“غير خاف عليكم، وأنتم من صفوة المختصين وكبار الخبراء والدارسين ومن المسئولين التقنيين الساهرين على تدبير شؤون التراث في أوطانكم، أن عراقة الأمم وتجذرها يعودان لما كان للأسلاف من حضور في مسرح التاريخ وما خلفوه من آثار عمرانية وإبداعية فكرية واختراعات علمية وإنجازات حضارية.. وإذ لا نشك أبدا في أن جميع أبناء البشر أينما وجدوا قد ساهموا بقسط أو بآخر في إرساء صرح هذه الحضارة الإنسانية، وفي تدعيم أسسها، فإننا لا نشك كذلك في أن نضج الشعوب لا يقاس إلا بمستوى شعورها وحسها بأهمية تراثها وبالعناية التي آلت على نفسها أن تخصصها له حفظا وصيانة وتجديدا”.
ونحن نستحضر هذه الفقرة من الرسالة الملكية الموجهة لليونيسكو ذات سنة، كمدخل أساسي لوخز ضمائر من يهمهم أمر التراث الإنساني المادي واللامادي في بعديه الاقتصادي والاجتماعي، وذلك في سياق استعدادات جمعية الشعلة للتربية والثقافة باليوسفية، بشراكة مع النقابة الوطنية لعمال الفوسفاط المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، للشروع في توثيق ذاكرة مناجم الفوسفاط باليوسفية وقراها المنجمية، سيرا على النهج الذي سبقت له مدينة خريبكة التي تعتبر كتوأم لليوسفية على مستوى الإنتاج الفوسفاطي وذاكرته التاريخية التي وشمت بمسار حافل من التحولات أثناء وخلال وبعد جلاء المستعمر، مرورا بالتطورات التي عرفتها الحركة العمالية المنجمية كذلك على مستوى الإنتاج ووسائل العمل وعلاقاتها الاجتماعية وموروثها الثقافي والتراثي الإنساني بمنطقة الكنتور..
هذا العمل الذي نتوخى من خلاله الانفتاح على كل الدارسين والباحثين والطاقات المبدعة وإشراك كل الفعاليات المحلية ونخبها الفكرية والثقافية، دافعنا الأساسي في النبش في ذاكرة مناجم الفوسفاط بمنطقة الكنتور هو توثيق مراحل استغلال الفوسفاط منذ البدايات بوسائل إنتاج تقليدية اعتمدت على قوة الجسد والمغامرة بالأرواح تحت أنفاق وسراديب الذهب الأسود والأبيض الممزوج بعرق الطبقة العاملة، قبل أن تعرف المكننة طريقها للمناجم، فضلا على جمع الوثائق والصور القديمة ومجموعة من التحف المرتبطة بوسائل إنتاج الفوسفاط التي تؤرخ للذاكرة المحلية، بالإضافة إلى النبش في ذاكرة ذلك الزمن الجميل من خلال ما كان يقدم ويعرض من احتفالات موسمية ولحظات الفرح بين الأسر الفوسفاطية ومنتوجها الثقافي التراثي الشعبي على جميع المستويات (نمط العيش، علاقات اجتماعية، فنون شعبية، موسيقى، رقصات، غناء، لباس، حلي، معمار….).. علاوة على أن توثيق خرائط جغرافيا المناجم الفوسفاطية تدعونا إلى استحضار نمط عيش الطبقة العاملة بالقرى المنجمية بالمنطقة وتجميع مناهل المفردات والمصطلحات التي كانت متداولة بين العمال أيام المرض والعطل وتسليم الأجور والمنح وعلى مستوى وسائل الإنتاج البسيطة وتجهيزات ولوازم العمل تحت الأنفاق المظلمة والباردة .
ونطرح، هنا والآن، أسئلة محورية تتعلق بتوثيق المرحلة التاريخية لذاكرة الفوسفاط بقراه المنجمية العميقة في جغرافيا التراث العمالي وقيمه الإنسانية الرفيعة التي تربت عليها الأجيال السابقة وحلقت بها عاليا في سماء العشق الممطرة بغيث تثبيت دعائم الاقتصاد والانتماء للوطن الواحد، والتي أنبتت ورسخت فينا قيم التعدد والتسامح والتعايش :كيف يمكننا أن نمرر كل هذا الزخم التاريخي للجيل الحالي؟ ألا يشكل تلاشي واندثار الذاكرة المنجمية باليوسفية وصمة عار على جبيننا جميعا؟ ما هي الأسباب التي حالت دون إقامة متحف خاص بذاكرة اليوسفية الفوسفاطية؟
من المعلوم أن موقع إنتاج الكنتور وإداراته السابقة المتعاقبة على مستوى مصالحه الاجتماعية والإدارية ذات الصلة بالموضوع، كانت قد تداولت وحسمت في شان متحف اليوسفية الفوسفاطي، بل إنه تم تحديد موقع إقامة منجم نموذجي بمواصفات هندسية وجيولوجية خلف قاعة الكنيسة (قاعة الجمباز سابقا) بشارع الحسن الثاني، حيث كان من المتوقع تجهيزه بكل الآليات ووسائل الإنتاج التي تؤرخ لمناجم الكنتور، مع تحويل قاعة الكنيسة إلى متحف خاص بكل القطع الأركيولوجية والمستحتات والحفريات المستخرجة من عمق أنفاق المناجم (أشجار وحيوانات مكلسة….) وإعادة تثبيت ناقوس الكنيسة في مكانه صونا وحفاظا على الروابط التاريخية التي تجمعنا مع الديانات الأخرى.. كما كان متوقعا أن يتم تجهيز ذات القاعة بصور فوتوغرافية تؤرخ للمرحلة ثقافيا وفنيا ورياضيا، حيث تم تسليم كل هذا الموروث التاريخي إلى لجنة مشتركة بقطاع الفوسفاط باليوسفية عهد لها باستثماره لتنفيذ المشروع.. لذلك حان الوقت لنتساءل مع كل المهتمين بالذاكرة التاريخية لمناجم الفوسفاط متى سيتم تفعيل المتحف؟
لقد جعلنا من هدف تنفيذ إقامة متحف مناجم الفوسفاط باليوسفية هدفا تنمويا شموليا كبنية اسقبالية لإحياء الروابط التاريخية مع أبناء الأطر الفوسفاطية الفرنسية، وجعله قبلة سياحية للوافدين على مدينة كشكاط وتثمين تراثنا المادي واللامادي وجعله مرجعا للدارسين والباحثين والطلبة المهتمين بالموضوع، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفنيا لتنشيط الذاكرة وربطها بالماضي والحاضر لتلقيح الجيل الحالي بموروثه الإنساني المتعدد الروافد والخصوصيات لطبقتنا العاملة، حيث سنعمل على إطلاق لجنة البحث والنبش والتوثيق كشركاء منفتحين على كل الطاقات والمؤسسات وطنيا وجهويا وإقليميا ومحليا خلال عرض فيلم “بولنوار” في الأسبوع الأخير من شهر أبريل من السنة الجارية واستضافة مخرجه حميد الزوغي رفقة الروائي والسوسيولوجي عثمان أشقرا صاحب رواية “بولنوار” .
فهل تستجيب إدارة المجمع الشريف للفوسفاط لهذا المطلب، حفاظا وصونا للذاكرة المشتركة لكتابة التاريخ المحلي وتوثيقه كرافد ورافعة للتاريخ الوطني وتتويجه بإصدار يخلد تراثنا الحضاري.
*أحمد فردوس