دبج توفيق (عفوا تلفيق) “بوعشرين” مقالا بعنوان “بنكيران الظاهرة”؛ وهو مقال لا يخرج عن التوجه الجديد الذي أصبح لمدير نشرة “أخبار اليوم” التي تحولت إلى لسان حال حزب العدالة والتنمية؛ وهو الدور الذي فشلت فيه جريدة “التجديد” التي لا يباع منها إلا نسخ قليلة (وللقارئ أن يتساءل عن أسباب هذه المفارقة: جريدة محسوبة على الحزب الأغلبي، ولا يباع منها إلا بعض المئات من النسخ). وقد وجد، بالفعل، رئيس الحكومة عند “صديقه” الجديد كل الخدمات المطلوبة لتلميع صورته وصورة حزبه: إنه “تريتور” (traiteur) من نوع خاص. لكن، قبل التطرق لما يمثله “بنكيران” كظاهرة في المجال السياسي و”بوعشرين” في المجال الصحافي، دعونا نحدد مفهوم “الظاهرة”.
لن نتيه في التحديدات العلمية والمفاهيم الفلسفية التي تُعطى لكلمة “ظاهرة”؛ فالظواهر هي متعددة وتهم كل مجالات الحياة ومجالات العلم والمعرفة. وسوف نكتفي، هنا، بما تعنيه هذه الكلمة حين نستعملها في حق شخص ما. فالقول بأن فلانا ظاهرة، فهذا يعني أنه خارج عن المألوف (سوء في الاتجاه الإيجابي أو السلبي) في سلوكه وفي طبعه وفي أخلاقه، الخ. ولهذا، فهو يستحق الاهتمام؛ وقد يكون موضوع دراسة، كما تُدرس أو تُعرَّف أية ظاهرة من الظواهر، سواء كانت طبيعية أو اجتماعية أو غيرهما.
ومن هذا المنظور، فإن رئيس حكومتنا، الأستاذ “عبد الإله بنكيران”، يشكل، بالفعل، ظاهرة؛ إنه رئيس حكومة ليس ككل الرؤساء (سلوكا وخطابا و…). ومن هذا المنطلق، يستحق أن يُهْتَمَّ به سواء كشخص أو كشخصية عامة. إنه يصلح أن يكون عَيِّنة في الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية والفرجوية والتواصلية وغيرها.
وفيما يخصني – كمواطن ينتمي إلى الطبقة المتوسطة لكنه ينحدر من المغرب العميق ويعرف مدى الهشاشة الموجودة في مجتمعنا- لا يهمني “بنكيران” إلا كشخصية عامة (أما شخصه فلا يعنيني في شيء). وبمعنى آخر، فإن اهتمامي بـ”بنكيران”، هو اهتمام بالمؤسسة الدستورية التي يمثلها، والتي استُأمنت على تدبير الشأن العام ببلادنا بناء على نتائج صناديق الاقتراع في انتخابات نونبر 2011.
لقد وعد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغاربة بتحسين أوضاعهم ومحاربة الفساد و، و،… الخ!! لكن ما نعيشه اليوم، على أرض الواقع، من ترد (وأخطره النزوع إلى الاستبداد وتعميق الفوارق الطبقية) يبعث على القلق وينذر بالمزيد من التدهور. لن أتحدث عن التردي في مجال الحقوق والحريات؛ ولن أتحدث عن الدستور وتركه جانبا أو تأويله تأويلا غير ديمقراطي؛ ولن أتحدث عن تدني الخطاب السياسي الذي وصل إلى الحضيض في عهده وعلى لسانه… لقد سبق أن قلت رأيي في بعض من هذا في مقالات سابقة.
لكن أن يتم الضحك على المغاربة باسم الإصلاح، فهذا شيء لن أمل من الكتابة فيه حتى وإن كانت تحصل عندي القناعة، أحيانا، بعدم جدوى ذلك مع رجل لم يقنعني يوما بأنه رجل دولة. فشخصيا، أرى فيه كل الصفات إلا صفة رجل دولة؛ ذلك أني أعتقد أن رجل الدولة (ويحضرني، هنا، نموذج “عبد الرحمان اليوسفي”) لن يرض لنفسه أن يصل إلى المستوى الذي يصل إليه “بنكيران” مع خصومه السياسيين (خطابا وسلوكا)؛ كما لن يقبل على نفسه أن يتقوقع في النظرة الحزبية الضيقة أو أن يستغل المآسي الاجتماعية انتخابيا؛ وقس على ذلك من الصفات التي تدفع إلى الترفع عن بعض الأشياء.
وإذا كان “بنكيران” يشعر بالسعادة وهو يرى جموعا من الناس تأتي إلى تجمعاته، رغم الضربات الموجعة التي يوجهها لقدرتهم الشرائية، فهذا وحده مبعث على التساؤل: ألسنا أمام حالة (ظاهرة) اجتماعية غير عادية، تستحق الدراسة من قبل المختصين في علم النفس وعلم الاجتماع؟ ألا تعطي تلك الجموع التي تحضر مهرجانات “بنكيران” صورة عن وضعنا الحقيقي، اجتماعيا وثقافيا وفكريا وسياسيا…الذي لا يعني شيئا آخر غير التخلف في كل تجلياته؟ أليس هذا هو مبعث الاستغراب الذي عبر عنه المسؤول الأوروبي (“بوعشرين” تحدث عن وزير خارجية فرنسا و”بنكيران” أعطى، في تجمع الرشيدية، اسما آخر غير اسم وزير الخارجية الفرنسي الحالي)، حين قال لرئيس الحكومة: “أنت السياسي الوحيد في العالم الذي يحتفظ بشعبية كبيرة رغم أنك تتخذ قرارات غير شعبية”؟…
يحق لرئيس حكومتنا أن يشعر بالزهو وينتشي لسماع مثل هذا الكلام؛ لكنه يجب أن يعلم بأنه لا يعني- بلغة الحداثة والتقدم ولغة السياسة وقواعدها التي من بينها ربط المسؤولية بالمحاسبة…- غير غياب المنطق وحضور اللامعقول في مشهدنا السياسي وفي تجربتنا الديمقراطية. وعلى كل، فهذا الاستثناء الذي حققه “بنكيران”، لن يفيد البلاد في شيء ما دام لا يحقق للمواطنين لا الرخاء المادي ولا غير المادي؛ بل، بالعكس، يكرس وضعنا المتخلف.
أما عما قالته السيدة “كريستين لاغارد”، مديرة صندوق النقد الدولي- التي “كادت أن تقول شعرا في سياسة الحكومة بعد إقدامها على تخفيض موازنة الدعم التي كانت مخصصة للمحروقات…”، يقول “بوعشرين”- والذي اعتبره السيد رئيس الحكومة مديحا وإطراء على تدبيره، وكذا إبراء للذمة من الانصياع لإملاءات صندوق النقد الدولي، فإنما هو دليل على رضا هذه المؤسسة الدولية على توجهات حكومتنا. ويكفي هذا، للحكم على هذه الأخيرة بلا شعبيتها. فقول”كريستين لاغارد”: إننا لا نفرض عليكم سياساتكم؛ بل أنتم من يوحي لنا بها” (وقد قالها “بنكيران” بالفرنسية في مهرجانه بالرشيدية “باش إدوقوها شي وحدين”، كما قال: vos politiques, ce n’est pas nous qui vous les dictons mais c’est vous qui nous les inspirez »)، يدل دلالة قاطعة على أن رئيس الحكومة وفريقه يجتهدون في إرضاء المؤسسة الدولية التي لم تعد تجد في بلادنا إلا الآذان الصاغية لتوجيهاتها. فلم يعد خبراء صندوق النقد الدولي في حاجة إلى بذل مجهود لإقناع مسؤولينا بتوجيهات هذه المؤسسة الدولية؛ فهم يعرفون من توجهات الحكومة (التي اختارت أسلوب اللبرالية المتوحشة) ما ذا عليهم أن يفعلوا: مباركة وتشجيع قراراتها اللاشعبية، رغم فاتورتها الاجتماعية الباهظة؛ ثم إغراق بلادنا بالديون.
هذا هو “بنكيران” الظاهرة: إنه يسير بالبلاد نحو الكارثة (تقهقر على كل المستويات، إلا مستوى واحد- حسب ما يبدو، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مشهدي الدشيرة والرشيدية- ألا وهو مستوى شعبية رئيس الحكومة)؛ لكنه فَرِح فخور ببعض “الإنجازات” التي لن توقف التدهور ولن تجنب البلاد الاختناق الاقتصادي والاجتماعي. فأنا لا أدري، مثلا، إن كان يعي بأن إضعاف القدرة الشرائية للغالبية العظمى من المواطنين هو إضعاف للدورة الاقتصادية وتشجيع للكساد(فضعف الاستهلاك يؤثر، حتما، على الإنتاجية وعلى العرض والطلب)؛ مما يعني مزيدا من الهشاشة (بطالة، فقر…) الاقتصادية والاجتماعية (نسأل الله السلامة والعافية).
أما “بوعشرين، فقد أصبح ظاهرة “إعلامية” باختياره احتراف التضليل إما بالكذب والافتراء والتحامل أو بتجميل القبيح وتلميع الباهت وتضخيم التافه…حسب رأس الزبون. شخصيا، لست من أسرة مهنة المتاعب حتى أقيم عمله أو عمل غيره مهنيا؛ لكني أنظر بالريبة إلى تغيير الولاءات في المجال الصحافي أو غيره. ويطرح هذا، أخلاقيا، أكثر من سؤال. فحين نرى بأن مهنة المتاعب قد أصبحت عند البعض الدجاجة التي تبيض ذهبا، فهذا أمر مدعاة ليس للفضول فقط؛ بل وأيضا للشك في أخلاق وذمة الصحافي الذي من هذا الصنف؛ ذلك أننا نعرف بأن في الاسترزاق وفي السمسرة، يتم البيع لمن يعطي أكثر. ولا نعدم الأمثلة في الباب.
لا أريد أن أختم هذه السطور دون العودة إلى مقال “بوعشرين”، الرديء شكلا ومضمونا، لأسجل وقاحته وتجرئه على زعماء المعارضة، اعتمادا على كلام “بنكيران” ومضيفا شيئا من عندياته، قبل أن يختم، قائلا: “بنكيران ظاهرة سياسية، والناس من سيحكمون عليه ابتدائيا في شتنبر المقبل، واستئنافيا في صيف 2016 …”. ولا يسعني، هنا، إلا القول، له ولولي نعمته، بأن الرهان الحقيقي، بالنسبة للبلاد وللديمقراطيين، ليس في من سيربح الانتخابات، بل في إعادة الثقة إلى الطبقة المتوسطة التي هجرت صناديق الاقتراع. بالطبع، هذا سوف لن يشكل هما لا بالسبة لـ”بوعشرين” ولا بالسبة لـ”بنكيران” لأسباب معروفة ومفهومة.
محمد إنفي