يُذبح الإنسان ويُحرق باسم الشريعة الإسلامية والشريعة منهما براء. فالشريعة جاءت للدفاع عن الإنسان وما سماه الأصوليون مقاصد الشريعة الخمسة والتي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء: النفس أو الحياة، والعقل أي العلم ضد الأمية والجهل، والدين أي القيمة المطلقة ضد النسبية والازدواجية،

والعرض أي الكرامة الإنسانية ضد الاعتقال والتعذيب، والمال أي الثروة الوطنية ضد التبذير والسفه. ومن أجل الإنسان وضعت مبادئ عامة للتشريع مثل «لا ضرر ولا ضرار»، «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» حماية للإنسان. وقد ذكر «الإنسان» في القرآن الكريم خمسا وستين مرة بالإضافة إلى إنس وأناسى بصيغ أخرى تجعلها جميعا تقارب المائة مرة. بل إنه خليفة الله في الأرض «يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الأَرْض». وعيد الأضحى المبارك هو يوم أنقذ الله فيه إسماعيل من ذبح أبيه إبراهيم بكبش عظيم. الدم يسيل تحقيقا للحلم ولكن ليس دم الإنسان بل دم الحيوان لأن الإنسان لا يُذبح حتى لو كان بأمر إلهي من خلال الحلم. فالله يغير أمره. والإنسان لا يُذبح. ثم أصبحت حضارة إنقاذ الإنسان هي ممارسة ذبح الإنسان وتشريع ذلك في الفقه الذي تقام عليه الدولة الإسلامية، فقه قطع الرأس للمرتد والكافر والمشرك، وتصحيح الخطأ بخطأ آخر فيصبح الخطأ خطأين. وأصبحت حضارة حقوق الإنسان نصا هي حضارة اختراق حقوق الإنسان عملاً. في حين أعلنت مواثيق حقوق الإنسان في الغرب أكثر من مرة منذ الثورة الفرنسية حتى جنيف نصاً ولكن خرقها عملاً بالعدوان على الشعوب واغتيال الأفراد.

وفي العصر الحديث قامت الدول الوطنية على اغتيال حقوق أفراد الشعوب، والأفراد المعارضين للسلطان العثماني، وحقوق الأقليات مثل العرب والأرمن والأكراد ممثلة في الزعماء المطالبين بالاستقلال القومي. واضطهدت الحركات الإسلامية لرفضها حدود الدول القومية ورغبتها في دولة بديلة عن الدولة العثمانية أو دولة الخلافة تعبر عن الكيان السياسي للأمة الإسلامية. وأصبحت حركات رافضة للدولة الوطنية، وللدولة القومية، فالقوم ليس كيانا سياسيا. القوم أقرب إلى العشيرة والقبيلة والعرق. والكيانات السياسية القائمة ملكية أو سلطانية أو إماراتية أو دولتية أم جمهورية. والحركات الإسلامية فيها جميعا مضطهدة أو مهمشة أو في المعتقلات تتربى فيها ردود أفعال عنيفة ضد الكيانات السياسية القائمة. وفلسطين مازالت محتلة. والقدس قبلها يعيش فيها الحاخامات. والأقصى قلب القلب مهدد بالانهيار. والاستبداد مازال قائما في كل الكيانات السياسية. والفقر مازال عاما. والتبعية لقوى خارجية مازالت مستمرة. والطرق تبدو مسدودة أمام شباب يبحث عن طريق. ولا يجد أمامه إلا الهجرة والامتهان أمام السفارات للحصول على تأشيرات الدخول أو الفساد كي يجد منصبا في الداخل. فلا يجد أمامه إلا «داعش» الدولة الإسلامية في العراق والشام. وهو اسم يوحي بالخيال. ويثير في النفس الشجون. العراق منشأ الأنبياء، إبراهيم ونوح. والشام منشأ إسحاق ويعقوب ويحيى والمسيح ومصر في الطريق منشأ موسى في مواجهة فرعون. فالطرف يؤدي إلى الطرف. وأوضاع الحركات الإسلامية تؤدي إلى داعش.

وإذا كانت داعش لديها القدرة على جذب الشباب الإسلامي، فلماذا تجذب الشباب الغربي؟ يبدو أن المشروع الغربي في التحديث قد شارف على النهاية فيما يسمى «ما بعد الحداثة»، أو «التفكيكية» أو «الكتابة في درجة الصفر» أو «ضد العقل» أو «ضد المنهج». فقد كانت هذه أدوات التحديث في الغرب، العقل، المنهج، التحليل، التحديث لديلوز، ودريدا، وفيرآبند، وكان اشبنجلر قد أجمل ذلك كله من قبل في «سقوط الغرب» ولوكاش في «تدمير العقل». لم يعد هناك مقدس بديل عن الإيمان أو الاعتقاد أو الكنيسة. لم يعد الغرب في حاجة إلى أقنوم جديد. انتهت مُثل الثورة الفرنسية: الحرية والإخاء والمساواة بازدواجية هذه المبادئ، تطبيقها في الغرب وتجاوزها خارجها: التقدم، التنمية، العقل، الإنسان، الحرية، العدالة، المساواة. فقد رأى الشباب ما يحدث داخل الغرب وخارجه وما سماه اشبنجلر «أفول الغرب» وما سماه نيتشه قبله «العدمية». فقد انتهى المشروع الغربي العقلاني التنموي التحديثي الإنساني. وتجلى ذلك حسيا في نهاية النظم الاشتراكية في تسعينيات القرن الماضي وبداية تعثر العولمة هذا القرن. لم يعد هناك مثال اشتراكي أو ليبرالي يجذب الشباب. سقط حائط برلين كما سقطت النظم الاشتراكية. وأصبح ذو القطب الواحد لا يجذب أحدا. وانتهت أممية العالم الثالث، مثل الحرية والاستقلال الوطني والتنمية والمساواة والعدالة الاجتماعية وكل ما حرك القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وانطفاء جذوة زعمائه مثل غاندي، مانديلا، سيكوتوري، نكروما، بن بللا، ناصر. فلم يعد في العالم مثل أعلى يجذب الشباب غربا أو شرقا. ومن اللا شيء يُبحث عن كل شيء. ومن العدم يخرج وجود جديد.

لن يُقضى على داعش إلا بالقضاء على الأسباب التي أوجدتها، حركة إسلامية جديدة تقوم على العقل والعلم والإنسان. ولا يكفي الإشادة بزعماء الإصلاح الذين تكرروا بلا فائدة. ولا يكفي تجديد التراث على نحو خطابي إصلاحي إنشائي بل بإعادة بناء العلوم، من العقيدة إلى الثورة، ومن النقل إلى الإبداع، ومن النص إلى الواقع، ومن الفناء إلى البقاء، ومن النقل إلى العقل، ومن الاستشراق إلى الاستغراب، وتنظير مباشر للواقع بناء على تجربة حية تربط بين النص والواقع. التحدي هو كيف يمكن القضاء على سلبيات داعش والدخول معها في حوار دون تكفير مبدئي أو تخوين؟ كيف تكون الحركات الإسلامية بوتقة لانصهار باقي الحركات السياسية دون استبعاد أو إقصاء؟ كيف يمكن التحول من الحقيقة المطلقة الواحدة إلى الحقائق المتعددة النسبية؟ فالحق متعدد كما قال الفقهاء القدماء. الحق وجهة نظر. الحق منظور.

يصعب على المسلم أن يقتل المسلم، وعلى العربي أن يقتل العربي. فالتحالف الدموي الغربي العربي يتحول إلى تآلف سلمي. فالدم لا يُستباح، لا دين له ولا جنس. والسلطة ليست هدفا في حد ذاتها بل هي مجرد وسيلة لتحقيق برنامج تنموي. العنف ضعف لأن طرق المواجهة كثيرة. والمواجهة الأمنية قد تكون أضعف المواجهات وأفشلها على الأمد القصير. وقد تكون المواجهة الفكرية بالحوار أقوى المواجهات وأنجحها على الأمد الطويل.

 نشر بموقع ”  التجديد العربي ” /الجمعة, 06 مارس 2015

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…