ليس في نيتنا أن نعود بدورنا إلى ذلك الجدال الطويل الذي خلفه ظهور مؤلف هانتينغتون، لا لأن المقام لا يسمح بذلك فحسب، وإنما اعتقادا منا أن قيمة ما سمي ب ” نظرية” صراع الحضارات لا تكمن في مضمونها أو في المفاهيم التي تقوم عليها، وليس أيضا في شكلها ودعامتها المنطقية، وإنما أساسا في كونها جاءت في وقت كان فيه العالم في أمس الحاجة إلى أوهام جديدة، وكونها تدين بقوتها الإقناعية لنفوذ المكان الذي ظهرت فيه. لذا سرعان ما تلقفتها الأفواه والأقلام، وأنهكتها الندوات والجدالات فغدت “مفتاحا” لفهم العصر، بل و”تفسيرا” لكل الأحداث المتأخرة. بل إننا نستطيع أن نقول إن الاجترار الإعلامي قد حولها إلى رأي عام وبادئ رأي كوني.
من أجل ذلك ربما ليس هناك من مبرر لخوض نقاش فلسفي حولها. وربما كانت أحسن وسيلة لنقدها في نظرنا ليس الخوض في جدالات عقيمة حول تحديد المفاهيم التي ارتكزت عليها، ولا محاولة إثبات فسادها المنطقي، أو تهافتها الفلسفي، وإنما فضح آليات عملها.
لا يعني هذا مطلقا نفي مفعول هاته ” النظرية” وإنما التأكيد على أن قيمتها تكمن أساسا في كونها وفرت دعامة نظرية، وأمدت من كانوا بحاجة إلى نظرية لتبرير أفعالهم. ذلك أن هاته “النظرية” لم تكن تستهدف الوقوف عند حركة التاريخ بقدر ما كانت ترمي إلى صنعه ورصد آفاقه والمساهمة في خلق ممكناته. فهي تدخل ضمن آليات جديدة أخذت تطبع عالمنا المعاصر لا هي بالآليات المنطقية ولا بالآليات الإديولوجية، مع ما يفترض فيها من تشويه وقلب، وإنما هي آليات تجعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد على أنها كذلك. إنها آليات تجعل “الواقع” مفعولا لما يقال عنه، وهي الآليات نفسها التي تتحكم اليوم في الإشهار والإعلام واستطلاع الرأي.
وعلى رغم ذلك، فلا يعفينا عدم التوقف عند فحوى “نظرية” صراع الحضارات من الوقوف عند النتائج التي تمخضت عنها وعن الجدال حولها. وما يستوقفنا بهذا الصدد نتيجتان تبلورتا عن هذا المخاض الفكري. أولاهما أن الجدال حول هاته المسألة طرح أمامنا خيارين منفصلين لا ثالث بينهما: إما التسليم بصراع الثقافات، أو القول بالحوار بينها. وهكذا طرح الحوار مقابلا للصراع وبديلا عنه.
-النتيجة الثانية هي أن الصراع أو الحوار طرح بين معسكرين ثقافيين اثنين، مهما اختلفت الأسماء التي أعطيت لهما سواء أكانت التقابل بين الإسلام والغرب، أو معسكر الشر مقابل معسكر الخير.
سنحاول مساءلة هاتين النتيجتين. ولنبدأ بالثنائي صراع/حوار كي نتساءل: ألا يتلبس دوما أحدهما الآخر ؟ هل الحوار هو المقابل الممكن للصراع ؟.
لقد تعودنا القول بأن الحوار طريق سلمي يبدأ بعد أن تهدأ الحروب وتسكت المدافع، وأنه لا ينطوي على علائق قوة، وإنما يخفي سوء تفاهم من شأن تبادل الحجج أن يرفعه. فمقابل اللامعقول الذي يطبع الحروب فإن الحوار يتحكم فيه منطق العقل. ويكفي إبداء حسن النية اللازم والتحلي بخصال الصدق واحترام رأي الآخر كي يرفع سوء التفاهم ويتوصل الطرفان المتكافئان إلى الاتفاق والوفاق والوئام.
لعل ما يتناساه هذا الموقف هو أن أداة الحوار التي هي اللغة هي مرتع تناحر القوى، وميدان مفعولات السلطات. اللغة عش الاختلاف ومجال علائق القوة. فأن تطلق الاسماء، كما يقول نيتشه ” هو أن تكون سيدا ” استراتيجية التسمية هي استراتيجية هيمنة وتسلط، وتاريخ الأشياء هو تاريخ مسميات، وهو بالتالي تاريخ أسماء، وتاريخ الأسماء هو تتابع القوى المستحوذة التي تعطي المعاني وتحدد القيم. ذلك أن اسم الشيء ومعناه هو القوة التي تستحوذ عليه وتتملكه، فالكلمات “هي كميات من القوة في علاقة توتر” ولا يمكن للحوار الذي يوظفها وسيستثمرها إلا أن يجسد علائق القوة ومرامي الهيمنة.
لا يتحدد الحوار إذن بآليات منطقية ودوافع أخلاقية تتوقف على نزاهة المحاور وصدقه وعدم تناقضه ووفائه لما تعهد به، إنه صراع مقنع لتعيين من يحدد المعاني ويطرح الإشكالات ويعرف المفاهيم ويعين الحقائق. إنه حرب على مستوى الكلمة. ولا داعي هنا للإكثار من الأمثلة على ما نقوله، ويكفي أن نتذكر سوء التفاهم العميق الذي طبع، وما زال يطبع، مختلف اللقاءات التي تمت، على مختلف المستويات، لتحديد مفهوم الإرهاب، وتعيين الفعل أو الأفعال التي يمكن أن تسمى إرهابا.
هذا المثال يسمح لنا بالانتقال إلى النقطة الثانية التي أشرنا إليها وهي تتعلق بأطراف الحوار أو طرفي الصراع.
لقد حددت أطراف الصراع من طرف البعض وفق تقسيمات حضارية، أو تحديدات جيوسياسية اتخذت أسماء ذات حمولة أسطورية في بعض الأحيان. والغريب أن هاته التقسيمات المائوية تأتينا من يضعون أنفسهم جهة ثقافة الحداثة والعقلنة والتنوير، إلا أننا سرعان ما نتبين أنهم يصدرون في تحليلاتهم عن أوليات لا تقل اصولية عما ينعتونه هم بالأصوليات. هذا فضلا عن كونهم يستخدمون آليات إيديولوجية لإذكاء مشاعر التفوق وممارسة أدوار الهداية وتغويل الآخر باعتباره حاملا للعنف مسكونا بالإرهاب. كل ذلك في إطار نظرية استعلائية تعتبر الثقافات الأخرى ثقافات تهدد القيم الكونية التي تزعم الثقافة الغربية أنها هي الحامل لها.
إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذا النوع من الفصل الحضاري والجغرافي والثقافي غذا اليوم من قبيل المتعذرات. ذلك أننا أصبحنا اليوم عاجزين عن رسم الحدود في عالم بلا حدود، والبحث عن مرجعيات في فضاء بلا مرجعيات، وعن ألوان خاصة في عالم بلا ألوان، بلا ألوان جغرافية وتجارية وسياسية، ولكن أيضا بلا ألوان ثقافية.
إن ما يميز عالم اليوم، أي العالم وقد اكتسحته التقنية والإعلام هو غياب الاختلاف. أي سيادة التبسيط والأحادية والتنميط الثقافي على الخصوص، كتب كونديرا “تعمل وسائل الإعلام في خدمة توحيد تاريخ الكرة الأرضية، فهي تضخم وتوجه عملية التقليص، إنها توزع في العالم كله نفس التبسيطات والصيغ الجاهزة التي يمكن أن يقبلها أكبر عدد، أن يقبلها مجموع البشرية. ولا يهم أن تعلن مختلف المصالح السياسية عن ذاتها في مختلف وسائلها، فوراء هذا الاختلاف السطحي تسود روح مشتركة. يكفي تصفح الأسبوعيات السياسية الأمريكية والأوروبية، سواء أسبوعيات اليسار أو أسبوعيات اليمين، من التايم إلى شبيجل: فهي تملك جميعا ذات الرؤية عن الحياة، رؤية تنعكس من خلال السلم الذي تنتظم المواد المنشورة فيها بموجبه، في ذات الأبواب، في ذات الصيغ الصحفية، ذات المفردات، ذات الأسلوب، ذات الأذواق الفنية، وفي نفس مراتبية ما تجده هاما أو ما تجده عديم الأهمية. هذه الروح المشتركة هي روح عصرنا”.
لقد أصبحنا ننهل من ثقافة جارية نحو التوحيد: نتغذى الغذاء ذاته، ونرى الصورة عينها، وننفعل الانفعال نفسه. أصبحنا موحدي المظاهر والأذواق والإحساسات والانفعالات. ولا يمكن أن نستثني جهة أو بلدا يكون موجها للعبة متحكما فيها، واعيا بخفاياها، حائكا لخيوطها. فكلنا في النمطية الثقافية سواء.
ليس الصراع اليوم إذن بين معسكرات سياسية ولا بين مناطق جغرافية، وبالأولى ليس بين آلهة الخير وشياطين الشر، إنه ليس حتى صراعا بين داخل وخارج، وإنما بين ثقافتين تتجسدان في الموطن الواحد، بل وعند الفرد الواحد هما ثقافة الحداثة وثقافة التقليد. ذلك أن مواجهة الآخر غدت اليوم أيضا مواجهة مع الذات، لأن مظاهر الحداثة تتخذ اليوم طابعا عضويا وتهاجم التقليد في عقر داره.
إضافة إلى ذلك فإن طرفي الصراع – الحوار لا يشكلان اليوم طرفين قارين ساكنين جاهزين ويدخلان فيما بعد في مواجهة بينهما. ذلك أن ثقافة الحداثة هي انسلاخ دائم عن ثقافة التقليد. إنها حركة انفصال دائبة نحو خلق شبكات مقاومة تحاول الانفلات من التنميط وتسعى نحو خلق الفروق وإحداث الاختلافات.
ولا يمكن لهذه الشبكات أن تنصب من نفسها قوة “تقف” إلى جانب الخير فتعلنها حربا على قوى الشر وإنما تتشابك في علاقة مع ذاتها لذا فإن نقاط ارتكازها تغدو “باطنية” افتراضا بأن كل ثقافة هي وعي ولا وعي، حداثة وتقليد، نمطية وانفلات عنها.
تتشابك في الحوار –الصراع إذن عوامل متداخلة، ويمتزج فيه اللاعقلاني بالعقلاني، والماضي بالحاضر والوعي باللاوعي، والذاتي بالموضوعي، والباطني بالبراني، وكل ذلك من أجل نسج خارج جديد، وإبداع ثقافة ما تفتأ تتجدد.
وبعد،
لم يكن في إمكاننا أمام المسألة المطروحة إلا أن نسلك هذا النهج الفرضي –الاستنباطي الذي يسعى لإثبات فساد المذهب بالتشويش على النتائج التي تتمخض عنه، قاصدين بذلك لا بيان تهافته فحسب، بل ربما حتى عدم أهمية طرحه Non pertinence، منبهين إلى أن الكيفية التي يطرح بها تدخل في إطار التنميط الثقافي الذي أشرنا إليه والذي ما يفتأ يشغلنا بقضايا يتحدث عنها الجميع شرقا وغربا دون أن تكون هي أم القضايا ولا عيون المسائل.