليل ، كلام الحكي الذي يدفع بالزمان بعيدا ، يراوغه فينجح في المراوغة – يفلت منه فلا تطاله يده أبدا.
الحكي والاستماع تعاقد تلزم أوفاقه كلا من شهريار القاتل او الحامل لنية القتل، وشهرزاد التي تنتظر تنفيذ الحكم بالقتل. تعاقد ينصرم أجله كل صباح ، مع ميلاد فجر جديد، ليعاد إبرامه في مستهل كل ليلة جديدة. قدر شهرزاد أن تظل حياتها معلقة دوما بزمن الحكاية، لا ينقذها من القتل سوى مهارتها في تمديد زمن الحكاية حتى يهل وقت السكوت عن الكلام المباح. على شهرزاد إذن ان تستمر في الحكي حتى لا تموت ، عليها أن تغوص في اعماق القول الكاذب حتى يرتفع الآذان بالإعلان عن الفجر الصادق. يخبو صوت الفجر الكاذب حتى ينطق صوت الفجر الصادق : أفتح القوس هنا للتنبيه أن الفجر، لغة ، مرادف للانفجار والعرب يتحدثون عن انفجار الفجر. ينتشر النور في حال أشبه ما تكون الانفجار لا بل إنها الانفجار ذاته. يقدر سحر شهرزاد على تصيير الليلة الواحدة التي قدرت سطوة شهريار أنها العمر الذي سيكون لشهرزاد لتصبح الليلة الواحدة ألف ليلة وليلة. سلطان الحكي يغلب سلطان شهريار ويبطل مفعوله ، لا بل إنه يحيل الانتصار إلى هزيمة نكراء.
تلك هي سلطة ” الكذبة الجميلة ” سلطة هي في لغة أرسطو، سلطة الحذق في صناعة الكذب. صناعة الكذب ألف ليلة وليلة هي السلاح الفتاك الذي مكن شهرزاد من الاستحواذ على عقل شهريار ووجدانه معا حتى سقط ، وهو السلطان القاهر، في شباك شهرزاد، الحسناء العارية من كل سلاح إلا أن يكون سلاح الكذبة الجميلة التي يلتذ السلطان لسماعها ويطلب المزيد. في الليالي الألف يظل شهريار يكرر القول :ثم ماذا بعد؟ثم ماذا بعد ؟ فيما شهرزاد تكسب الوقت والرهان معا. رهان ما كان لشهريار أن يعلمه: رهان الموت والحياة.
هل يجوز القول بعد هذا إن المؤرخ يقف من الروائي على طرفي نقيض ما دام المثل الأعلى أو المعيار عند الأول هو الصدق في حين كان الكذب عند الثاني المعيار والمثل الأعلى؟
لست أريد أن أدخل في متاهات الأيديولوجية ولا ان أغرق في بحار تأويل ينزع عن عمل المؤرخ كل صفة علمية ممكنة. الحق أن اللعبة، وإن كانت إلى حد بعيد تتسم بالخطورة ، إلا أنها ليست مع ذلك بالمتعذرة. لا، بل إنها من اليسر على درجة عالية ضدا على ما يعتقده الغارقون في بحار ” الموضوعية التاريخية”، أولئك المتسربلون بلباس “الحقيقة” التي يمتلك المؤرخ ان يطرحها بين يدي القارئ سليمة معافاة. حقيقة تجد حجتها البالغة في صدق ” الوثيقة التاريخية الأصلية ” وتحمل موجبات الصحة والعافية بقوة ” النقد الخارجي ” الذي ينصب على إثبات نسبة الوثيقة إلى عصر معلوم – فلا زيف فيها – وإلى جهة معلومة تسهل نسبتها فلا سبيل إلى التشكيك في صحة النسبة. تحمل الوثيقة عند المتسربل في لباس الحقيقة كافة موجبات الصحة والعافية بفعل ” النقد الداخلي ” الذي يسلط عليها مما يجعل المؤرخ قادرا على التمييز بين الاستحالة والإمكان. لست اريد أن أطل برأسي من علو شاهق خشية السقوط أو الدوار أو أن تصيبني لعنة “الألطو فوبيا ” (عقدة الخوف من الأماكن الشاهقة) فأخر صاعقا. لا وليس عندي ما أضيفه من قول إلى ما كرره العارفون في هذا الميدان. لا ولا رغبة لدي للدخول في سجال أكاديمي و لا في خوض معركة منهجية وإثارة زوابع “إبستيمولوجية “، غير أني أقول عن المؤرخين إنهم قد أنشأوا، احيانا ، دولا من عدم مثلما انهم اطالوا أعمار دول أخرى. هل نقول إذن إن المؤرخ يملك أن يكون صنو الروائي-احيانا على الأقل؟
إذا كنت ، للأسباب التي ألمحت إلى البعض منها أعلاه، لا آبه بالجواب بل ولست أعبأ بالسؤال ذاته فإني أفضل أن أتساءل بكيفية مغايرة فأقول : ماذا يحدث عندما يفكر الروائي ان يكتب رواية ” تاريخية ” ؟.أعني بالرواية التاريخية ما يعنيه بها النقاد في المعتاد : الرواية التي تستمد مادتها الروائية من ” التاريخ “. ولما كانت الرواية هي فن الكذب الجميل ، كما يقول البعض، او هي الحذق في صناعة الكذب كما يقر بذلك أرسطو وتلامذته فلنقل إن الرواية التاريخية كذبة جميلة تنتزع من جوف الحقائق الدامغة، حقائق هي فعل التاريخ وحركيته معا.
الروائي والمؤرخ يقفان، كل من الآخر، على طرفي نقيض: حضور أحدهما يستدعي غياب الآخر فلا يمكنهما أن يجتمعا إلا كما تجتمع النار والثلج، أو كما تلتقي الظلمة والنور. نقول مع أرسطو، أو بالأحرى استلهاما من أرسطو واستيعابا لدرسه : الحاذق في ” صناعة ” الرواية ، ذاك الذي يستحق ان ينعت بالروائي هو القادر على أن يكذب أكثر من غيره، يكذب ويتمادى في الكذب إلى درجة توصله إلى حافة الجنون. لأمر ما قال أحد الروائيين الكبار: الرواية تعني امتلاك قدر كبير من الخيال مع قليل من الجنون. و العجيب حقا هو أن الرواية التي يحرص فيها الروائي على التشبث بحبل العقل والمعقولية، تلك التي يكون فيها همه الأوحد مراعاة الممكن والمعقول وحدهما ، هذه الرواية تأتي في المعتاد خالية من العذوبة عارية من الجمال. لا بد للروائي، فيما أحسب، أن يظل محافظا على قدر معلوم من النزق وان يحرص على ان يبقي الطفل حيا بين جنباته. يكره الروائي الجواب الذي يقدمه الرجل للطفل في رواية “الأمير الصغير ” لأنطوان سانت أوكسيبيري حين يطلب منه أن يرسم له خروفا : إنني إنسان جاد، إنني إنسان جدي. الروائي الصادق إنسان يمتلك القدرة على الهزل بمنتهي الجدية ، فهو لا يتردد لحظة واحدة في الاستجابة لسؤال الطفل ، أن يظل هو ذاته طفلا، أن يعرف كيف يحافظ على الطفل الذي يحمل بين جنباته فهو يصونه من عالم الكبار، عالم الجدية التامة والعبوس المطلق. لا يمتعنا الروائي إلا بالقدر الذي يستطيع أن يبلغ فيه درجة عالية من الحذق في صناعة الكذب. القليل من الجنون يعني، من جهة أولى، تسليم القياد للخيال يجنح بصاحبه بعيدا والكثير من الخيال يعني، من جهة ثانية، التصديق بوجود العالم الذي ينسج الخيال خيوطه بمفرده – بعيدا عن كل سلطة آمرة، في مأمن من كل من كل خوف.
يستسلم الروائي لعالم الخيال ينقله إلى الحلم اللذيذ: يقرر الروائي أن يكون طفلا كبيرا يركب مثل الأطفال العربة السحرية يمسك فيها بالمقود بجنون فيوجه العربة كما يوجه المتنبي فرسه من تحته تمضي به الرياح شمالا وتمضي جنوبا. يقسر الروائي العربة على التحليق في الأجواء الشاهقة كما يحملها على الغوص في أعماق المحيطات ، تداعب الطيور في السماء كما تلامس الحيتان في أعماق المحيطات. الطفولة صادقة و الروائي كاذب، غير أن الروائي يكذب حتى يحافظ للطفولة على براءتها في عالم يجد أنه يفتقر إلى البراءة. لعبة عسيرة خطيرة معا ليس يجيدها كل أحد – لذلك كان الروائي الحق يدخل في عداد القلة القليلة. لست أعدم الأمثلة، فهي غزيرة متنوعة من آداب الشعوب، غير أني لا أستدعي أيا منها خشية أن أفسد على القارئ لذة استحضار النموذج الذي يلذ له ، بل إنني أقر بحق القارئ أن يركب النموذج الذي يرغب فيه التركيب الذي يشاؤه له الخيال. من حق القارئ على الروائي ان يسلم له فرس المتنبي فيمضي بها كما يشاء له الهوى : يمينا وشمالا.
نتساءل الآن : ماذا يحدث إذن عندما يفكر الروائي في كتابة ما يقال عنه في المعتاد إنه “رواية تاريخية” ؟ ماذا يحدث ايضا عندما يراود المؤرخ حلم مزج الروائي والمؤرخ في شخص واحد ؟ ماذا يحدث حين تراود المؤرخ الفكرة الجنونية التي تقضي بإفراغ ” الحقيقة التاريخية ” في قالب روائي؟
لعل أول ما يفكر فيه الروائي هو البحث عن ” المادة التاريخية “، بمعنى الرجوع إلى ما تستوعبه كتب التاريخ وما كتبته أيدي المؤرخين. عمل الرجوع إلى التاريخ يعني أن الروائي يريد أن يهرب من الخيال ، أن يتركه جانبا، أن يتنكر له. وفي عبارة أخرى يريد أن يتنصل من الميثاق الذي واثق القارئ به: الميثاق الذي يلزمه باعتماد الكذب فضيلة. هل يصح منا القول إنه يرتكب إثم الصدق، أم إنه يقع في خطيئة الصدق غير المقصود؟ البحث في المادة التاريخية يفيد طلب العلم – طلب العلم المحفوظ في بطون الكتب، العلم الذي صاغه ” مؤرخون ثقاة “: علم دونه رجال يحيلون الوقائع والحوادث إلى خطوط وحروف ، إلى رجال و نساء. المؤرخون أناس يملكون القدرة على جعل الحبر يسري في الورق لينتقش فيه إلى الأبد، حقائق دامغة.
يستلم الروائي ” المادة التاريخية ” بهدف إحالتها إلى حكاية تروى، حكاية يرويها كتابة: لا مندوحة للروائي من إحالة الملك أو اللص او الجندي أو المرأة إلى “كائنات روائية ” كائنات ترفض الخضوع للمنطق في الأغلب الأعم من الأحيان. ربما وجب القول إنها تخضع بالأحرى لمنطق الرواية، وتستمد القوانين التي تحكمها من مقتضيات الصناعة وضروراتها. لا تستطيع الرواية أن تحيا وأن تتنفس متى فقدت الحد الأدنى الضروري من الأوكسجين النوعي تتنفس فيه فلا تختنق. الكذب هو ماء الحياة عند الرواية، هو التربة التي تنبت فيها وتنمو، وهو الماء الذي تعوم فيه كما تعوم الحيتان في مياه البحار والمحيطات ، وكما تموت الحيتان ايضا متى تم إخراجها من الماء. فكما أنه لا يصح أن نقول عن السمكة إننا قد انتشلناها من الماء او استخلصناها منه فكذلك ليس يستقيم ان نقول عن الرواية أننا نصونها من الكذب. نابليون وهارون الرشيد وجنكيز خان ورمسيس الأول وكريستوفر كولومب… وكذا الرحالون والعلماء المخترعون والقتلة والمرضى من كل صنف ، كل هؤلاء يلبسون أثوابا وينطقون بكلمات، يرغبون ويكرهون ويشتهون ، يقبلون أو يعرضون، كما يقدر الروائي ذلك ويشاء. يحرص الروائي على التشبث بما يقوله المؤرخ عن الشخص موضوع الحكاية، فهو يلتفت إليه يستفسره عما يحب الشخص موضوع الحكاية وماذا يكره. يحرص كل الحرص على أن يراعي صورة العصر الذي يكون الشخص قد عاش فيه ، و من أجل ذلك فهو يتشبث بكل ما يقوله المؤرخ وما يدونه كاتب السيرة حتى تكون الرواية “صورة صادقة”. غير أنه ، بمجرد اتخاذه لقرار مماثل ثم الشروع في تنفيذه يأخذ في الاساءة إلى صناعة الرواية : لا يملك الروائي أن يكون صادقا في صناعته إلا بالقدر الذي يكون فيه كاذبا. ذلك قدره ، وتلك ماهيته التي ليس له ان ينفك عنها، جلده الذي لا يقدر على الانسلاخ منه – إنه ، على نحو ما ، يمت إلى شهرزاد بصلة.
الرواية التاريخية، تلك التي يكتبها صاحبها بهدف إفراغ الحقيقة التاريخية في قالب تعليمي تكشف عن وهم مزدوج : وهم الموضوعية والحقيقة عند المؤرخ ، ووهم التنصل من الخيال عند الروائي – والحال أن الخيال متنفس الروائي وماء الحياة الذي يكسبه الوجود مثلما كان التشوف إلى الحقيقة والموت فيها عشقا مطلب المؤرخ وأمله معا. هل يملك الروائي أن يكون ” فاضلا ” في صناعته ، في المعنى الأرسطي، إذ يدير للخيال ظهره ويلعن الكذب والكذابين ؟ لا أحسب أن هنالك كذبة تعادل في معناها قول القائل : هذه رواية تاريخية.
نعم، يستطيع المؤرخ أن يكون روائيا وقد لا نعدم الأمثلة على إمكان ذلك ، غير أن الروائي لا يحيا إلا بموت المؤرخ. لا يستطيع المؤرخ أن يكتب رواية إلا بالقدر الذي يفلح فيه في قتل المؤرخ وإخفاء جثته. لنقل في عبارة أخرى : لا يستطيع المؤرخ ان يقدم على اقتراف فعل الكتابة الروائية إلا متى قرر أن ينضو عنه ثوب الحقيقة، متى قدر أنه لا يقول الحقيقة ولا يسعى إليها، لا بل على العكس من ذلك متى اصبح واعيا تمام الوعي انه يهرب من الحقيقة : يتنكر لها ويدير ظهره لها. ميلاد الروائي يقتضي موت المؤرخ كما ان الروائي لا يستطيع ان كون فاضلا في صناعته إلا متى أعلن معاداته للمؤرخ ، متى جاهر بالعداوة.
بين المؤرخ وبين الروائي عداوة مستحكمة فليس يحيا أحدهما إلا بموت الآخر، والأمر في الواقع كذلك لأن بينهما في واقع الأمر صداقة غير مقبولة، صداقة مستحيلة: فلا الأعراف تقبلها ولا الآداب تقرها. هناك رواية فرنسية شهيرة تتحدث عن عداوة في الظاهر تخفي صداقة عميقة وحبا متمكنا :عداوة ضرورية من أجل إخفاء صداقة مستحيلة في أعين أهل القرية، إذ أن تلك الصداقة تعني هلاك القرية: الصداقة بين طبيب القرية وبين حفار القبور في القرية.
*عن موقع الجمعية المغربية للبحث التاريخي
نشر بها 15غشت 2014